لماذا هزمت الديمقراطية وانتصرت الدولة الاستبدادية
في أزمة ١٩٥٤؟
عماد أبو غازي
انتهى عام
١٩٥٤ بهزيمة كاملة للمعسكر الديمقراطي، وترسخت قواعد الدولة الاستبدادية في مصر،
لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ مصر فتحت ثورة ٢٥ يناير الباب أمام إمكانية إنهائها،
لكنها لم تنجح إلى الآن.
انتهى عام ١٩٥٤ وجميع الأحزاب السياسية الرسمية
قد طالها قرار الحل ومصادرة الأموال وعُزل قادتها البارزين سياسيًا وسجن
بعضهم، كما تعرض أعضاء التنظيمات الشيوعية للملاحقة والاعتقال وصدرت ضد بعض قادتهم
أحكامًا بالسجن من المحاكم العسكرية، فضلًا عن حل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال المئات
من أعضائها وإعدام عدد منهم بأحكام صدرت من محكمة استثنائية عسكرية سميت محكمة
الشعب.
انتهى عام
١٩٥٤ ونقابات الرأي التي تدافع عن الديمقراطية والحريات - نقابة الصحفيين ونقابة
المحامين - مجالسها منحلة وقوانينها معطلة، وعدد من أعضائها البارزين ملاحقين
بالمحاكمات الاستثنائية وقرارات العزل.
انتهى عام ١٩٥٤ ونظام يوليو قد احكم قبضته على
الجامعات طلابًا وأساتذة، بعد أن طالت قرارات التطهير عددًا من أساتذة الجامعات
وعدد من المعيدين المعروفين بمواقفهم المؤيدة للديمقراطية كان بعضهم من المنتمين
للأحزاب القديمة وبعضهم من الاخوان والشيوعيين، وقد عاد بعضهم إلى الجامعة بعد
قرابة العشرين عامًا، كما تمت محاصرة النشاط الطلابي والسيطرة عليه تمامًا لتعيش
الجامعات المصرية التي ظلت لسنوات طويلة مركزًا للنضال الوطني والديمقراطي فترة من
الموات السياسي.
حتى القضاء لم
يسلم من الضربات فقد تم التعدي بالضرب على رئيس مجلس الدولة أثناء أزمة مارس ٥٤ في
رسالة واضحة الى قضاة مصر.
لكن كيف
فشلت القوى الديمقراطية في معركتها؟
المشكلة بدأت قبل
أزمة مارس، بل إن جذورها ترجع إلى ما قبل انقلاب ٢٣ يوليو ٥٢، فقد انقسمت القوى
الديمقراطية منذ اللحظة الأولى، ورأى الخصوم التاريخيين لحزب الوفد أن الانقلاب
العسكري فرصة تاريخية للتخلص من الوفد ومن زعامته الشعبية، الوفد الذي لم يخسر أي
انتخابات نزيهة أجريت منذ دستور ١٩٢٣ حتى مطلع الخمسينيات، ورغم الانشقاقات
والضربات التي تعرض لها الوفد طوال تاريخه، إلا إنه ظل القوة الأكبر على الساحة
السياسية، بل إن الأزمات الكبرى التي تعرض لها الوفد مثل حادثة ٤ فبراير ١٩٤٢ و
الكتاب الأسود الذي اتهم فيه مكرم عبيد قيادة الوفد بالفساد لم تفقد الوفد الكثير
من شعبيته، فقد عاد إلى الحكم بأغلبية برلمانية مريحة في انتخابات ١٩٥٠، وازدادت
شعبيته بعد أن ألغى الزعيم مصطفى النحاس معاهدة ١٩٣٦ مع إنجلترا وساندت حكومته
الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني في القناة، إذن ظل الوفد صاحب النفوذ الأكبر في
الساحة السياسية المصرية.
من هنا
كانت مواقف خصوم الوفد مساندة بدرجات مختلفة لخطوات اتخذها مجلس قيادة الثورة منذ
٥٢ حتى ٥٤ ، وهي خطوات مكنت لانتصار الجناح المعادي لعودة الحياة الديمقراطية،
ومعظم هؤلاء الخصوم كان يفترض أنهم ينتمون إلى المعسكر الديمقراطي، إلا أنهم غلبوا
المنافسة الحزبية الضيقة على الدفاع عن المبادئ الديمقراطية، وتصوروا أن اللحظة
التي سعوا من أجلها طوال سنوات الحقبة الليبرالية في أبعاد الوفد عن الصدارة قد
حانت.
من خصوم
الوفد السياسيين كان الحزب الوطني، هذا الحزب العريق الذي أسسه مصطفى كامل سنة
١٩٠٧ وتصدى لقيادة الحركة الوطنية حتى قيام الحرب العالمية الاولى، وقد تحول في
مرحلة ما بعد ثورة ١٩١٩ إلى حزب صغير قليل التأثير في المعادلة السياسية، وأصبح
الحزب الوطني في أغلب الأحيان حزبًا مناوئًا للوفد، فرأى هذا الحزب والمنتمين إلى
مدرسته من الساسة المصريين أن انقلاب يوليو يمكن أن يخلصهم من الوفد فأسرعوا
بتقديم المشورة القانونية لمجلس قيادة الثورة للتخلص من البرلمان الوفدي المنتخب
والذي كان معطلًا منذ حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢ وإلغاء الدستور دون أن يحل
محله دستور جديد، وهي خطوات شجعت الضباط الأحرار على المضي قدمًا في طريق تصفية
أسس الحياة الديمقراطية، وما كان لهذا أن يتحقق لولا مساندة هؤلاء والصياغة
القانونية التي قدمها عدد من كبار القانونيين من أمثال السنهوري باشا وسليمان
حافظ، بالإضافة إلى مساندة علي ماهر الذي ظل طوال العصر الملكي يلعب دور رجل
السياسة المستقل الجاهز للظهور على المسرح في أوقات الأزمات، ذلك الدور الذي لعبة
مع الضباط الأحرار في الأسابيع الأولى التي أعقبت الانقلاب.
ما يجمع كل هؤلاء
ممن يعتبرون أبناء للمرحلة الليبرالية خصومتهم مع الوفد وعدائهم له.
أما القوة
الثانية المعادية للوفد والتي لعبت دورًا مهما في هزيمة الديمقراطية فكانت جماعة
الإخوان المسلمين، والتي تعاملت منذ البداية على أن حركة الضباط الأحرار حركتهم،
وسعت إلى بسط نفوذها على قراراتها ومن ثم لم تعارض الخطوات الأولى لتصفية
الديمقراطية التي بدأت منذ أواخر عام ٥٢، بل شجعتها، لأن عداء الجماعة للديمقراطية
أصيل، لكن عندما بدأت الإجراءات تطال الجماعة في يناير ١٩٥٤ تغير الموقف، لكن
الجماعة سرعان ما عادت إلى موقف التغاضي عن تصفية الديمقراطية في نهاية مارس ٥٤ في
إطار الصفقة التي عقدوها مع جمال عبد الناصر، عندما لوح لهم بحريتهم في التحرك
مقابل الصمت عن التراجع عن قرارات ٥ و٢٥ مارس الديمقراطية.
ومن
سخريات القدر أن القوى التي ساندت الاستبداد كانت أكثر من اكتوى بناره، سواء فقهاء
القانون الذين قدموا السند التشريعي لهدم أسس الديمقراطية، أو جماعة الإخوان التي
صمتت في اللحظة الحاسمة.
الأمر الآخر الذي
أدى إلى فشل القوى الديمقراطية في معركتها، تفرقها والعمل بمبدأ السكوت عن أي إجراء
معادي للديمقراطية ما دام لا يمسسني مباشرة.
هكذا نجح
خصوم الديمقراطية بعد عامين ونصف من قيام انقلاب ٢٣ يوليو في توطيد سلطتهم والتخلص
من كل القوى الديمقراطية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق