دي المقالة الأولى من
مجموعة مقالات نشرتها من تلت سنين في جريدة الشروق، باعيد نشرها بمناسبة الذكرى 61
لأزمة مارس 54
أزمة
مارس 1954 والطريق إلى الاستبداد
مقدمات
الأزمة
في مثل هذه الأيام منذ 58 سنة عاشت مصر في أجواء أزمة سياسية كبرى، إنها
الأحداث التي عرفت في التاريخ المصري الحديث باسم "أزمة مارس"، والتي
بدأ الحديث عن "دروسها" يتردد في الخطاب السياسي في مصر في الأيام
الأخيرة. إنها الأزمة التي انتهت قبل أن ينطوي عام 1954 بترسيخ أسس الدولة الشمولية
الاستبدادية التي صادرت الحريات السياسية والتي قامت ثورة يناير 2011 لتحيي الآمال
في ضع الوطن على أول الطريق لهدم أسسها وبناء الدولة الديمقراطية مكانها، لكن هل
ستحقق الثورة هدفها؟ لنحاول
أن نقرأ التاريخ معًا ونتعرف على "درس" الماضي.
عندما قام الضباط الأحرار بانقلابهم ليلة
الأربعاء 23 يوليو 1952 لم يطرحوا رؤية متكاملة للنظام السياسي للمرحلة التالية،
لقد صدرت عدة بيانات عامة تتحدث عن فساد النظام وتأثيره على الجيش، وعن قيام
مجموعة من الضباط بتطهير الجيش من الفاسدين، حتى عزل الملك لم يعلن إلا بعد ثلاثة
أيام، النص الوحيد المتعلق بالنظام السياسي ورد فيما يعرف بالمبادئ الستة والذي
ينص على "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"، الأمر الذي لم يتحقق طوال ستين
عامًا من عمر النظام الذي جاءت به الحركة المباركة، كما أطلق عليها أصحابها في
البداية.
لكن الأيام والأسابيع الأولى بعد نجاح حركة
الضباط الأحرار كشفت عن اتجاه متنامي لهدم النظام القائم على التعددية السياسية
وتداول السلطة عبر صناديق الانتخاب، بدلًا من تخليص هذا النظام من عيوبه التي ظهرت
طوال العقود الثلاثة السابقة منذ صدور دستور 1923، وأبرز هذه العيوب تعدي القصر
على الدستور وخرقه له وتزويره الانتخابات لإبعاد حزب الوفد حزب الأغلبية.
ويذكر الدكتور عبد العظيم رمضان في دراسته
المهمة عن أزمة مارس 1954 والتي صدرت في عام 1976 أن أول خطوة في الطريق إلى
الاتجاه الدكتاتوري جاءت في يوليو 1952 بعد عزل فاروق وتنازله عن العرش لابنه
الرضيع أحمد فؤاد الثاني، فوفقًا لما يقضي به الدستور كان لابد أن يدعى البرلمان
لإقرار تعيين مجلس الوصاية على العرش وأداء الأوصياء لليمين القانونية في اجتماع
مشترك لمجلسي البرلمان، وكان حزب الوفد يحظى بالأغلبية في البرلمان المعطل منذ
شهور بعد حريق القاهرة، لكن خصوم الوفد من السياسيين القدامى زينوا للضباط الأحرار
خرق الدستور وعدم دعوة البرلمان للانعقاد، فدقوا بذلك المسمار الأول في نعش
الديمقراطية وقادوا مصر إلى طريق الاستبداد الذي تجاهد اليوم للخروج منه.
ففي 31 يوليو 1952 اتجه مكرم عبيد رئيس حزب
الكتلة الوفدية إلى مجلس الوزراء ليلتقي علي ماهر رئيس الوزراء وسليمان حافظ نائب
رئيس مجلس الدولة ومستشار مجلس الوزراء مطالبًا بعدم دعوة البرلمان للاجتماع
وإجراء انتخابات لبرلمان جديد يختاره الشعب ليقر تشكيل مجلس الوصاية على العرش،
وفي اليوم التالي اختارت اللجنة العليا للحزب الوطني فتحي رضوان رئيسًا للحزب،
وأعلنت رفضها لدعوة البرلمان باعتباره جزء من النظام الفاسد وإن في دعوته مخالفة
للدستور، وذهب الإخوان المسلمون خطوة أبعد حيث اعتبروا أن الدستور لم يعد له وجود
من ناحية الواقع ولا من ناحية الفقه، ومن ثم فلا معنى لدعوة البرلمان الوفدي أو أي
برلمان آخر، وطالبوا بدستور جديد يستمد مبادئه من مبادئ الإسلام الرشيدة في كافة
شئون الحياة.
مكرم عبيد
وعلى صعيد آخر بدأ مجموعة من القانونيين يروجون
لما سُمى الفقه الثوري والشرعية الثورية، مبررين بهما عدم دعوة البرلمان المنتخب
انتخابًا حرًا ديمقراطيًا، وكان من هؤلاء الدكتور السيد صبري وسليمان حافظ
والدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة، وكانوا من الخصوم السياسيين
للوفد، فانعقدت الجمعية العمومية لقسم الرأي بمجلس الدولة وانتهت إلى عدم دعوة
البرلمان وحق الحكومة في إدارة البلاد دون برلمان لأي مدة ترتئيها! وقد صدرت
الفتوى بأغلبية تسعة أعضاء ومعارضة عضو واحد هو الدكتور وحيد رأفت.
عبد الرزاق السنهوري ونجيب
الدكتور وحيد رأفت
وبالطبع كان علي ماهر العدو التاريخي للوفد داعمًا
لهذا الاتجاه الذي أقره مجلس قيادة الثورة بالأغلبية.
علي ماهر ونجيب
وبين يوليو 1952 ومارس 1954 توالت الخطوات على
طريق دولة الاستبداد، بداية من الدعوة في نهاية يوليو 52 لتطهير الأحزاب وصولًا
إلى حلها بحجة أنها لم تطهر نفسها كما يجب، مرورا بفض اعتصام عمال كفر الدوار
بالقوة ومحاكمة قياداتهم أمام محاكم عسكرية وإعدام عاملين هما مصطفى خميس ومحمد
البقري في أغسطس 52.
الشهيد مصطفى خميس قبل إعدامه
ثم في سبتمبر بدأت حملة اعتقالات واسعة لعدد من الساسة
القدامى، وفي نفس الشهر بدأت إجراءات فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي فيما عرف
باسم التطهير، وفي ديسمبر أعلن محمد نجيب سقوط دستور 1923، وفي يناير 1953 صدر
مرسوم بتأليف لجنة من خمسين عضوًا لوضع دستور جديد "يتفق وأهداف
الثورة"، ولم يصدر الدستور.
وكما شهد عام 1953 في شهر يونيو إلغاء الملكية
وإعلان الجمهورية، فقد شهد ذلك العام أيضًا، وفي شهر يناير صدور قرار حل الأحزاب
السياسية ومصادرة أموالها باستثناء الإخوان المسلمين، وإعلان مرحلة انتقالية تمتد
لثلاث سنوات، كما شهد الشهر نفسه تولي مجلس قيادة الثورة بنفسه محاكمة ضابطين من
ضباط الجيش بتهمة إثارة الفتنة في القوات المسلحة، والحكم على أحدهما بالإعدام رميًا
بالرصاص ثم تخفيف الحكم إلى المؤبد وفصل الثاني من الخدمة، وتكرر المشهد في مارس
في محاكمة القائم مقام رشاد مهنا وأحد عشر ضابطًا بنفس التهمة، وفي شهر سبتمبر تم
تشكيل محاكم الثورة أول المحاكم الاستثنائية في ظل النظام الجديد.
وفي مطلع عام 1954 بدأت البلاد تدخل في أزمة
سياسية جديدة، كانت أول بوادرها انتهاء شهر العسل بين مجلس قيادة الثورة وجماعة
الإخوان المسلمين، وصدور قرار مجلس قيادة الثورة في 14 يناير 1954 بحل الجماعة بتهمة
التآمر مع رجال السفارة البريطانية، فذاقت الجماعة من نفس الكأس الذي ذاقت منه
الأحزاب السياسية، وتم اعتقال أكثر من 400 من أعضائها.
وخلال شهر فبراير 54 ظهر على السطح الخلاف بين
الرئيس محمد نجيب وأعضاء مجلس قيادة الثورة من الضباط الشبان، هذا الخلاف الذي تصاعد
يوم 23 فبراير، ووصل إلى إعلان قبول استقالة محمد نجيب من جميع مناصبه يوم 25
فبراير 1954، وتعيين جمال عبد الناصر رئيسًا لمجلس قيادة الثورة ورئيسًا لمجلس
الوزراء، لكن قبل أن ينتهي شهر فبراير كان محمد نجيب قد عاد مرة أخرى رئيسًا
للجمهورية في 27 فبراير 1954.
هذه الأيام الخمسة من شهر فبراير هي التي شكلت
أحداث أزمة مارس 54، هذه الأزمة التي حددت مصير مصر لقرابة 60 عامًا باعدت بينها
وبين الديمقراطية.
فما الذي حدث في تلك الأيام الخمسة؟ للحديث
بقية...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق