مارس 54: صراع الديمقراطية والاستبداد... أيام
الاحتشاد
عماد أبو غازي
عبد الناصر مع قادة الإخوان
ونتيجة لهذه الصفقة لم يشارك الإخوان في المعركة
الأخيرة للدفاع عن الديمقراطية، بل خطب المرشد العام حسن الهضيبي في الجماهير يوم
30 مارس 1954 مهاجمًا الأحزاب ومن يطالبون بعودتها، واصفًا عملها بأنه كان عمل
لوجه الشيطان.
ويقول أبو رقيق في حواره مع الدكتور عبد العظيم
رمضان والذي نشر أجزاء منه في كتابه عن عبد الناصر وأزمة مارس 1954، "إنه
عندما جرى كلام بين الإخوان وعبد الناصر حول عودة الحياة النيابية والأحزاب، سئلنا:
هل تريدون عودة الحياة النيابية والأحزاب؟ فأجبنا بالإيجاب، فقال: لكي يعود حكم
زينب الوكيل؟ (زوجة الزعيم مصطفى النحاس) قلنا: إن الحياة النيابية تعني إطلاق
الحريات، قال: وماذا يهمكم إذا كنتم أنفسكم أحرارا؟"، أما الرئيس محمد نجيب
فيفسر موقف الإخوان في مذكراته قائلا: "إن الإخوان المسلمين في لقائهم مع
جمال عبد الناصر، لابد أنهم كانوا يفكرون بعقلية المعتقل الذي تحرر من سجنه، ويريد
أن يوازن بين أموره دون تورط، وكان ذلك إيذانًا بانتهاء دورهم."
أما عبد العظيم رمضان فقد لخص الموقف بعد عشرين
عامًا بعبارة بسيطة قال: "إن الاتفاق لم يتجاوز الوقوف موقفًا سلبيًا من
الصراع، لكن هذا الموقف السلبي كان يساوي تمامًا تسديد الإخوان المسلمين الحراب
إلى صدر محمد نجيب وصدر الحياة الليبرالية في مصر."
الدكتور السنهوري
ومن الجدير بالذكر هنا أن الدكتور السنهوري رئيس
مجلس الدولة لعب هو الآخر دورًا في هذا الأمر، حيث التقى بالقيادي الإخواني عبد
الحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة يوم 26 مارس ليناقش معه مدى إمكانية تجاوز
الإخوان عن الخلافات ليلتقوا مع جماعة الثورة، والرواية ذكرها عابدين في مقال له
بجريدة الأخبار عام 1975 بعنوان: "لم يضربوا السنهوري لأنه اجتمع
بالإخوان".
زكي مراد ونبيل الهلالي من قادة الحركة الشيوعية المصرية (الصورة من السبعينيات)
وقد حاول عبد الناصر خوض نفس التجربة مع
المعتقلين في السجن الحربي من قادة تنظيم حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني)
أكبر تنظيمات الحركة الشيوعية، فأرسل إليهم مندوبين للتفاوض معهم، محاولين إقناعهم
بتأييد مجلس الثورة في مواجهة "الرجعية" التي تحاول أن تنقض على مصالح
الثورة مثل قانون الإصلاح الزراعي، وطرد الجيش من الحكم بالتركيز على المطالب
الديمقراطية، وإنه لا توجد ديمقراطية في بلد مستعمر، وعرضوا عليهم الإفراج عنهم
مقابل إصدارهم لبيان تأييد لمجلس قيادة الثورة واستنكار للحركة القائمة ضده، وكان
رد الشيوعيين المعتقلين: إنه لا يمكن تعبئة القوى الوطنية بدون الحريات
الديمقراطية، وقد أصدر المعتقلون من داخل السجن الحربي بيانًا تحدثوا فيه عن
العلاقة بين النضال الوطني ضد الاستعمار وتأمين المكاسب الاجتماعية وتأمين الحياة
الديمقراطية، وقد رفضت قواعد تنظيم حدتو ولجنته المركزية المؤقتة البيان لأنه لم
يتضمن النص الواضح على عودة الجيش لثكناته، الذي كان شعار المرحلة.
ولم يتم بالطبع الإفراج عن القادة الشيوعيين
بخلاف ما حدث مع قادة الإخوان، بل تم نقلهم من السجن الحربي إلى سجن مصر، وكان هذا
تطورًا إيجابيا بالنسبة لهم، وبعد عدة أشهر تمت محاكمتهم أمام محكمة عسكرية خاصة
(محكمة الدجوي الشهيرة) وصدرت ضدهم أحكام بالسجن ولم يفرج عن بعضهم إلا بعد أكثر
من عشر سنوات.
ونلاحظ هنا كيف استخدم مبعوثو عبد الناصر لغة
مختلفة مع كل طرف، فقد لوحوا للإخوان بأن الديمقراطية ستعيد حزب الوفد الذي يشكل
الخطر الحقيقي على امتداد نفوذهم في وسط الجماهير، بينما استخدموا مع الشيوعيين
لغة الحرص على المكاسب الاجتماعية.
أما باقي التنظيمات الشيوعية خاصة الحزب الشيوعي
المصري وطليعة العمال فقد كانت مواقفهم حاسمه إلى جانب عودة الديمقراطية، ولم يكن
هناك مجال للحوار مع قادتهم.
أما حزب الوفد فرغم الضربات التي وجهت لقيادته
التاريخية كانت عناصره في الشارع وفي الجامعات والنقابات المهنية تشكل القوة
الأساسية المطالبة بعودة الديمقراطية والمساندة لمحمد نجيب.
وفي جبهة المدافعين عن الديمقراطية كان الحشد
يتصاعد من اليوم التالي لقرارات 25 مارس، ففي يوم 26 مارس خرجت المظاهرات
المؤيدة للديمقراطية في الشوارع، خاصة في المناطق العمالية، في شبرا وحلوان، وسيطر
المتظاهرون على الشارع منذ الصباح، وكان اليوم يوم جمعة، واستمرت المظاهرات بعد
صلاة الجمعة حتى العصر، وقد شاركت فيها قوى سياسية مختلفة، ولعب العمال الشيوعيون
المنتمون إلى تنظيم طليعة العمال الذي نجا من الضربات البوليسية دورًا مهمًا فيها.
وفي نفس اليوم اجتمع مجلس نقابة
الصحفيين واتخذ عدة قرارات طالب فيها بإنهاء الأحكام العرفية فورًا، وإلغاء
الأحكام التي صدرت عن محاكم استثنائية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وتشكيل
حكومة جديدة تدير المرحلة الانتقالية وتمهد للانتخابات.
أما نقابة المحامين فقد عقدت جمعية
عمومية غير عادية، تبنت فيها نفس المطالب التي رفعها مجلس نقابة الصحفيين، كما
طالبت النيابة العامة بالتحقيق مع ضباط البوليس الحربي والمسئولين عن السجن الحربي
وعلى رأسهم البكباشي أحمد أنور بسبب الاعتداءات التي وقعت على المعتقلين في السجن
الحربي ومن بينهم أحمد حسين وعمر التلمساني وعبد القادر عودة، وقررت الجمعية
العمومية الإضراب العام يوم 28 مارس وتسجيل الاحتجاج على ما تعرض له المعتقلون من
اعتداءات في محاضر جلسات المحاكم، وكان الصحفي أبو الخير نجيب قد نشر في صحيفة
الجمهور المصري وقائع ما تعرض له المعتقلون في السجن الحربي من اعتداءات.
وفي يومي 27 و28 مارس عقد أعضاء
هيئات التدريس في الجامعات المصرية الثلاث: الإسكندرية والقاهرة وإبراهيم (عين شمس
فيما بعد)، اجتماعات اتخذوا فيها قرارات تطالب بإلغاء الأحكام العرفية فورًا، وحل
مجلس قيادة الثورة وإطلاق الحريات وعودة الحياة الدستورية.
أما الطلاب فقد عقدوا مؤتمرًا وطنيًا
بجامعة القاهرة أعلنوا فيه تأليف جبهة الاتحاد الوطني التي تضم الوفديين
والاشتراكيين والشيوعيين والإخوان المسلمين، وأكدوا فيه على نفس المطالب التي
رفعتها النقابات وجمعيات أعضاء هيئات التدريس. ومن الجدير بالملاحظة أن موقف طلاب
الإخوان كان مختلفًا عن موقف الجماعة وقيادتها بمشاركتهم في الجبهة، فقد اتخذت قيادة الجماعة موقفًا محايدًا في اللحظة الحاسمة من
الصراع بناء على صفقتهم التي عقدوها مع عبد الناصر.
أما داخل
تنظيم الضباط الأحرار والأسلحة المختلفة فقد ظل الانقسام قائمًا بين أنصار
الديمقراطية، وأنصار مجلس قيادة الثورة.
بدأ أنصار نجيب يتوافدون عليه في مقره معلنين
تأيدهم له واستعدادهم للتدخل ضد مجلس قيادة الثورة، كما اقترح البكباشي جلال ندا ـ وكان من الضباط المعروفين بمواقفهم الوطنية
قبل انقلاب يوليو ـ أن يصدر الرئيس محمد نجيب بيانًا بحل مجلس قيادة الثورة وإقالة
الوزارة وتشكيل وزارة قومية برئاسة الدكتور السنهوري رئيس مجلس الدولة، وتكوين
مجلس رئاسي مدني برئاسة بهي الدين بركات وعضوية أحمد لطفي السيد وسليمان حافظ، وقد
أملى نص البيان المقترح على السيد صلاح الشاهد ليبلغه لنجيب يوم 26 مارس. وكان القائمقام
يوسف صديق قد توجه إلى منزل نجيب المجاور لمنزله بالزيتون، يوم 23 مارس واقترح
عليه تشكيل حكومة إئتلافية برئاسة الدكتور وحيد رأفت تضم الوفد والإخوان المسلمين
والشيوعيين والاشتراكيين، تشرف على إجراء انتخابات برلمانية جديدة، ويوسف صديق
يعتبر صاحب الفضل الأول في نجاح الضباط الأحرار فجر الأربعاء 23 يوليو 1952، وكان معروفًا
بميوله اليسارية، كما كان من أكثر ضباط يوليو مناصرة للديمقراطية، وقد استقال في
عام 1953 احتجاجًا على المواقف المعادية للديمقراطية، وتعرض للإبعاد عن القاهرة ثم
لتحديد إقامته.
يوسف صديق
وفي
ذات الوقت تحركت المجموعة الثانية المناصرة لاستمرار مجلس قيادة الثورة، ووفقًا
لرواية عبد الرحمن الرافعي في كتابه ثورة 23 يوليو 1952، فقد عقدوا اجتماعات مع
الضباط واتخذوا قرارات بالاعتصام في الثكنات إلى أن تلغى قرارات 5 و25 مارس،
وحملوا مجلس قيادة الثورة المسئولية.
*****
لقد انقسمت مصر إلى معسكرين كل واحد منهما في
مواجهة الآخر، وكانت القوة التي يراهن عليها طرفي المعركة لتحقيق النصر هي
النقابات العمالية التي كانت أغلبها قد أعلنت المشاركة في إضراب عام يوم 28 مارس
لإعادة الديمقراطية فورًا.
كيف جرت الأحداث في تلك الأيام الحاسمة إلى أن
وصلت إلى تصفية الديمقراطية؟ هذا حديث آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق