9
مارس... يوم له تاريخ
النهارده 9 مارس ذكرى مناسبات كتيرة
في تاريخ مصر، في اليوم ده سنة 1919 كانت بداية الثورة اللي انفجرت أول ما
المصريين عرفوا بخبر نفي سعد وزمايله.
وفي يوم 9 مارس سنة 1932 استقال أحمد لطفي السيد
مدير الجامعة المصرية من منصبه، وكانت استقالته احتجاج على عزل الدكتور طه حسين من
عمادة كلية الآداب لما رفض أوامر الوزير إنه يدي الدكتوراه الفخرية لواحد هو شاف
إنه ما يستحقهاش، ومن حوالي عشرين سنة أصبح اليوم ده اسم لحركة أساتذة الجامعة
للدفاع عن استقلال الجامعات، اللي كانت في الأصل فكرة جت بمبادرة من زميلنا الدكتور
هاني الحسيني في علوم القاهرة.
وفي 9 مارس 1969 استشهد الفريق أول عبد المنعم
رياض رئيس أركان الجيش المصري على الجبهة في القناة، ومن يومها مصر بتحتفل باليوم
ده كيوم للشهيد.
وللأسف في اليوم ده سنة 2011 وفي عز الثورة حصلت
أحداث تعذيب الشباب في المتحف المصري وكشوف العذرية.
*****
تدوينة النهارده عن 9 مارس 1919
الطريق إلى الثورة... مصر في حركة
عماد أبو غازي
البداية الحقيقية
لأحداث ثورة 1919 كانت زيارة سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلى شعراوي لدار المعتمد
البريطاني يوم 13 نوفمبر 1918 للمطالبة بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لهم بالسفر
ممثلين للشعب المصري في مؤتمر الصلح بباريس.
وبعد هذه
الزيارة بدأت جهود تشكيل الوفد المصري، ككيان سياسي يمثل المصريين ويحمل مطلبهم في
تحقيق استقلال بلدهم. وبدأت الجهود لحشد الشعب وراء الوفد.
كانت الخطوة
الأساسية على طريق حشد الشعب المصري وتنظيمه في اتجاه الثورة حركة جمع التوقيعات
على توكيل الوفد المصري في السعي من أجل استقلال البلاد، لقد أتى رفض سلطات
الاحتلال الاعتراف بسعد وزملائه كوفد يمثل الأمة بعواقب وخيمة على الاحتلال، فكانت
الفكرة البسيطة والعبقرية في ذات الوقت هي أن يحصل الوفد على تفويض أو توكيل من
الأمة بتمثيلها في التفاوض من أجل استعادة حرية البلاد، وكان جمع التوقيعات من
المصريين فردًا فردًا سبيل الوفد إلى توحيد الشارع المصري خلف السعي نحو
الاستقلال، وكان بداية الطريق إلى ترسيخ قيادة الوفد للأمة، وإبراز سعد زغلول
كزعيم للحركة الوطنية المصرية.
فبعد أن أقر الوفد صيغة التوكيل النهائي في
أعقاب الحوار الذي دار بين سعد وأعضاء من الحزب الوطني في بيت سعد الذي أصبح بيتًا
للأمة، انطلقت حركة جمع التوقيع على التوكيلات بطول البلاد وعرضها، ومعها انطلقت
روح جديدة في الأمة، وبدأت حركة التوقيعات على التوكيلات بعد طبعها، ووزعت
التوكيلات أولًا على أعضاء الهيئات النيابية، ثم امتد توزيعها بين مختلف الجماعات
والتجمعات، وسرعان ما انتشرت حركة جمع التوقيعات على التوكيل من القاهرة إلى المدن
والقرى في شمال البلاد وجنوبها، وشاعت الحركة بين مختلف طبقات الأمة.
ويجمع المؤرخون الذين درسوا ثورة 1919 وأرخوا
لها على أن الموقف الوطني لحكومة حسين باشا رشدي ساعد على انتشار الحركة واتساعها،
فقد كانت حركة الوفد المصري تتم بالتنسيق الكامل بين سعد وزملائه من ناحية ورئيس
الوزراء حسين رشدي وعدلي يكن أهم أركان وزاراته من ناحية أخرى، وكان هناك دعم واضح
من الحكومة لحركة التوكيلات، كان الجميع يوقن أن هناك هدفًا مشتركًا يتمثل في
الوصول إلى استقلال البلاد، وإن التكاتف والتعاون والوحدة سبيلًا وحيدًا لتحقيق
هذا الهدف.
حسين باشا رشدي
لقد أصدر رئيس الحكومة ووزير الداخلية حسين باشا
رشدي تعليمات صريحة إلى مديري الأقاليم بعدم التعرض لحركة التوقيع على توكيل
الوفد، ولا شك في أن هذا الموقف دعم الحركة وطمأن الناس ودفعهم للتوقيع على
التوكيل بسهولة ويسر.
وفي نفس الوقت الذي بدأت فيه حركة جمع التوقيعات
في النصف الثاني من شهر نوفمبر سنة 1918، وفي 20 نوفمبر 1918 على وجه التحديد، تقدم
سعد زغلول بطلب لقيادة الجيش البريطاني في مصر بالتصريح له بالسفر إلى إنجلترا هو
وزملاؤه لعرض القضية المصرية، لقد كانت البلاد خاضعة للأحكام العرفية ولا يصرح
لمصري بالسفر للخارج إلا بإذن السلطة العسكرية.
في نفس اليوم 20
نوفمبر سنة 1918 كتب أمين بك الرافعي العضو القيادي البارز في الحزب الوطني
والشقيق الأكبر للمؤرخ عبد الرحمن الرافعي مذكرة عن المسألة المصرية، عرض فيها
قضية البلاد بشكل وافي من النواحي السياسية والقانونية، جمع فيها بين خبرة السياسي
وحنكة المحامي وبلاغة الكاتب الصحفي، وقد ترجمها إلى الفرنسية وقدمها لمعتمدي
الدول الأجنبية في مصر، لإبلاغها إلى الرئيس الأمريكي ويلسن وإلى بقية رؤساء
الحكومات المشتركة في مؤتمر الصلح، وفي نفس الوقت نشر أصلها بالعربية بين الساسة
المصريين وفي صفوف الشباب المهتمين بالقضية الوطنية، وقد نشر عبد الرحمن الرافعي
نص المذكرة في كتابه "ثورة 1919" وشغلت المذكرة 20 صفحة من صفحات
الكتاب.
الزعيم محمد فريد
كان رجال الحزب
الوطني في مصر يعملون من جانبهم على الدعاية بشكل مواز ومستقل للقضية المصرية. حقا
لقد انضم منتمون للحزب الوطني ومتعاطفون مع خطه للوفد المصري بعد أن قام سعد
بزيادة أعضاء الوفد، لكن هذا لم يحل دون استمرار رجال الحزب في حركتهم المستقلة في
الدعاية للقضية المصرية بمنطقهم الجذري، ولم تكن مذكرة الرافعي هي الجهد الوحيد
للحزب الوطني، كان الزعيم محمد فريد يجوب المحافل الدولية ويسعى من خلالها لطرح
القضية داعيًا إلى استقلال البلاد استقلالًا تامًا، ولما عقد مؤتمر الصلح في باريس
أرسل محمد فريد وزملاؤه من أعضاء اللجنة الإدارية للحزب الوطني الذين كانوا في
سويسرا تقريرًا في 5 ديسمبر 1918 إلى الرئيس ويلسن عقب وصوله إلى باريس وأعقبوه
بتقريرين آخرين في أواخر ديسمبر 1918 وأوائل يناير 1919، وقد رد سكرتير الرئيس
ويلسن على فريد في 21 يناير بخطاب يؤكد
فيه تسلم الرئيس للمذكرة الموقعة من فريد وأعضاء اللجنة الإدارية للحزب الوطني في
سويسرا، ويعده بأن تلقى المسألة المصرية عناية الرئيس الخاصة، وكان لتحركات فريد
ورجال الحزب الوطني في الخارج أصداؤها في الداخل، مثلما كانت لكتابات رجاله
ونشاطهم في الداخل أصداؤها أيضا.
لقد كانت مصر
كلها تتحرك، فماذا كان رد فعل سلطات الاحتلال؟
الوفد وكيل الأمة
ويبدو أن سلطات
الاحتلال البريطاني لم تدرك للوهلة الأولى خطورة الحركة، ولم تكن تتصور الاستجابة
الشعبية الهائلة لسعي الوفد المصري من أجل تحقيق استقلال البلاد، لكن التوكيلات
وصلت إلى 2 مليون توكيل في شعب كان تعدده 14 مليونًا، وفقًا لما ذكره المؤرخ
المصري المعاصر لأحداث الثورة محمد صبري الشهير بالسوربوني، في الجزء الأول من
كتابه "الثورة المصرية" الذي ألفه بالفرنسية أثناء الثورة، وصدر في
فرنسا في إطار حملة الدعاية للثورة التي نظمتها الجمعية المصرية بباريس. لقد أثبت
نجاح حركة التوكيلات إجماع الأمة على الالتفاف حول الوفد المصري ومؤازرة مطالبه
بالسفر إلى إنجلترا وفرنسا للدفاع عن القضية المصرية وعرض مطالب الأمة.
كانت السلطات
البريطانية في مصر تكتفي بالمماطلة في الرد على طلب سعد وأعضاء الوفد المصري
بالسفر، وتمنيهم بأن الأمر محل دراسة، نفس الشيء فعلته مع رشدي باشا وعدلي يكن
باشا، لكن اتساع حركة التوقيع على التوكيلات وانضمام ضباط الجيش والموظفين
العموميين لها، ومباركة الحكومة للحركة دفعت السلطات البريطانية لتغيير موقفها،
فقد شعرت سلطات الاحتلال البريطاني بخطورة الحركة فقررت التصدي لها، فأصدر المستر
هينز المستشار الإنجليزي لوزارة الداخلية أوامره إلى مديري المديريات باستخدام
القوة لمنع حركة التوقيعات وبمصادرة التوكيلات.
وجاء رد سعد
زغلول في رسالة وجهها إلى حسين رشدي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية يوم 23
نوفمبر 1923 أوردها عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919، قال فيها:
"حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء ووزير الداخلية
أتشرف بأن أرفع لدولتكم ما يلي: لا يخفى على
دولتكم أنه على أثر فوز مبادئ الحرية والعدل التي جاهدت بريطانيا العظمى
وشركاؤها لتحقيقها، ألفت مع جماعة من ثقات الأمة ونوابها وأصحاب الرأي فيها وفدا
لينوب عنها في التعبير عن رأيها في مستقبلها تطبيقا لتلك المبادئ السامية، لذلك
شرعنا في جمع هذا الرأي بصيغة توكيل خاص، فوق ما لكثير منا من النيابة العامة،
فأقبل الناس على إمضاء هذا التوكيل إقبالًا عظيًما مع السكينة والهدوء، هذا أقل
مظهر نعرفه من مظاهر الإعراب عن رأي الأمة في مصيرها، لكنه قد اتصل بنا أن وزارة
الداخلية قد أمرت بالكف عن إمضاء هذه التوكيلات، ونظرًا إلى أن هذا التصرف يمنع من
ظهور الرأي العام في مصر على حقيقته، فيتعطل بذلك أجل مقصد من مقاصد بريطانيا
العظمى وشركائها، وتحرم الأمة المصرية من الانتفاع بهذا المقصد الجليل، ألتمس من
دولتكم باسم الحرية والعدل أن تأمروا بترك الناس وحريتهم يتمون عملهم المشروع،
وإذا كانت هناك ضرورة قصوى ألجأت الحكومة على هذا المنع، فإني أكون سعيدًا لو
كتبتم لي بذلك حتى نكون على بصيرة من أمرنا، ونساعد الحكومة بما في وسعنا على الكف
عن إمضاء تلك التوكيلات.
وفي انتظار الرد تفضلوا يا دولة الرئيس بقبول
شكري سلفا على تأييد مبادئ الحرية الشخصية وعظيم احترامي لشخصكم العظيم.
الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية ورئيس الوفد
المصري
سعد زغلول"
وعندما بلغ
قيادات الوفد قيام السلطات بمصادرة التوكيلات الموقعة، أرسل سعد خطابا ثانيا إلى
رشدي يوم 24 نوفمبر 1918 يشكو فيه من "أن رجال الحكومة لم يقتصروا على منع
التوقيع على التوكيلات بل تجاوزوه إلى مصادرة ما تم التوقيع عليه منها..."
ووفقا لتفسير
الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه "تطور الحركة الوطنية" فإن الهدف من
الخطابين كان إثبات واقعة المصادرة أكثر مما كان الهدف منهما وقف إجراءات منع حركة
التوكيلات.
وفي اليوم
التالي يوم 25 نوفمبر 1918 رد حسين باشا رشدي على سعد زغلول مؤكدًا أن المصادرة
جاءت بأوامر من المستشار البريطاني استنادًا إلى استمرار الأحكام العرفية...
واستمرت حركة
التوكيلات فقد شعر رجال الإدارة أن الحكومة توافق عليها وتساندها فتراخوا في
التصدي لها.
وفي يوم 28
نوفمبر 1918 أرسل سعد إلى السلطات العسكرية البريطانية يستعجل التصريح له بالسفر،
فجاءه الرد بعد يوم واحد بأنه "قد عرضت صعوبات تمنع من إجابته إلى طلبه في
الوقت الحاضر، ومتى زالت تلك الصعوبات تبادر بإعطائه وصحبه الجوازات التي
يطلبونها..."
كشف الجواب
نوايا السلطة العسكرية البريطانية تجاه قضية سفر الوفد المصري، ومدى استهانة سلطات
الاحتلال بالشعب وبإرادته، فخاطب سعد المندوب السامي البريطاني في نفس اليوم مطالبًا
إياه بتذليل الصعوبات أمام سفر الوفد المصري ليتمكن من الوصول إلى لندن قبل موسم
الأعياد في الأسبوع الأخير من ديسمبر، عندئذ أسفرت دار الحماية عن موقفها وأبلغت
سعد بخطاب رسمي في 1 ديسمبر برفض سفره هو وزملاؤه، وإن عليهم أن يقدموا تصوراتهم
كتابة إلى المندوب السامي البريطاني بمصر، على أن لا تخرج تلك المقترحات عن الخطة
التي رسمتها الحكومة البريطانية لمستقبل مصر.
"كان الشعب المصري أسيرًا داخل حدوده".
هكذا وصفت مجلة
أوروبا الجديدة حال الشعب المصري عقب الحرب العالمية الأولى، لقد انتهت الحرب لكن
الأحكام العرفية ظلت قائمة في البلاد، لم يكن أحد من المصريين يستطيع السفر إلى
خارج البلاد إلا بتصريح من السلطة العسكرية البريطانية، حتى لو كان المسافر الوكيل
المنتخب للجمعية التشريعية سعد زغلول، بل أن رئيس الوزراء المصري حسين باشا رشدي
كان هو الآخر يحتاج لمثل هذا التصريح، وعندما تقدم هو وعضو حكومته عدلي يكن باشا
بطلب للسفر لإنجلترا للتفاوض، ماطلتهما سلطات الاحتلال مثلما ماطلت سعد وصحبه.
ويقول المؤرخ
المصري المعاصر للثورة محمد صبري السوربوني في كتابه: "الثورة المصرية من
خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة" واصفًا حال البلاد:
"إذا كانت إنجلترا قد استطاعت حبس شعب من أربعة عشر مليون نسمة، إلا
أنها عجزت عن خنق صرخته التي كانت تعلو، لكنها نجحت في الوصول بإحباطه وآلامه إلى
أعلى درجة. لقد أصبحت مصر بإرادة إنجليزية كالإناء المكتوم... أماني مرتعشة،
وانفعالات تغلي، وغضب يعتمل.
وكانت أوروبا تجهل كل هذا، ألم يكن وادي النيل
بالنسبة لها غير مستعمرة إنجليزية؟
كانت وزارة الخارجية البريطانية تعلم ذلك،
ولكنها كانت تأمل معالجة المرض بإنكار وجوده. إنها سياسة تبسيطية ذات نتيجة
مدمرة".
وبالفعل كانت
مدمرة، مدمرة لخطط بريطانيا في السيطرة على مصر؛ فعقب رفض الإنجليز التصريح بسفر
الوفد المصري إلى الخارج لعرض القضية المصرية، والمماطلة الواضحة في سفر رئيس
الوزراء بدعوى انشغال وزير الخارجية البريطاني بالاستعداد للسفر لمؤتمر الصلح أخذت
الأمور في مصر تسير في مسارات أخرى.
بدء سعد زغلول
حملة مضادة لمنعه من السفر، فأرسل خطابًا إلى السير ونجت المندوب السامي البريطاني
يوم 3 ديسمبر 1918 يسجل فيه احتجاجه وأعضاء الوفد على منعهم من السفر، وأكد في
رسالته بشكل واضح على أن الوفد يتحرك في ضوء الوكالة التي منحتها له الأمة مرسيًا
مبدأ جديدًا في السياسة المصرية يلتزم فيه المفاوض المصري برأي الشعب الذي أوكل له
المفاوضة باسمه، فقال: "...ليس في وسعي، ولا في وسع أي عضو من أعضاء الوفد،
أن يعرض اقتراحات لا تكون مطابقة لإرادة الأمة المصرية المعبر عنها في التوكيلات
التي أعطيت لنا"... ويرى الدكتور عبد العظيم رمضان في تحليله لخطاب سعد أن
هذا الخطاب يؤكد على رفض الوفد المصري للتفاوض على أساس الحماية، ويعتبر الدكتور
رمضان أن هذا الرفض "دليل على فساد الرأي القائل بأن الاستقلال الذي كان
يطالب به الوفد هو الاستقلال الذي لا يتعارض مع الحماية".
ولما كانت خطوات
الوفد تتم كلها بالتنسيق مع رئيس الوزراء، فقد أرسل سعد رسالة إلى حسين رشدي باشا
في اليوم التالي يبلغه فيه بتطورات الأمور ويطلب منه الضغط من أجل سفر الوفد، لكن
حسين رشدي نفسه كان ممنوعًا من السفر.
ولم يكتف سعد
بمخاطبة رئيس الوزراء المصري الذي لم يكن يملك من أمر نفسه شيئا مثله مثل سعد،
فأرسل في نفس اليوم برقية احتجاج إلى لويد ﭼورﭺ رئيس الوزراء البريطاني، وقال في
برقيته: "إن الأمة المصرية بأسرها، من أكبر وزير إلى أصغر فلاح محبوسون داخل
حدود بلادهم، ولا يسمح لأحد منهم بالخروج من هذا الحصار الشديد"...
ثم بدء الوفد
اتجاهًا جديدًا بتدويل القضية وإخراجها من الجدل ثنائي الأطراف، الجدل المصري
البريطاني، فأرسل الوفد نداءً إلى معتمدي الدول الأجنبية لإعلانهم بتأليف الوفد
وأهدافه، وبتعنت السلطات العسكرية البريطانية تجاهه، ويختلف المؤرخون حول تاريخ
هذا النداء فيذكر عبد الرحمن الرافعي أنه كان في يوم 6 ديسمبر 1918 بينما يشير
أحمد شفيق إلى أن النداء صدر يوم 10 يناير 1919، وقد حدد النداء بوضوح مطالب الوفد
المصري التي هي في ذات الوقت مطالب الأمة التي وكلت الوفد في الحديث باسمها.
وركز النداء على
مطلبين رئيسيين أولهما الاستقلال التام الذي يعد حقًا طبيعيًا للأمم، وأكد النداء
أن مصر لم تهمل قط أمر المطالبة بهذا الاستقلال بل سفكت في سبيله دم أبنائها في
ميادين القتال، وقد حاول النداء أن يربط هذا الاستقلال عن بريطانيا بسعي المصريين
لتحقيق استقلالهم عن تركيا منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مرسخًا بذلك للمنهج
المصري في الحركة الوطنية الذي يخالف منهج الحزب الوطني الذي قام في البداية على
مماحكة قانونية تعتمد على السيادة الرسمية للدولة العثمانية على مصر. أما المطلب
الثاني فكان الحكومة الدستورية.
وفي نفس الوقت
أكد النداء على تعهد مصر المستقلة الدستورية باحترام امتيازات الأجانب، والتزامها
بنظام للمراقبة المالية يتم الاتفاق عليه ويتولى الأشراف على تطبيقه صندوق الدين
العام، كما أكد النداء على استعداد مصر لقبول الاحتياطات التي تراها الدول للحفاظ
على حياد قناة السويس.
وانتهى النداء
إلى أن مصر "تعتبر نفسها حائزة لأكبر شرف بوضع استقلالها تحت ضمانة جمعية
الأمم، تشترك بهذه المثابة بقدر ما لديها من الوسائل في تحقيق مبادئ العدل والحق
على النمط الحديث".
وفي نفس الوقت
أرسل سعد زغلول برقية إلى الرئيس الأمريكي ويلسن يطلب إليه تحقيق مسعى الوفد في
السفر لحضور مؤتمر الصلح في باريس، ليعلن بذلك عن توجه جديد للحركة الوطنية
المصرية.
تطورت الأمور بسرعة خلال شهر يناير 1919 لتشق طريق الثورة، كان يوم 18
يناير الموعد المحدد لافتتاح مؤتمر الصلح في باريس يقترب، ولا توجد بشائر لحل أزمة
سفر الوفد المصري إلى الخارج، سواء إلى لندن للتفاوض مع الحكومة البريطانية، أو
إلى باريس لعرض القضية المصرية أمام المؤتمر الذي كان يفترض أن يرسم خريطة العالم
ما بعد الحرب، بات واضحًا أن رسائل الوفد لم تجد نفعًا، لا رسائله إلى المعتمد
البريطاني في القاهرة، ولا تلك التي أرسلها سعد إلى لويد ﭼورﭺ رئيس الوزراء
البريطاني، كذلك لم يحرك سفراء الدول الأجنبية في القاهرة ساكنًا، إذًا لا أمل في
مساندة خارجية للقضية المصرية دون حركة الشعب، هذا ما أدركه سعد ورجال الوفد.
بدأ الوفد أسلوبًا
جديدًا في التحرك، الاتجاه إلى الداخل من أجل الضغط على الخارج، كان حشد الجماهير
قد بدأ بالفعل منذ اليوم الأول لتشكيل الوفد من خلال حركة جمع التوكيلات التي قدمت
نموذجًا في النضال الوطني السلمي القانوني والسياسي، فعلى الصعيد القانوني أعطى
التوكيل مشروعية للوفد في تمثيل الأمة، وعلى الصعيد السياسي وفرت حركة جامعي
التوقيعات فرصة أمام أنصار الوفد للاتصال بالجماهير وشرح القضية، ومن ناحية أخرى
كان التوكيل بمثابة عقد التزام بين الوفد وجماهير الشعب ظل يشكل قيدًا على كل
محاولة للتفريط في حقوق الأمة في المفاوضات السياسية مع بريطانيا، كانت حركة جمع
التوكيلات قد مهدت الأرض أمام دعوة الوفد، لكن عدم الترخيص للوفد بالسفر كان يحتم
على قادته التحرك بشكل أوسع بين الشعب.
ولما كانت
الأحكام العرفية (حالة الطوارئ) مطبقة، ويحول تطبيقها بين الوفد وتنظيم اجتماعات
جماهيرية، فقد اتبع قادة الوفد خطة بديلة تقوم على تنظيم لقاءات واسعة في منازلهم،
وكانت البداية بدعوة من حمد باشا الباسل لاجتماع في منزله القريب من بيت الأمة يوم
13 يناير 1919، وحضر الاجتماع عدد كبير من الساسة والكتاب وأعضاء الهيئات النيابية
والأعيان، وألقى سعد زغلول أول خطاب "جماهيري" له بعد تشكيل الوفد
المصري، وقد صادف الاجتماع مرور شهرين على الزيارة التاريخية التي قام به سعد ورفيقيه
لدار المعتمد البريطاني يوم 13 نوفمبر 1918، والتي كانت نقطة البداية لأكبر ثورة
شعبية في تاريخ مصر الحديث.
وفي خطابه أكد
سعد على أن المطالبة بالاستقلال ليست جديدة على المصريين، فقد بدأت عقب الاحتلال
مباشرة، وروى قصة تشكيل الوفد ومنعه من السفر، وتحدث عن مؤتمر الصلح ومبادئ الرئيس
الأمريكي ولسن، ثم شرح مطالب الوفد في الاستقلال التام، وأكد أن هذا الاستقلال
يشمل السودان كما يشمل مصر باعتبارهما من وجهة نظر الوفد كيان واحد، وتحدث بإسهاب
عن الأجانب في مصر في محاولة جديدة لطمأنتهم، وأشار إلى حاجة مصر لوجود الأجانب
وإلى أهمية استمرار الامتيازات كمرحلة انتقالية، وأكد أن الامتيازات لا تتنافى مع
الاستقلال، وختم خطابه باقتراح إرسال برقية إلى الرئيس الأمريكي باسم المجتمعين
يحيونه فيها ويعلنون تأييدهم لمبادئه، ولم يكتف سعد بإلقاء خطابه في حشد واسع، بل
قام الوفد بطبع الخطاب وتوزيعه على أوسع نطاق في القاهرة والأقاليم.
الطريف في الأمر
أن الصحف الخاضعة للرقابة لم تشر إلى خطاب سعد، ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي
في كتابه عن ثورة 1919 أن ما أوردته صحيفة الأهرام في عدد 14 يناير كان "نبذة
عابرة لا يفهم منها شيئ"، قالت الأهرام في خبرها الذي أنقله بنصه من كتاب
الرافعي: "دعا أمس حمد الباسل باشا العضو في الجمعية التشريعية جماعة كبيرة
من أعيان العاصمة والأقاليم إلى تناول الشاي في منزله بشارع الداخلية، فلبى دعوته
نحو 159 ذاتًا ووجيهًا وأديبًا، وضرب في حديقة داره الواسعة سرادقًا جميلًا نسقت
فيه الكراسي والمقاعد والأخونة على أجمل طراز، ثم قدمت الحلوى وأطايب المآكل
للحاضرين مع الشاي والقهوة، فقضوا جميعًا من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة
بأطيب الأحاديث، ثم انصرفوا رويدًا رويدًا وجماعات جماعات، وهم يتحدثون بفخامة هذا
الاجتماع وبفضل الداعي وكرمه، وكان سعادته وشقيقه وآله يقابلون المدعوين بما فطروا
عليه من اللطف والكرم العربي، ويمتعون أسماعهم مع أصدقائهم وصحبهم بما يشنفها،
وتمنى الكل لو كثر مثل هذا الاجتماع الكبير". هذا بعض ما تفعله الرقابة
بالصحف!
استمرت الأمور
في تصاعدها وقدم رشدي باشا رئيس الوزراء استقالته تضامنا مع الوفد واحتجاجًا على
منع الوفد الرسمي والوفد الشعبي من السفر، لكن السلطان فؤاد رفضها، وقامت بريطانيا
باستدعاء مندوبها السامي السير ونجت إلى لندن للتشاور معه في أحوال البلاد، فغادر
مصر عن طريق بور سعيد يوم 21 يناير.
فكر سعد في
تكرار تجربة اجتماع دار الباسل باشا، فدعا إلى اجتماع في بيت الأمة يوم 31 يناير
1919، لكن السلطات البريطانية قررت منع الاجتماع، وبالفعل أرسل الميـﭼور ﭼنرال
واطسن قائد القوات البريطانية خطابًا إلى سعد باشا قبل الاجتماع بأربعة أيام يطلب
منه إلغاء الدعوة، وقد نشر الرافعي نص الخطاب الذي يقول فيه واطسن: "علمت أن
سعادتكم تعدون اجتماعًا في منزلكم بمصر في 31 الجاري يحضره نحو الستمائة أو
السبعمائة شخص، وإني أرى إن مثل هذا الاجتماع قد يحدث منه إقلاق للأمن، فبناء على
هذا الأعلان الصادر تحت الأحكام العرفية المعلنة بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1914، أرجو
أن تتكرموا بالعدول عن إقامة هذا الاجتماع".
وأرسل سعد
اعتذارًا إلى المدعوين يبلغهم فيه أن الاجتماع ألغي بأمر السلطة العسكرية، وفي نفس
الوقت أرسل الوفد برقيتي احتجاج إلى رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي،
وأعقبهما ببرقية إلى ﭼورﭺ كليمنصو رئيس وزراء فرنسا الذي كان رئيسًا لمؤتمر الصلح
للمطالبة بضرورة عرض القضية المصرية على المؤتمر.
وهكذا سدت
السلطات العسكرية البريطانية منفذ الاجتماعات الحاشدة في المنازل فماذا فعل الوفد؟
قرر الوفد
وزعيمه سعد أن لا يفوت فرصة لمهاجمة الاحتلال والدعاية لقضية الاستقلال إلا
ويستغلها أفضل استغلال، وجاءت الفرصة على طبق من ذهب بمناسبة مناقشة مشروع قانون
العقوبات الجديد الذي كانت سلطات الحماية البريطانية في مصر تعد لإصداره ضمن سلسلة
من التعديلات التشريعية التي ترسخ سلطة الاحتلال في مصر وتجعل من نظامها القانوني
نظامًا تابعًا، بما في ذلك إصدار قانون أساسي (دستور) جديد. وهي التعديلات
المعروفة بقوانين برونيت نسبة إلى السير وليم برونيت مستشار دار الحماية
البريطانية في مصر، وكان المستشارون الإنجليز يروجون لهذه التعديلات التشريعية
ويقومون بالدعاية لها في الأوساط القانونية والتشريعية المصرية. وفي هذا السياق
دعت الجمعية السلطانية للاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء لاجتماع في مقرها يوم 7
فبراير سنة 1919 لسماع المحاضرة مستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية،
وكان بريسفال قد ألقى محاضرة في نفس الموضوع يوم 17 يناير، وتلك كانت محاضرته
الثانية.
ذهب سعد وعدد
كبير من أعضاء الوفد المصري لحضور الاجتماع ضمن حشد ضخم من رجال السياسة والقانون
من بينهم عبد الخالق باشا ثروت وزير الحقانية، وبعد أن انتهى بريسفال من محاضرته
التي ألقها بالفرنسية، اعتلى سعد منصة الخطابة وأعلن أن لديه ملاحظات على المحاضرة
وعلى مشروع القانون، وتحدث بالعربية موضحًا أن بريسفال يعرف العربية، لكن الحقيقة
أن سعد لم يكن يقصد برسفال بحديثه، إنما كان هدفه جمهور الحضور وعبرهم كل أبناء
الشعب المصري، كما أن نقد مشروع القانون الجديد لم يكن هدف سعد الأساسي من الحضور
والتعليق بل طرح قضية الاستقلال من خلال مناقشة هذا القانون، إنه أسلوب في النضال
السياسي يتبعه المناضلون عندما تضييق عليهم السلطات سبل التعبير عن أرائهم، ابتدعه
سعد وسار على خطاه أجيال وأجيال.
استهل سعد كلمته
قائلًا: "أيها السادة، إني أشكر المحاضر على ما قاله من أنه يريد أن يكون
لمصر في المستقبل شرع خاص، ولكني أقول لحضرته إن هذا الشرع موجود فعلًا منذ أمد
بعيد، إن أمتنا المصرية ليست من قبيل الأقوام الهمج الذين ليست لهم شرائع مقررة،
إنما بلد كبلدنا تكون له حياة عريقة في القوانين والشرائع فإن من الخطر أن يعمد
إلى تغيير كلي في شرعه بدون أن تدعو الضرورة لذلك أو تهدي إليه التجربة والاختبار،
إن قانون العقوبات المصري المأخوذ عن القانون الفرنسي جرى عليه العمل منذ زمن
طويل، فهو جزء من محصولنا القانوني تشربته أفئدة قضاتنا ومحامينا، وسرى في أخلاق
الأمة سير الدم في الجسد..."
وانطلق سعد
بذكاء شديد من المناقشة القانونية إلى المناقشة السياسية، فانتقد استخدام الجمعية
العلمية وسيلة للترويج لقبول الأمة بهذا التشريع وتمريره دون عرضه على الجمعية
التشريعية، ثم انتقل إلى مهاجمة القانون لأنه يستند في مواده على حالة الحماية،
وقال عن الحماية إنها: "حالة سياسية لا وجود لها الآن بمصر"... واستطرد
قائلا: "إن بلادنا لها استقلال ذاتي ضمنته معاهدة 1840، واعترفت به جميع
المعاهدات الدولية الأخرى، وعبثًا يحاولون الاعتماد على ما حصل من تغيير هذا
النظام السياسي أثناء الحرب، إنكم أيها السادة تعلمون وكل علماء القانون الدولي
يقررون أن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين، تطلب أحداهما أن تكون تحت رعاية
الأخرى، وتقبل الأخرى تحمل أعباء هذه الحماية، فهي نتيجة عقد ذي طرفين موجب وقابل،
ولم يحصل من مصر ولن يحصل منها أصلا".
وأكد على أن
الحماية التي أعلنتها بريطانيا من جانب واحد سنة 1914 باطلة لا وجود لها قانونًا،
وإنها كانت ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها...
وقد قضت كلمة
سعد على مشروع برونيت تمامًا.
واستقبلت الكلمة
استقبالًا حماسيًا من الحاضرين، وسرعان ما ذاع خبرها وانتشر نصها بين المصريين،
وأصبحت حديث الأمة، رغم تجاهل الصحف لها بسبب الرقابة والأحكام العرفية، لدرجة أن
جريدة وادي النيل التي كانت تصدر في الإسكندرية أشارت إلى الموضوع في خبر مقتضب
بعنوان: "في جمعية الاقتصاد والتشريع" جاء فيه: "ألقى المستر
بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية بعد ظهر الجمعة الماضية بقية محاضرته
الخاصة بالتشريع المصري الجديد في جمعية الاقتصاد والتشريع، وبعد أن انتهى من
إلقائه وقف أحد السامعين وبسط بعض ملاحظات ثم انفض الاجتماع".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق