ابن
القباقيبي
عماد
أبو غازي
يتميز عبد الرحمن الرافعي من بين من أرخوا لثورة
1919 باهتمامه بالتفاصيل الصغيرة دون إغفال الأحداث الكبيرة، ففي كتابه "ثورة
1919 تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى سنة 1921"، يهتم الرجل بأولئك البسطاء
الذين ضحوا من أجل الوطن دون أن يتذكرهم أحد، وأصبحوا مجرد أسماء في دفاتر أحوال
الشرطة وسجلات الوفيات في المستشفيات، لكن الرافعي في تاريخه يعيد هؤلاء إلى
الحياة، فمنهجه في كتابه عن الثورة ـ الذي يحتل الجزء التاسع من أجزاء تأريخه
للحركة الوطنية المصرية ـ مثل منهجه في كل أقسام تاريخه الأربعة عشر البحث خلف
الصناع المجهولين للتاريخ، والذي أكد عليه في مقدمته للطبعة الأولى من كتاب ثورة
1919 التي صدرت في أبريل سنة 1946، ربما الاستثناء الوحيد كتابه عن مصطفى كامل
الذي ركز فيه على شخصية الزعيم وجعله محورًا للعمل، ذلك الكتاب الذي يعد بمعنى ما
محور تاريخ الرافعي كله، فقد بدأ تأليفه في التاريخ بكتابة سيرة حياة الزعيم مصطفى
كامل، ثم رأى أن يطور مشروعه ليكتب عن تاريخ الحركة القومية في مصر منذ نشأتها ـ
من وجهة نظره ـ في أواخر القرن الثامن عشر، عمومًا لهذا قصة أخرى.
نعود لحكايات الرافعي عن الناس في ثورة 1919، من
هذه الحكايات ما راواه عن الفتى الشهيد "ابن القباقيبي".
لكن
من هو ابن القباقيبي؟
إنه فتى صغير لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره،
استشهد برصاص قوات الاحتلال في الخامس من أبريل سنة 1919 أمام سبيل أم عباس بشارع
الصليبة الطولونية. وحكاية الفتى الذي اشتهر باسم ابن القباقيبي، ربما لأن والده
كان صانعًا للقباقيب أو بائعًا لها، ترجع إلى أيام قليلة قبل استشهاده.
كان الجامع الأزهر قد تحول من مسجد جامع في
المدينة القديمة يؤمه المسلمون للصلاة أو لطلب العلم إلى ساحة رئيسية من ساحات
الخطابة أثناء الثورة، يتجمع فيه خطباء الثورة ويحتشد داخله جموع المصريين بغض
النظر عن دينهم، فخطب على منبره الشيخ القاياتي والشيخ الزنكلوني والشيخ دراز إلى
جانب القمص سرجيوس والقمص بولس غبريال والأساتذة يوسف الجندي وإبراهيم عبد الهادي
ومحمد عبد المجيد بدر والدكتور زكي مبارك والدكتور محجوب ثابت.
ولما استشعرت السلطات البريطانية خطر تحول
الأزهر إلى معقل من معاقل الثورة حاولت أن تسد هذا الباب، فاستدعت دار الحماية
الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر، وطلبت منه إغلاق أبواب الأزهر
أمام الناس، فرفض بشده، وأكد أن الأزهر مسجدًا جامعًا تقام فيه الصلوات ولا يمكن
أن يغلق أبوابه في وجه من يؤمه من المصلين، فطلبت السلطات البريطانية منه فتحه في
مواقيت الصلوات الخمس والجمع فقط، فرفض أيضًا وأصر على أن يظل الأزهر مفتوحًا طوال
النهار والليل كما هي العادة.
وأعد الثوار العدة لعقد اجتماع حاشد يوم 5
أبريل، وتمت الترتيبات لعقده بالأزهر باعتبار ساحته أكبر الساحات المتاحة والآمنة
في نفس الوقت، ووصلت أنباء الإعداد للاجتماع إلى السلطات الإنجليزية، فسدت الطرق
والمنافذ المؤدية إلى منطقة الأزهر، وفرضت حصارًا على الجامع والحي، وحشدت قوات عسكرية
ضخمة بصورة تمنع وصول الجمهور إلى الجامع.
عندها قرر الداعين للاجتماع نقله إلى مكان آخر،
واتجه تفكيرهم إلى جامع ابن طولون الذي يقع في موقع حصين فوق ربوة مرتفعة مجاورة
لقلعة الكبش وتلال زينهم، في مكان متوسط بين حي السيدة زينب وحي الخليفة، وحتى لا
تتمكن القوات البريطانية من الوصول إلى الجامع ومنع الاجتماع مثلما فعلت في
الأزهر، قام الأهالي بحفر الخنادق ووضع المتاريس في الطرق والشوارع المؤدية إلى
جامع أحمد ابن طولون، خصوصًا في شارع الصليبة الطولونية.
وعندما توجهت فرقة عسكرية بريطانية إلى المكان
أعاقتهم الخنادق والمتاريس عن الوصول، وتلقفهم الأهالي بالحجارة من كل اتجاه،
فأطلقوا النار بشكل عشوائي على الجماهير، فسقط عدد من الشهداء وعدد من الجرحى، كان
من بينهم هذا الغلام الصغير المشهور بابن القباقيبي، فماذا فعل الفتى؟
كان الفتى الصغير قد أقام حصنًا ترابيًا عند
سبيل أم عباس لمنع تقدم الجنود إلى الجامع من ناحية القلعة، فأردته رصاصة جندي
إنجليزي قتيلًا وهو واقف فوق حصنه الذي بناه.
وقد حقق عبد الرحمن الرافعي قصة هذا الفتى وسأل
أهل الحي عنه، فعرف أن اسمه محمد إسماعيل ويسكن في شارع الركيبة بقسم الخليفة، وأن
سنة 12 سنة، وأن الوفاة نجمت عن طلق ناري من بندقية جندي إنجليزي، وقد سُجلت
الواقعة وسبب الوفاة في دفاتر الوفيات التي رجع له عبد الرحمن الرافعي للتأكد من
رواية أهل الحتة وتاريخها ومكان وقوعها.
وقد شيع الأهالي جنازة الفتى الشهيد في اليوم
التالي يوم 6 أبريل في موكب ضخم تحرك من الصليبة الطولونية إلى مدافن الإمام
الشافعي، وفي نفس يوم الجنازة أصدرت السلطات البريطانية بلاغًا عسكريًا أشارت فيه
إلى مقتل الصبي فقالت:
"إن جمهورًا معاديًا هجم صباح أمس على
دورية في حي السيدة زينب فاضطرت إلى إطلاق النيران وقد قتل لسوء الحظ ولد في
العاشرة أو الثانية عشرة من عمره كان بين الجماهير".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق