الخميس، 5 مارس 2015

 

الانتقام من الديمقراطية

عماد أبو غازي

 يوم 29 مارس 1954، وبعد نجاح إضراب النقل العام، ونجاح خطة إرهاب قضاة مجلس الدولة بالتعدي على رئيسه السنهوري باشا في داخل مقر المجلس، اتخذ مجلس قيادة الثورة قراراته بإرجاء تنفيذ قرارات 5 و25 مارس التي كانت تقضي بعودة الجيش إلى ثكناته وإعادة الحياة الديمقراطية، في الخامسة من صباح 30 مارس أنهى عمال النقل المشترك إضرابهم، وعادت وسائل النقل العام إلى العمل.
 ورغم إحساس نجيب بالهزيمة وبأن استمراره مع الضباط الأحرار لم يعد له محلًا، لكن مجلس قيادة الثورة احتفظ به رئيسًا للجمهورية ورئيسًا للوزراء حتى تتم تصفية القوى الديمقراطية تمامًا، حتى لا يتكرر ما حدث في فبراير 54.
 بعد أيام قليلة بدأ تنفيذ خطة التخلص من كل القوى التي وقفت مدافعة عن الديمقراطية، فقد اجتمع مجلس قيادة الثورة في 5 أبريل واتخذ ستة قرارات؛ القرار الأول: محاسبة المسئولين عن الفساد السياسي في العهود الماضية، وطرق إبعادهم عن العمل في محيط السياسة وحرمان عدد منهم من حقوقه السياسية، وبذلك يضمن مجلس قيادة الثورة التخلص من أبرز القيادات السياسية القديمة.
 وكان الثاني موجهًا للصحافة التي انحاز أغلبها خلال أزمة مارس إلى جانب الديمقراطية، وجاء في عبارة موجزة: "تطهير الصحافة".
 أما القرار الثالث فقد أصاب الجامعات طلابًا وأساتذة، وكانت جامعات مصر الثلاثة قد وقفت في طليعة القوى المدافعة عن الديمقراطية والحرية، فقرر مجلس قيادات الثورة منح سلطات للمسئولين في الجامعات لضمان انتظام الدراسة بها، لتبدأ مرحلة جديدة تصفى فيها الحياة السياسية والفكرية داخل الجامعة لقرابة خمسة عشر عامًا، حين تهب الحركة الطلابية مرة أخرى في فبراير 1968، كما قرر مجلس قيادة الثورة البحث في إصدار قانون لحماية الثورة والأسس التي يقوم عليها المجلس الوطني.
 أما القراران الخامس والسادس فلا علاقة لهما بموضوع الديمقراطية أو "استمرار الثورة"، حيث نص القرار الخامس على إقامة مشروعات هامة لمصلحة مختلف طبقات الشعب، وتنشيط الاقتصاد القومي، والقضاء على الكساد. ونص القرار السادس على اختيار عناصر صالحة في مجالس البلديات، وحل مشكلة المواصلات بالقاهرة!!!


 وبغض النظر عن الصيغة الفضفاضة في القرارين الأخيرين، إلا أنهما أسسا لأسلوب ظل النظام يتبعه لسنوات عندما يريد أن يمرر قرارات وقوانين مقيدة للحريات، فإنه يخلطها ببعض القرارات والقوانين التي تبدوا أنها تحقق مطالب جماهيرية أو تخفف من الأعباء على المواطنين، في هذه القرارات نكتشف البذرة الأولى لمنهج الدولة الاستبدادية الجديدة في إيهام الجماهير بإمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية إذا تنازلت عن حقوقها الديمقراطية؛ ودائمًا كانت القيود على الحريات تتزايد ومصالح الجماهير وحقوقها تضيع، فلا يمكن أن نقايض الحقوق الاجتماعية بالحرية، فلن تتحقق العدالة الاجتماعية بدون ديمقراطية.
 في يوم 15 أبريل بدأت الخطوات العملية لتصفية الديمقراطية ومصادرة الحريات السياسية في مصر، تلك الخطوات التي فتحت الطريق لبناء الدولة الاستبدادية التي استمرت حتى قامت ثورة 25 يناير 2011، في مواجهة أسس هذه الدولة.

 ففي هذا اليوم المشئوم قرر مجلس قيادة الثورة حرمان كل من سبق أن تولى الوظائف العامة في الفترة من 6 فبراير 1942 إلى 23 يوليو 1952 من حق تولي الوظائف العامة وعضوية مجالس إدارات النقابات والهيئات ومن كافة الحقوق السياسية لمدة عشر سنوات، وطال هذا القرار السياسيين من أحزاب الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين أما غير المنتمين للأحزاب فتصدر قرارات بحالتهم من مجلس قيادة الثورة، وكان في مقدمة من شملهم القرار: الزعيم مصطفى النحاس ومكرم عبيد وأحمد نجيب الهلالي وفؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج ومحمد حسين هيكل وأحمد علي علوبة والشيخ علي عبد الرازق، وإبراهيم عبد الهادي وعبد الرزاق السنهوري، وكان من بين المحرومين من مباشرة الحقوق السياسية ستة من أعضاء اللجنة التي كانت مشكلة لإعداد مشروع دستور للبلاد.

 وفي نفس اليوم صدر قرار بحل مجلس نقابة الصحفيين، وتعيين مجلس إداري مؤقت لحين وضع قانون جديد للصحافة، بدعوى أن سبعة من أعضاء المجلس الاثني عشر تقاضوا مبالغ من المصاريف السرية في العهد الماضي، وطال الاتهام عددًا من الصحفيين الوطنيين الذين دافعوا باستماتة عن الديمقراطية طوال العاميين التاليين لانقلاب الضباط الأحرار، منهم حسين أبو الفتح وأبو الخير نجيب وإحسان عبد القدوس وفاطمة اليوسف ومرسي الشافعي وإبراهيم عبده وعبد الرحمن الخميسي وكامل الشناوي، وبدا الأمر كما لو أن الربيع الديمقراطي الذي عاشت فيه مصر بين 5 و29 مارس كان فخًا لاصطياد أنصار الديمقراطية والحرية؛ وبدأت محكمة الثورة وهي محكمة عسكرية استثنائية كانت قد تشكلت في سبتمبر 1953، في محاكمة عددًا من الصحفيين والساسة والضباط المناصرين للديمقراطية، وأصدرت بحقهم أحكامًا بالسجن لمدد متفاوتة، ومن أبرز الصحفيين الذين صدرت بحقهم أحكامًا بالسجن، محمود أبو الفتح وحسين أبو الفتح، وكان الأول خارج البلاد أما الثاني فقد صدر الحكم بسجنه 15 عامًا مع إيقاف التنفيذ، أما أبو الخير نجيب فقد صدر ضده حكمًا بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة والتجريد من شرف المواطنة، لأنه عمد إلى الاتصال بطوائف العمال والطلبة وتحريضهم على التمرد والعصيان، وامتهن الصحافة ولم يلتزم دستورها، كانت الاتهامات فضفاضة وسياسية في المقام الأول، ردًا على فضحه لما جرى مع المعتقلين في السجن الحربي.
 وفي يوم 17 أبريل تخلى نجيب عن رئاسة الوزراء لجمال عبد الناصر، وفي اليوم التالي نزعت سلطات الحاكم العسكري المنصوص عليها في قانون الأحكام العرفية منه وخولت لعبد الناصر، ونص قرار تعيينه حاكمًا عسكريًا على الترخيص له باتخاذ أي إجراء لازم للمحافظة على النظام والأمن في جميع نواحي الجمهورية فوق ما نص عليه القانون.
 خلال شهر أبريل جرت محاولة من بعض ضباط الجيش بالتعاون مع بعض الساسة المدنيين للإطاحة بمجلس قيادة الثورة واعتقال جمال عبد الناصر، لكن المحاولة فشلت وتمت محاكمة من قاموا بها محاكمة عسكرية، وصدر الحكم في يونيو على قائد المحاولة الضابط أحمد المصري بالسجن 15 عاما، وفي سبتمبر صدر الحكم على اليوزباشي مصطفى كمال صدقي و20 متهمًا في محاولة انقلابية أخرى اتهم فيها أيضًا عدد من الشيوعيين وبعض أعضاء الأحزاب القديمة التي تم حلها.

 أما القائمقام أحمد شوقي الذي عرض على نجيب القبض على مجلس قيادة الثورة فقد حكم عليه بالسجن عشر سنوات بتهمة إحداث فتنة في الجيش خلال شهر مارس، وأفرج عنه صحيًا. وتم إبعاد الضباط المؤيدين للديمقراطية عن الجيش، كما تم إبعاد خالد محيي الدين الذين كان رمزًا للقوى الديمقراطية خارج البلاد في مهام رسمية لسنوات عدة.
 هكذا تم توجيه الضربات المتوالية للقوى الديمقراطية ولمعاقل النضال الوطني والديمقراطي خلال عام 1954، وظل "الإخوان المسلمون" في شهر عسلهم مع عبد الناصر، لكن شهر العسل لم يدم طويلًا، لقد كان الصدام محتوًما بين الطرفين، الأمر الذي بدأت بوادره الأولى في الجمعة الأخيرة من أغسطس 1954... وهذا يقودنا إلى تتبع علاقة حركة الإخوان بالحركة المباركة طوال عامين...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...