الاثنين، 2 مارس 2015


خمسة أيام في فبراير
خروج الصراع بين عبد الناصر ونجيب إلى العلن

عماد أبو غازي

 بين 23 و27 فبراير 1954 خرج الخلاف بين الرئيس محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة إلى العلن، فطوال عام 1953 كانت رؤية محمد نجيب تبتعد عن رؤية معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة في إدارة البلاد، فقد كانت بعض الإجراءات التي اتخذت خلال ذلك العام تزعج نجيب ويرى فيها ابتعادًا بالبلاد عن الديمقراطية، مثل التشريعات التي أعدها سليمان حافظ والتي تبيح إقالة الموظفين عن غير الطريق التأديبي، وتشكيل المحاكم الاستثنائية وما أصدرته من أحكام بحق الساسة المنتمين للأحزاب التي كان قد صدر قرارًا بحلها، كذلك الإجراءات التي اتخذت ضد عدد من ضباط الجيش المختلفين مع القيادة واعتقال بعضهم ومحاكمتهم، وإبعاد البعض ومنهم أعضاء في تنظيم الضباط الأحرار من مواقع تولوها في الحياة المدنية بسبب آرائهم، فقد صدر قرار بعزل أحمد حمروش من رئاسة تحرير مجلة "التحرير" لأنه يساري، وتم اعتقاله بعد ذلك لمدة شهرين في قضية سلاح المدفعية، وقد تولى رئاسة التحرير بعده البكباشي ثروت عكاشة وعُزل أيضا بسبب مقال عن خطة ليلة 23 يوليو لم يذكر فيه اسم صلاح سالم!

أحمد حمروش 

ثروت عكاشة
 وأحس نجيب أن مجلس قيادة الثورة يستبعده تدريجيًا منذ إعلان الجمهورية، وكان رأيه أن يتم استفتاء الشعب على القرار لخطورته، لكن لم يؤخذ برأيه، وتم تعينه رئيسًا واستبعاده من قيادة الجيش ليحل محله فيها عبد الحكيم عامر، وقد شعر نجيب أن هذا الإجراء أضعف موقفه، وإن رئاسته للجمهورية شكلية بينما سلطة اتخاذ القرارات في يد مجلس قيادة الثورة وجمال عبد الناصر، ويقول نجيب في مذكراته: "لم يغرني ما عرضوه من تعيني رئيسًا للجمهورية وعبد الحكيم عامر قائدًا عامًا للقوات المسلحة، فقد كنت أوثر أن يظل عامر في موقعه مديرًا لمكتبي لشئون القوات المسلحة... وأشهد أني قبلت تحت ضغط وإلحاح استمر ثلاثة أسابيع بعد أن فكرت كثيرًا في الاستقالة، واعترف الآن أن هذا كان خطئي الكبير الذي وقعت فيه، فقد شعرت بعد قليل أنني في مركز أقل قوة بعد أن تركت قيادة الجيش".
عبد الحكيم عامر
 ومن المواقف التي يذكرها الرئيس محمد نجيب ويرى فيها تجاوزًا له وتعد على سلطاته، تقديم جمال عبد الناصر باعتباره وزيرًا للداخلية كشفًا بأسماء بعض الزعماء السياسيين الذين رأى اعتقالهم، وقد اعترض نجيب على تحديد إقامة الزعيم مصطفى النحاس الذي ورد اسمه في الكشف وشطب اسمه بيده بعد إقناع مجلس قيادة الثورة، لكنه فوجئ بصدور القرار متضمنًا اسم مصطفى النحاس.

 كذلك عقد الاجتماعات بين عبد الناصر وكيرمت روزفلت من المخابرات المركزية الأمريكية في مبنى مجلس قيادة الثورة رغم اعتراضه على ذلك. وشعر نجيب باستهانة أعضاء مجلس قيادة الثورة به، عندما تم تعيين جمال سالم وزيرًا للمواصلات وزكريا محيي الدين وزيرًا للداخلية ليتفرغ عبد الناصر لمنصبه نائبًا لرئيس الوزراء، دون موافقته، وقد رفض الوزيران أداء اليمين أمامه، وفقًا لما ذكره في مذكراته! كما لاحظ نجيب أن أعضاء المجلس يجتمعون بدون حضوره وإذا دخل إلى الاجتماع يتوقفون عن الحديث، الأمر الذي شعر معه بعدم قدرته على التواصل معهم.

 وفجر هذا التجاهل الموقف ودفع نجيب لإظهار الخلاف في العلن، ففي يوم 23 فبراير 1953 كان من المقرر عقد اجتماع لمجلس قيادة الثورة، فعلم الرئيس محمد نجيب بذلك فحضر إلى مكتبه في مقر مجلس قيادة الثورة، وطلب إلى أعضاء المجلس الصعود إلى مكتبه للاجتماع به، فلم يجيبوه، وعندما ألح في استدعائهم، جاءه الرد بالاعتذار لعدم اكتمال العدد. هنا قرر نجيب أن يفجر الموقف؛ فكتب استقالته وأرسلها إلى جمال عبد الناصر، وغادر المقر.
 اختلف أعضاء مجلس قيادة الثورة حول الموقف الذي ينبغي أن يتخذوه، رأى البعض إعلان قبول الاستقالة، بينما رأى آخرون إصدار قرار بإقالة الرئيس نجيب، أما خالد محيي الدين فقد رفض قبول الاستقالة مؤكدًا أن هذا قد يؤدي إلى قيام ثورة في البلد، وعندما تأكد له أن الاتجاه السائد قبول الاستقالة، أعلن تقديم استقالته هو الآخر، لكن زملاءه نجحوا في إقناعه بتأجيلها حتى لا يبدو المجلس منقسمًا أمام الرأي العام، فوافق، إلا أنه اعتذار عن التوجه لسلاح الفرسان الذي ينتمي إليه لإقناع ضباطه بالقرار، وقد كان سلاح الفرسان أكثر الأسلحة تأييدًا لنجيب.
خالد محيي الدين
 وكانت المداولات التي تمت مع ضباط الصف الثاني في تنظيم الضباط الأحرار، ومع عددًا من ضباط الجيش قد انتهت إلى أن هناك ثلاثة بدائل لحل الأزمة: قبول استقالة نجيب، أو تنحي مجلس قيادة الثورة، أو الضغط من أجل التوفيق بين الطرفين والخروج من الأزمة. وقد رفض معظم الضباط البديلين الأول والثاني وألحوا على العمل في اتجاه الحل الثالث الذي كان يبدو مستحيلًا.
 صباح يوم 25 فبراير تم إعلان القرار بقبول استقالة محمد نجيب في بيان طويل مسهب يشرح أسباب القرار، ويروي تاريخ العلاقة بين نجيب وتنظيم الضباط الأحرار، موجها رسالة إلى الشعب مفادها أن نجيب لم يكن من ضمن أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، وإن الضباط الشبان اختاروه ليقدموه كقائد للثورة لسمعته الحسنة والطيبة وعدم تلوثه بالفساد. وأكد البيان على أن سبب الخلاف رغبة الرئيس نجيب في زيادة سلطاته والانفراد باتخاذ القرارات، وانتهى البيان إلى إعلان استمرار مجلس قيادة الثورة في تحمل المسئولية بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر، وتعيينه رئيسًا لمجلس الوزراء.

 ويشير عبد الرحمن الرافعي المعاصر للأحداث في كتابه "ثورة 23 يوليو 1952" إلى أن استقالة نجيب كانت حادثًا مفاجئًا من حوادث الثورة، بما يوحي بأن الصراعات لم تكن ظاهرة على السطح قبل الاستقالة.
 جاء رد الفعل القوي من جانب سلاح الفرسان، فقد تجمع ضباطه بقيادة اليوزباشي أحمد المصري واليوزباشي فاروق الأنصاري والملازم أول محمود حجازي مطالبين بعقد اجتماع للضباط مساء يوم 25 فبراير وحضور حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة، لكن عبد الناصر حضر الاجتماع بنفسه، ودار حوار طويل بدأ بالموقف من محمد نجيب، وحذر فيه أحد الضباط السودانيين من أن غياب نجيب سيؤدي إلى فقدان السودان، وامتد إلى مناقشة غياب الديمقراطية، وعندما رد عبد الناصر بأن القرارات تتخذ في مجلس الثورة بأسلوب ديمقراطي، رد أحد الضباط: إن هذا يعتبر حكمًا فرديًا لأنه قاصرًا على مجلس الثورة والشعب لا رأي له. وحذر أحد الضباط من خروج مظاهرات في الشوارع تطالب بعودة نجيب، وتسأل: "ترى لو أن الطلبة خرجت في مظاهرات تطالب بعودة محمد نجيب، هل نصوب بنادقنا إلى صدور الطلبة؟ لا لن نصوب بنادقنا إلى صدور أبناء الشعب". وانتهى الاجتماع بمطلبين: عودة محمد نجيب رئيسًا لجمهورية برلمانية بدون سلطات، واستعجال لجنة إعداد الدستور برئاسة علي ماهر للانتهاء من مهمتها.

علي ماهر
 وكان هذا أيضا موقف الضباط في الإسكندرية والذي عبر عنه اليوزباشي آمال المرصفي، وقد أكد ضباط الإسكندرية وفقا لرواية أحمد حمروش أنهم لا يمكن أن يقفوا ضد الحرية والديمقراطية التي ينادي بها نجيب.
 وقد نجح عبد الناصر في إقناع أعضاء مجلس الثورة بعودة نجيب على أن يتولى خالد محيي الدين رئاسة الوزارة، وعاد عبد الناصر عند الفجر ومعه خالد محيي الدين إلى سلاح الفرسان، وأعلن قرارات عودة نجيب، وتنحي مجلس قيادة الثورة، وعودة الضباط إلى ثكناتهم، وتولي خالد محيي الدين رئاسة الوزراء، وعودة الحياة النيابية. وقد تخوف ضباط سلاح الفرسان من أن قرار تعيين خالد محيي الدين رئيسًا للوزراء قد يفسر على أنه انقلاب من سلاح الفرسان، فتعهد لهم عبد الناصر بالمرور على الأسلحة وإقناع ضباطها بالقرارات.
 وقد وقع ما تخوف منه ضباط سلاح الفرسان، فبدأ ضباط الأسلحة الأخرى يعلنون احتجاجهم، وقد تزعم الحركة وفقا لرواية أحمد حمروش البكباشي أحمد أنور قائد البوليس الحربي والصاغ مجدي حسنين وقائد الجناح وجيه أباظة واليوزباشية كمال رفعت وحسن التهامي ومحمد أبو الفضل الجيزاوي، والصاغ سعد زايد، وبدا أن الصراع سيتحول إلى صدام بين الأسلحة المختلفة، وتصاعدت دعوات إلى اعتقال خالد محيي الدين باعتباره قد دبر انقلابًا شيوعيًا من خلال سلاح الفرسان، وتوجه بعض الضباط من تلقاء أنفسهم إلى منزل محمد نجيب وقاموا باعتقاله بالتعاون مع عبد المحسن أبو النور الذي كان يتولى قيادة حرس محمد نجيب. اجتمع مجلس الثورة وتعالت الأصوات المطالبة باعتقال خالد محيي الدين أو نفيه، لكن عبد الناصر أكد لهم أن القرار الذي يجب اتخاذه ليس قرارًا بشأن خالد محيي الدين، بل قرار عودة نجيب أم عدم عودته، وتم رفع الاجتماع للراحة مع تفويض عبد الناصر باتخاذ أية قرارات إذا تطورت الأمور بسرعة.
 وأثناء رفع الجلسة للراحة كانت الجماهير تتحرك في الشارع بقيادة الأخوان المسلمين والوفديين والاشتراكيين والشيوعيين في اتجاه ميدان عابدين تهتف لمحمد نجيب وللديمقراطية، واشتبك البوليس الحربي والشرطة مع المتظاهرين عند كوبري قصر النيل لكنهم نجحوا في الوصول إلى ميدان عابدين.

 يوم 27 فبراير صدر إعلان قبول نجيب رئاسة جمهورية مصر البرلمانية، مع استمرار جمال عبد الناصر رئيسا للوزراء وتخويله سلطات الحاكم العسكري العام.

حسم الشعب القرار في الشارع، لكن إلى حين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...