السبت، 14 مارس 2015


                                   هل نجحت ثورة 1919؟

عماد أبو غازي

  هل نجحت ثورة 1919 في تحقيق أهدافها؟
 سؤال تردد بقوة منذ الأشهر الأخيرة لعام 1919، تردد بين الساسة المصريين المعاصرين، وبين الجماهير التي شاركت في الثورة أولًا، هل كان هناك مقابل للتضحيات التي قدمها الشعب من شهداء وجرحى ومعتقلين ومحكوم عليهم بالإعدام والسجن والحبس والجلد والغرامة.

 
 وبعد أن هدأت الأمور واستقرت الأحوال وصدر تصريح 28 فبراير 1922 من جانب بريطانيا الذي اعترفت فيه بمصر مملكة مستقلة مع أربعة تحفظات تحد من هذا الاستقلال، وصدر دستور 1923، تجددت التساؤلات، وتعددت الإجابات باختلاف مواقف من يجيبون على السؤال، خاصة أن الانقسامات والانشقاقات كانت قد تسربت إلى صفوف الوفد، ودارت في معظمها حول أسلوب التفاوض مع الإنجليز، والموقف من العروض البريطانية. وقد وقع أول انشقاق في الوفد المصري في يوليو 1919، عندما قرر الوفد اعتبار إسماعيل باشا صدقي ومحمود بك أبو النصر منفصلين من عضويته لمخالفتهما خطة الوفد السياسية كما تم كذلك فصل حسين باشا واصف، ثم توالت الانقسامات.
 وفي منتصف الأربعينات أعاد مؤرخ الحركة الوطنية عبد الرحمن الرافعي طرح السؤال مجددًا في ختام كتابه عن ثورة 1919، ورغم انتمائه للحزب الوطني الذي كان على خلاف مع الوفد فقد اتسم حكمه بالحياد والموضوعية ووضع معايير ليقيس عليها مدى نجاح الثورة، وكان معياره "تعرف الحالة التي كانت عليها البلاد قبل الثورة، والحالة التي وصلت إليها بعد الثورة، وهل تقدمت أم تأخرت، وما علاقة الثورة بهذا التقدم أو التأخر؟" وفي ضوء هذا المعيار انتهى الرافعي إلى نجاح الثورة بشكل عام، وكان مأخذه الأساسي إغفال قيادة الثورة للجانب الاقتصادي وإن كان قد أشار إلى أن الواقع الجديد بعد الثورة قد دفع تلقائيًا في اتجاه تطور الاقتصاد.
 وبعد انقلاب يوليو وفي محاولات النظام الجديد لمحو تاريخ مصر السابق على يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 أهيل التراب على ثورة 1919 وقيادتها التاريخية، ورددت مناهج التعليم ما ورد في الميثاق الوطني من أقوال حول فشل ثورة 1919.
 واستند الميثاق الوطني إلى عدة أسباب اعتبارها مسئولة عن فشل ثورة 1919، يقول الميثاق: "إن ثورة الشعب المصري سنة 1919 تستحق الدراسة الطويلة؛ فإن الأسباب التي أدت إلى فشلها هي نفس الأسباب التي حركت حوافز الثورة في سنة 1952. إن هناك ثلاثة أسباب واضحة أدت إلى فشل هذه الثورة، ولابد من تقييمها في هذه المرحلة تقييمًا أمينًا ومنصفًا.
 أولًا: إن القيادات الثورية أغفلت إغفالًا يكاد أن يكون تامًا مطالب التغيير الاجتماعي؛ على أن تبرير ذلك واضح في طبيعة المرحلة التاريخية التي جعلت من طبقة ملاك الأراضي أساسًا للأحزاب السياسية التي تصدت لقيادة الثورة، ومع أن اندفاع الشعب إلى الثورة كان واضحًا في مفهومه الاجتماعي إلا أن قيادات الثورة لم تتنبه لذلك بوعي؛ حتى لقد ساد تحليل خاطئ في هذه الظروف ردده بعض المؤرخين؛ مؤداه أن الشعب المصري ينفرد عن بقية شعوب العالم بأنه لا يثور إلا في حالة الرخاء. ولقد استدلوا على ذلك بأن الثورة وقعت في ظروف الرخاء الذى صاحب ارتفاع أسعار القطن في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وذلك استدلال سطحي.....
 ثانيًا: إن القيادات الثورية في ذلك الوقت لم تستطع أن تمد بصرها عبر سيناء، وعجزت عن تحديد الشخصية المصرية، ولم تستطع أن تستشف - من خلال التاريخ - أنه ليس هناك صدام على الإطلاق بين الوطنية المصرية وبين القومية العربية. لقد فشلت هذه القيادات في أن تتعلم من التاريخ، وفشلت أيضًا في أن تتعلم من عدوها الذى تحاربه، والذى كان يعامل الأمة العربية كلها على اختلاف شعوبها طبقًا لمخطط واحد. ومن هنا فإن قيادات الثورة لم تنتبه إلى خطورة وعد "بلفور" الذى أنشأ إسرائيل لتكون فاصلًا يمزق امتداد الأرض العربية، وقاعدة لتهديدها؛ وبهذا الفشل فإن النضال العربي في ساعة من أخطر ساعات الأزمة حرم من الطاقة الثورية المصرية، وتمكنت القوى الاستعمارية من أن تتعامل مع أمة عربية ممزقة الأوصال مفتتة الجهد. واختصت إدارة الهند البريطانية بالتعامل مع شبه الجزيرة العربية ومع العراق، وانفردت فرنسا بسوريا ولبنان، بل وصل الهوان بالأمة العربية في ذلك الوقت إلى حد أن جواسيس الاستعمار تصدروا قيادة حركات ثورية عربية، وكانت بأمرهم وبمشورتهم تقام العروش للذين خانوا النضال العربي، وانحرفوا عن أهدافه. كل هذا والحركة الثورية الوطنية في مصر تتصور أن هذه الأحداث لا تعنيها، وأنها لا ترتبط مصيريًا بكل هذه التطورات الخطيرة.
 ثالثًا: إن القيادات الثورية لم تستطع أن تلائم بين أساليب نضالها وبين الأساليب التي واجه الاستعمار بها ثورات الشعوب في ذلك الوقت.
إن الاستعمار اكتشف أن القوة العسكرية تزيد ثورات الشعوب اشتعالًا؛ ومن ثم انتقل من السيف إلى الخديعة، وقدم تنازلات شكلية لم تلبث القيادات الثورية أن خلطت بينها وبين الجوهر الحقيقي، وكان منطق الأوضاع الطبقية يزين لها هذا الخلط.
... وهكذا انتهت الثورة بإعلان استقلال لا مضمون له، وبحريه جريحة تحت حراب الاحتلال، وزادت المضاعفات خطورة بسبب الحكم الذاتي الذى منحه الاستعمار، والذى أوقع الوطن باسم الدستور في محنة الخلاف على الغنائم دون نصر.
 وكانت النتيجة أن أصبح الصراع الحزبي في مصر ملهاة تشغل الناس، وتحرق الطاقة الثورية في هباء لا نتيجة له. وكانت معاهدة سنة 1936 التي عقدت بين مصر وبريطانيا، والتي اشتركت في توقيعها جبهة وطنية تضم كل الأحزاب السياسية العاملة في ذلك الوقت؛ بمثابة صك الاستسلام للخديعة الكبرى الذي وقعت فيها ثورة سنة 1919، فقد كانت مقدمتها تنص على استقلال مصر؛ بينما صلبها في كل عبارة من عباراته يسلب هذا الاستقلال كل قيمة له وكل معنى. "
 كان هذا تحليل الميثاق الذي سيطر على مناهج التعليم لسنوات رغم التراجع الجزئي للنظام عنه بعد هزيمة يونيو 1967.
 هل كانت أسباب الفشل التي حددها الميثاق الوطني لثورة 1919 أهدافًا للثورة بالفعل حتى نقول أنها فشلت في تحقيقها؟
 السبب الأول من وجهة نظر الميثاق الوطني يكمن في أن القيادات الثورية أغفلت إغفالًا يكاد أن يكون تامًا مطالب التغيير الاجتماعي.
 لا توجد ثورة في التاريخ تغفل البعد الاجتماعي، فلكل ثورة مطالبها الاجتماعية لكن هذه المطالب تختلف باختلاف طبيعة القيادة الثورية وموقعها الطبقي، الذي تتحدد على أساسه أهداف الثورة، ويبدو أن الميثاق كان يقصد بالبعد الاجتماعي تبني مطالب العمال والفلاحين والطبقات الشعبية في التغيير، ولم تدع قيادة ثورة 1919 في أي لحظة أنها تقود ثورة من أجل التغيير الاجتماعي أو إنها تحرك الجماهير من أجل الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية حتى نقول إنها فشلت بسبب غياب هذا البعد عنها، لقد أعلنت قيادة الثورة أهدافها منذ البداية كثورة وطنية ديمقراطية تسعى لتحقيق الاستقلال والدستور، وبعدها الطبقي كان واضحًا في حدود المطالبة بنصيب أكبر في السوق المحلي على حساب الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب، الأمر الذي تحقق جزئيًا وعلى مراحل متوالية طوال الحقبة الليبرالية، بينما كان موقف القيادة السياسية للثورة معاديًا لمطالب الطبقات الشعبية، وفي كثير من الأحيان مصادرًا لحقها في التنظيم المستقل، لكن الطابع شبه الليبرالي للمرحلة مكن تلك الطبقات من انتزاع بعض حقوقها التنظيمية خطوة بخطوة.
 أما السبب الثاني للفشل ـ وفقًا للميثاق ـ فكان غياب البعد العربي، "فالقيادات الثورية في ذلك الوقت لم تستطع أن تمد بصرها عبر سيناء، وعجزت عن تحديد الشخصية المصرية، ولم تستطع أن تستشف - من خلال التاريخ - أنه ليس هناك صدام على الإطلاق بين الوطنية المصرية وبين القومية العربية".
 لكن هل يمكن أن نأخذ هذا على القيادة الثورية سنة 1919؟ إن نضال الشعب المصري منذ أواخر القرن الثامن عشر كان نضالًا مصريًا خالصًا، وكان مفهوم النضال القومي لدى المصريين يعني النضال القومي المصري، ولم يكن هناك هدف مشترك يجمع بين نضال الشعب المصري والنضال الوطني في سوريا موطن الدعوة القومية العربية، بل كان هناك عدوًا مختلفًا لسنوات طويلة، فبينما كان المصريون يناضلون ضد الاستعمار الأوروبي المباشر (الإنجليزي) منذ 1882، وضد التدخل الأجنبي عموما قبل 1882، كان السوريون يناضلون ضد الاستعمار العثماني الذي ظهرت الحركة القومية العربية في مواجهته، وكانت الحركة العربية تتلقى الدعم من القوى الأوروبية في مواجهة العثمانيين، ولم يبدأ النضال الوطني في دول المشرق العربي ضد الاستعمار الأوروبي (البريطاني والفرنسي) إلا في مطلع العشرينيات بعد انتهاء مؤتمر الصلح وفرض الانتداب على الأملاك العثمانية السابقة في العالم العربي، ولم تكن الرابطة الثقافية بين المتكلمين بالعربية تعني أن هناك أمة عربية واحدة، ومع ذلك لم تغب فكرة التضامن النضالي أبدًا عن قادة الحركات الوطنية في مختلف بلدان العالم العربي طوال تلك المرحلة.
 أما السبب الثالث فكان عدم قدرة القيادات الثورية أن تلائم بين أساليب نضالها وبين الأساليب التي واجه الاستعمار بها ثورات الشعوب في ذلك الوقت.
 والحقيقة أن ثورة 1919 أنتجت أشكالًا نضالية متنوعة ومتعددة ومتغيرة بتغير الظروف طوال الحقبة الليبرالية، وكانت التوكيلات الشعبية للوفد أول هذه الأشكال النضالية وأهمها، لقد كانت التوكيلات وسيلة لحشد الجماهير والدعاية لأهداف الثورة ولتشكيل مجموعات منظمة نشطت لعدة شهور ونجحت في تفجير الثورة والاستمرار بها إلى أن أرغمت السلطات البريطانية على التراجع، كما كانت في نفس الوقت بمثابة عقد وكالة واتفاق بين الشعب وقيادته، تلزم هذه القيادة بعدم الخروج عن حدود الوكالة، وتحدد أهداف النضال وتقييد إمكانيات التنازل، وقد ظهر ذلك جليًا عندما قبل سعد زغلول تشكيل الوزارة بعد الانتخابات البرلمانية التي اكتسحها الوفد عقب صدور دستور 1923، لقد رد سعد على الملك فؤاد في خطاب قبوله تشكيل الوزارة معلنا أنه يقبل تشكيل الوزارة في حدود الشروط التي تقبلها الأمة.
 وطوال مرحلة الثورة وما أعقبها استخدمت كل الأشكال النضالية وفقا للظروف، لجأت إلى أشكال الاحتجاج السلمي كجمع التوقيعات على العرائض والخطابات المفتوحة للسلطات وللمجتمع الدولي والإضرابات والاعتصامات والتظاهر السلمي والمقاطعة بما فيها حملات مقاطعة البضائع الأجنبية، كما لجأ الثوار إلى الأشكال العنيفة كقطع السكك الحديدية وخطوط التلغراف والطرق البرية، والأعمال المسلحة المختلفة ضد قوات الاحتلال، ووصل الأمر في نهاية الحقبة الليبرالية إلى إتباع أسلوب الكفاح المسلح المنظم ضد الوجود البريطاني في منطقة القناة، وأبدعت الثورة سنة 1919 وفي ذروة الأحداث شكل نضاليًا جديدًا تمثل في إعلان استقلال بعض المدن وإدارتها إدارة ذاتية، وأشهرها جمهورية زفتى.
 كان المصريون يبتكرون الأشكال النضالية الملائمة لكل مرحلة، حقًا لم يحققوا نصرًا بالضربة القاضية لكنهم نجحوا في انتزاع مكاسب تدريجية.
 أما الصراع الحزبي الذي يعتبره الميثاق الوطني "ملهاة تشغل الناس، وتحرق الطاقة الثورية فى هباء لا نتيجة له"، فأمر طبيعي في النظم الديمقراطية وأظن أنه ميزة أساسية من مميزات الحقبة الليبرالية في تاريخنا وليست عيبًا، لقد تشكل الوفد المصري وفي البلاد حزبًا واحدًا متبقيًا من مرحلة ما قبل الثورة أعني الحزب الوطني، وكان الوفد مجمعًا للتيارات السائدة في الساحة السياسية المصرية وقتها، وسرعان بدأت الانقسامات داخل الوفد المصري حول المواقف السياسية، كان الانقسام الأكبر بخروج المجموعة التي شكلت حزب الأحرار الدستوريين، وتوالت الانقسامات داخل الوفد حتى أن معظم الأحزاب المؤثرة خلال الحقبة الليبرالية أو قيادتها على الأقل خرجت من جعبته، ما عدا الحزب الوطني والحزب الديمقراطي الذي تأسس من مجموعة من الشباب انضم أبرزهم إلى حزب الأحرار الدستوريين فيما بعد، ثم الأحزاب العقائدية: الحزب الاشتراكي ثم الحزب الشيوعي وحزب مصر الفتاة المتأثر بالفاشية. أما جماعة الإخوان فقد نشأت في أحضان شركة قناة السويس الأجنبية وبدعم مالي منها، وسعت لضرب قيم الوطنية المصرية وشق وحدة الأمة مسخرة نفسها كأداة في يد القصر والحكومات المعادية للشعب. إلى أن أتى انقلاب يوليو على كل قيم النضال الديمقراطي في مصر الحديثة مرسخًا الحكم الشمولي مصادرًا الحق في التعددية والتنظيم المستقل، فكان طبيعيًا أن يرى الميثاق في الحزبية شيئًا معيبًا.      
 كانت رؤية ميثاق نظام يوليو 1952 لثورة 1919 تتضمن الإجابة المؤكدة بأن الثورة قد فشلت، وحدد الميثاق أسباب فشلها في غياب البعد الاجتماعي والبعد العربي وافتقاد الأدوات النضالية الملائمة؛ فهل حقا فشلت الثورة؟
 لكي نجيب عن السؤال لابد أن نحدد ما الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، ومدى تحقيقها لتلك الأهداف، حتى نستطيع أن نجيب عن السؤال، بالإيجاب أو النفي، ونقول أن الثورة قد نجحت أو نقول أنها فشلت، بدلًا من أن نحاكمها على أهداف افتراضية لم يضعها قادة الثورة ولا جماهير الثائرين.
 لقد بدأت أحداث الثورة يوم 9 مارس 1919 ردًا على نفي الزعماء، سعد وزملاؤه إلى مالطة، إذن كان المفجر المباشر للثورة الذي حولها من حركة سلمية هادئة إلى ثورة عارمة عنيفة القبض على زعماء الوفد ونفيهم، هذا التصرف الذي قامت به سلطات الاحتلال البريطاني حول حركة جمع التوكيلات للوفد المصري وسعي الوفد للسفر لمؤتمر الصلح، تلك الحركة التي ولدت يوم 13 نوفمبر 1918، من حركة سلمية إلى ثورة عنيفة.
 ومن هنا فقد كان الهدف الأول للثورة عودة الزعماء المنفيين والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح، وقد رضخت سلطات الاحتلال قبل مرور شهر على الثورة وأفرجت عن الزعماء، وسمحت لهم بالسفر إلى باريس، وألغت القيود على سفر المصريين لخارج البلاد، استجابة لمطلب ألح عليه المصريون منذ انتهاء الحرب العظمى في نوفمبر سنة 1918، وكان تعنت السلطات العسكرية البريطانية وفرضها القيود على سفر المصريين بمن فيهم رئيس الوزراء سببًا في استقالة وزارة حسين باشا رشدي.
 وهكذا تحقق أول انتصار للثورة بالإفراج عن الزعماء المنفيين وسفرهم لباريس وإقرار مبدأ حق المصريين في السفر للخارج، وقياسًا على ما حدث لأحمد عرابي وزملائه من زعماء الثورة العرابية الذين طال نفيهم لسنوات فقد كان هذا نجاحًا لثورة 1919 لا شك فيه وتحقيقًا للهدف المباشر الذي انفجرت الثورة من أجله.

 أما الأهداف الأهم والأعمق والأبعد للثورة فهي نفس أهداف النضال الشعبي المصري التي أخذت تتبلور تدريجيًا منذ ثورة المصريين في يوليو سنة 1795 ضد طغيان مراد بك وإبراهيم بك زعيمي المماليك، لقد أخذت أهداف المصريين تسير في اتجاه أساسي: انتزاع حقهم في إدارة أمور بلادهم بأنفسهم، أو ما عبرت عنه الحركة الوطنية المصرية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر وصاغته في شعار "مصر للمصرين"، ذلك الشعار الذي تحول منذ مطلع القرن العشرين إلى مطلبين محددين: الاستقلال والدستور، وكان المطلبان هدفين كبيرين لثورة 1919.
 واتسم النضال من أجل تحقيق الاستقلال والدستور عبر عقود طويلة بالتدرج والمعارك الجزئية الصغيرة والكبيرة، المعارك التي يتحقق من خلالها نصر هنا وآخر هناك لنصل إلى الهدف في النهاية.
 وكانت ثورة 1919 واحدة من هذه المعارك، بل أكبرها وأهمها، فماذا حقق الشعب فيها من خطوات في اتجاه تحقيق الهدفين الكبيرين لنضاله: الاستقلال والدستور؟
 لقد نجحت الثورة في إلغاء الحماية رغم إقرار مؤتمر الصلح لها، فكان لاستمرار الثورة لأسابيع وشهور بعد الإفراج عن الزعماء أثره في إنهاء الحماية البريطانية على مصر وسعي بريطانيا للدخول في مفاوضات لتحديد شكل علاقتها بمصر، وفي هذا السياق تشكلت لجنة ملنر البريطانية لتضع تصورًا من خلال استطلاع رأي المصريين، ومرة أخرى كانت مقاطعة المصريين للجنة تعبيرًا عن استمرار الثورة ورفض المماطلة البريطانية، حتى أضحى هذا الموقف مثلًا في الثقافة المصرية يشير إلى حدة المقاطعة والخصام، عندما توصف مقاطعة إنسان لآخر بأنها "ولا مقاطعة لجنة ملنر"، أو عندما يقول شخص مبينًا موقفه من شخص آخر "هأطعة مأطعة لجنة ملنر".
 لقد انتجت الثورة بعد ثلاث سنوات الاعتراف باستقلال مصر من جانب واحد بصدور تصريح 28 فبراير سنة 1922، الذي اعترفت فيه بريطانيا بمصر مملكة مستقلة، مع بعض التحفظات التي شكلت انتقاصًا من هذا الاستقلال. كان التصريح تعبيرًا عن التوازن الذي انتهى إليه الحال بعد ثورة 1919، فاستمرار الحماية مستحيل، لكن حركة الجماهير أضعف من أن تحقق الاستقلال التام في ضربة واحدة، وقد أفرز الواقع الجديد دستورًا للبلاد، دستور 1923 الذي كان يعد من أفضل الدساتير في تاريخ مصر، وكذلك حياة نيابية تقوم على التعددية الحزبية، وكانت الحياة النيابية ومبدأ المواطنة المصرية الذي صاغته ثورة 1919 من خلال شعارها الملهم "الدين لله والوطن للجميع" من أهم المكاسب التي حققتها ثورة 1919 في طريق النضال من أجل الدستور والاستقلال.
 وطوال الحقبة الليبرالية استمرت الروح الثورية وتجددت في مواجهة استمرار الوجود العسكري البريطاني والامتيازات الأجنبية، كما تصاعدت الحركات الجماهيرية في مواجهة الانقلابات الدستورية وفي مقدمتها انقلاب إسماعيل صدقي سنة 1930.
 كما فتحت الثورة آفاق بعث جديد في الفنون تجلى في مجالات الفنون التشكيلية والموسيقى والغناء وتحول وضع هذه الفنون بعد الثورة والتحمت بالجماهير وقضاياها، وفي الآداب تطورت الكتابة الروائية والكتابة المسرحية بشكل لافت للنظر وارتبطتا بالتحولات الاجتماعية الجديدة.
 وفي الاقتصاد كانت الثورة دافعًا لحلم راود المصريون منذ عقود، حلم بناء اقتصاد وطني في مواجهة الامتيازات الأجنبية ورغمًا عن وجودها، فشهدت البلاد نهضة صناعية جديدة أثرت على المجتمع كله وعلى أفكاره.
 كما كانت الثورة دافعة للانطلاقة السياسية للمرأة المصرية ولسعي قوي من أجل انتزاع حقوقها.
  بعد كل هذا فالإجابة على السؤال في ضوء ما تحقق من أهداف: نجحت ثورة 1919، نجحت في تحقيق أهدافها المباشرة، لكنها كغيرها من ثورات المصريين ثورة ناقصة لم تكتمل...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...