السبت، 28 مارس 2015


مختار وإضراب مدرسة الفنون الجميلة

صفحات منسية من تاريخ الحركة الطلابية المصرية

عماد أبو غازي
  في يوم 12 مايو 1908 تم افتتاح مدرسة الفنون الجميلة في مصر، المدرسة التي حمل عبء تأسيسها على كاهله رجل واحد، هو الأمير يوسف كمال حفيد محمد علي، ويوسف كمال من الأمراء الذين لعبوا دورًا مهمًا في الحياة الثقافية والعلمية في مصر، فضلًا عن مواقفه الوطنية.
 خصص الأمير قصره بحي درب الجماميز ليكون مقرًا للمدرسة التي أسسها، وجلب لها الأساتذة من أوروبا إلى جانب بعض الفنانيين الأوروبيين المقيمين بمصر، وقد التحق بالدفعة الأولى في المدرسة 400 طالب وكان الالتحاق بالكلية مجانيًا، دون تقيد بسن أو جنسية أو مؤهل دراسي، ويقول بدر الدين أبو غازي في كتابه "مختار حياته وفنه": "في البدء تلقت مدرسة الفنون الجميلة خليطًا عجيبًا من سكان القاهرة، خليطًا تفاوت في كل شيء... في الجنس والسن والبيئة والثقافة، وفي مدى الاستعداد، تلقتهم المدرسة في كرم، وفتحت لهم أبوابها، ولكن الأساتذة لابلاني وفورشيللا وبيررون استطاعوا أن يلتقطوا أشعة المواهب التائهة وسط هذه الجموع، وما لبث الفضليون أن انصرفوا عن المعهد وبقى أكثر من مائة طالب بينهم فئة كان يلوح منها النبوغ وهؤلاء لقوا الأيدي التي رعتهم وكشفت عن مواهبهم، ورفعتهم إلى سماء جديدة فمضوا مبهورين بحب الفن وأصبح له في نفوسهم قداسة العبادة... من هذه القلة النادرة محمود مختار ومحمد حسن ويوسف كامل وراغب عياد".
مختار في مدرسة الفنون
وكانت مدرسة الفنون تضم أربعة أقسام: قسم التصوير وقسم النحت وقسم الزخرفة وقسم العمارة.


بورترية لمختار من أعمال زميله محمد حسن في مرحلة الدراسة
 
أول معرض لطلاب مدرسة الفنون وفي يسار الصورة تمثال محمد حسن من نحت مختار
المتسول من أعمال مختار في مرحلة الدراسة
 وسبق تأسيس مدرسة الفنون تأسيس الجامعة المصرية بعدة أشهر، فقد تم افتتاح الجامعة في 20 ديسمبر من عام 1908، وجاء افتتاح المدرسة والجامعة في وقت شهد ميلاد جديد للحركة الطلابية المصرية تواكب مع تأسيس نادي المدارس العليا في ختام سنة 1905 وافتتاح مقره وبداية ممارسته لنشاطه في أبريل 1906، حيث شهدت مصر في شهر فبراير 1906 أول إضراب طلابي تشارك فيه مدرسة من المدارس العليا بأسرها، وهي مدرسة الحقوق الخديوية، وفقًا لمؤرخنا عبد الرحمن الرافعي المعاصر لتلك الأحداث.
 ويذكر عبد الرحمن الرافعي الذي شارك في الإضراب أن الطلبة أجمعوا على الانقطاع عن الدراسة، وشكلوا لجنة تمثل جميع فرق المدرسة لتنظيم حركة الإضراب، الذي كان موجها ضد سياسة التعليم التي وضعها الاحتلال وفرضها مستشار التعليم الإنجليزي دنلوب على المدارس العليا المصرية، وكان الهدف الأساسي من وراء تلك السياسة الحيلولة دون ظهور نخبة مصرية مثقفة تستطيع قيادة الأمة في سعيها نحو الدستور والاستقلال، وقد أشار سعد زغلول الذي كان ناظرًا للمعارف في مذكراته إلى أن نظارته عرفت سياستين متقابلتين ومتعارضتين تعارضًا تامًا سياسته التي تسعى للتوسع في التعليم الوطني وسياسة المستشار دنلوب التي "ترمي إلى تضييق دائرة التعليم حتى لا تشمل إلا عددًا محصورًا من المتعلمين، ومقدارًا محدودًا من المعلومات، وإلى أن تكون وظائفه محصورة في الإنجليز خاصة، وإلى منع مواهب المصري من الظهور والنمو، حتى يبقى على الدوام ضعيفًا، قاصرًا عن إدارة شئون بلاده".
 وقد أدى الإضراب إلى ارتباط لم تنفصم عراه لسنوات بين الحركة الطلابية والحركة الوطنية، فقد كان تأييد جريدة اللواء لسان حال الحركة الوطنية المصرية لحركة الطلاب وتبنيها لمطالبهم جسرًا ربط بين الحركة الوطنية والحركة الطلابية في مصر، وسرعان ما أصبحت قيادة الحركة الوطنية المصرية في يد الطلاب الأمر الذي استمر حتى سبعينيات القرن العشرين، ولم يكن إضراب طلاب مدرسة الحقوق الخديوية نهاية المطاف لحركة الطلاب بل بداية قوية لتلك الحركة الوليدة، وكانت إيذانًا بربط المطالب الطلابية الخاصة بلوائح الدراسة ونظم التعليم بالمطالب الوطنية العامة وفي مقدمتها الدستور والاستقلال.
 كان إضراب طلاب مدرسة الحقوق العليا بداية لحركة طلابية متصاعدة، خاصة أن اتجاه سلطات الاحتلال ورجلها القوي في نظارة المعارف المستشار دنلوب في تلك الفترة كان لإصدار لوائح دراسية جديدة للمدارس العليا تقييد نشاط الطلاب وتحاصره بعد أن أصبح واضحًا منذ تأسيس نادي المدارس العليا أن الطلاب ارتبطوا بالنشاط الوطني المطالب بالجلاء والدستور، وأن تأثير تيار الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل قد أصبح طاغيًا بينهم.
 ومن تلك اللوائح التي أثارت حنق الطلاب لما فيها من القيود، اللائحة التي وضعت لمدرسة الفنون الجميلة في العام الدراسي 1909/ 1910، بعد افتتاح المدرسة بعام وعدة شهور، وعن موقف طلاب المدرسة من تلك اللائحة الجديدة وتصديهم لها في حركة طلابية جديدة قادها الطالب الشاب وقتئذ الفنان الرائد بعدها بسنوات قليلة محمود مختار، أرجع في سرد تلك الأحداث إلى ما كتبه بدر الدين أبو غازي في كتابه "مختار حياته وفنه" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1949، وطبعته الثالثة عام 2003، وأترك له الحديث، يقول بدر الدين أبو غازي: "كانت فكرة الحق الشخصي والحرية الفردية تتأكد وتستقر إلى جانب فكرة حرية الجموع وتحرر الوطن، يدعو إلى هذه مصطفى كامل ويدعو إلى تلك لطفي السيد. ونفذت هذه الأفكار إلى المدارس العليا فتوالت حركات الإضراب احتجاجا على ما وضعه المشرفون على الإدارة من قيود عدها طلبة الفن امتهانًا لهم.
 وقاد مختار هذه الحركة ووقف يخطب في جموع الطلبة وينادي بهتافات ثائرة وتطور الأمر إلى حد دعا الناظر إلى فصله مع خمسة عشر زميلًا كانوا يمثلون خلاصة النبوغ في المدرسة، وفي مقدمة هؤلاء محمد حسن ويوسف كامل". أصبح يوسف كامل فيما بعد رائد فن التصوير الحديث في مصر إلى جانب زميله راغب عياد ومجايله محمود سعيد، أما محمد حسن فقد ترك بصمة مهمة في فن التصوير رغم أنه كان مقلًا في إنتاجه الفني، أما دوره الأساسي فجاء من خلال نشاطه الوظيفي في بناء مؤسسات الدولة في مجال الفنون التشكيلية، وتولى رئاستها.
 أعود إلى مصير الطلاب المفصولين كما رواه بدر الدين أبو غازي في كتابه، يقول: "ومضى الطلبة مزهوين ببطولتهم واصطحبوا معهم أحد شعراء الربابة وقضوا بقية اليوم في بيت مختار يستمعون إلى قصة عنترة، ولكنهم أخذوا مع مرور الأيام يفتقدون النبع الذي التقوا حوله ويحسون خواء حياتهم وعز عليهم أن تنقطع بينهم وبين معهدهم كل الصلات فاستأجروا دكانًا على مقربة منه نسقوا فيه أعمالهم الفنية لتجذب أنظار الجمهور في غدوه ورواحه، وهناك كانوا يلتقون ويستعيدون دروسهم الفنية ويرددون في زهو الأسماء الكبرى التي كانوا يسمعونها من أساتذتهم. وفي المساء ينصرف الرفاق ويعود مختار إلى بيته فيجمع جيران الحي ويظل يحدثهم عن الفن ويعلمهم بعض ما تلقاه.
 وأمدهم هذا الجو الذي أحاطوا به أنفسهم بشيء من السلوى والعزاء إلى أن أعادهم الأستاذ لابلاني إلى معهدهم إشفاقًا على ضياع مواهبهم وعادت الأسباب بينهم وبين الفن من جديد".

 مختار في نهاية مرحلة الدراسة 1911
هذا ولم تكن مشاركة مختار وقيادته لحركة طلبة مدرسة الفنون الجميلة أول إسهام له في النضال الطلابي، فقبلها بشهور شارك مختار مع زملاء له في مظاهرات عامة مطالبة بالدستور ومنددة بالقيود على حرية الصحافة، وقد صادف صديقي الراحل السوسيولوجي محمد حاكم نصًا في مذكرات سعد أرشدني إليه يتحدث فيه عن تلك الواقعة، يقول سعد الذي كان ناظرًا للمعارف وقتها: "في 31 مارس 1909 تظاهر كثير من الناس والطلبة، وطافوا الشوارع بعد أن خطبوا خطبًا مهيجة في حديقة الجزيرة، وألقوا أشعارًا غاية في الحماسة، وتقرر محاكمة الخطباء على تهيجيهم، وطعنهم في الخديوي ووزارته.
 وقبض على تلميذ من الخديوية يدعى عباس حلمي، وآخر من يدعي مختار، من مدرسة الفنون الجميلة، وحكم على كل منهما ـ في اليوم التالي ـ بالحبس 20 يوما، نظير تعديهما على رجال البوليس بالضرب، وقد رفت الأول لذلك.
  ثم حصلت مظاهرة أخرى في اليوم التالي من الطلبة في الجامع الأزهر، والمدارس على اختلاف أنواعها. لكن البوليس أراد صرف المتظاهرين في ساحة الأوبرا، وصدهم عن السير في شارع كامل، فلم يمتثلوا، فاستعمل الشدة معهم، بأن زحف عليهم بخيلة ورجاله، ورش الماء عليهم بمضخات الحريق، فتفرقوا.
 ونادت الجرائد، في اليوم التالي، بالويل والثبور وعظائم الأمور، واتهمت رجال البوليس بالقسوة البالغة، والشدة الفائقة".
  أما بدر الدين أبو غازي مؤرخ حياة مختار فقد ذكر تفاصيل أخرى تكمل الصورة حيث قال: "شارك مختار في المظاهرات مع الجموع الثائرة يطالب بالدستور ويهتف به. وعندما يشهد حكمدار القاهرة الإنجليزي يدهم جموع المتظاهرين ينقض على حصانه ويجذبه فيهوي به إلى الأرض، ويقبض عليه ويودع السجن مع جموع من فتيان الشعب".
 إنه صفحة أخرى من حياة مختار وصفحة منسية من نشاط طلاب مصر في مطلع القرن الماضي، تعكس التحامهم بالحركة الوطنية في فترة الاختمار التي مهدت للثورة الشعبية الوطنية الديموقراطية، ثورة 1919.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...