الجمعة، 20 مارس 2015


المرأة المصرية على خط المواجهة

عماد أبو غازي

 عاش الشعب المصري منذ أواخر القرن الثامن عشر قصة كفاح من أجل مطلبين أساسيين الاستقلال والمشاركة في إدارة أمور البلاد، وخلال هذه المسيرة الطويلة كانت المرأة المصرية شريكًا للرجل.
 فقد شهد عام 1798 خروج المرأة المصرية مع الرجال جنبًا إلى جنب للتصدي لقوات الحملة الفرنسية على مصر بقيادة بونابرت، ففي عديد من قرى مصر ومدنها كانت مشاركة النساء في مقاومة الحملة واضحة ومؤثرة، لا تقل بحال من الأحوال عن مشاركة الرجال، حيث تذكر المصادر المعاصرة للحملة أحداث المقاومة الشعبية التي شملت البلاد كلها منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها أقدام الجنود الفرنسيين أرض مصر، وفي كل هذه الأحداث يظهر دور المرأة المصرية واضحًا.
 فعندما نزلت الجيوش الفرنسية الإسكندرية في يوليو 1798 احتشد الأهالي رجالًا ونساء وهم يحملون السلاح فوق الأسوار وفي الأبراج للدفاع عن المدينة، وتذكر المصادر الفرنسية أن بونابرت كاد يفقد حياته في يومه الأول عندما أطلق عليه رجل وامرأة النار من نافذة منزل بحارة من حارات المدينة، وقد نجا بونابرت بأعجوبة ـ حسب رواية سكرتيره الخاص بين ـ واستمر الرجل والمرأة يطلقان النار حتى هاجم الفرنسيون منزلهما وقتلوهما.

 
 وعندما وصلت القوات الفرنسية إلى المنوفية في شهر أغسطس 1798 تصدى أهالي غمرين وتتا للفرنسيين، ويذكر أحد ضباط الحملة في مذكراته أن الجيش الفرنسي قتل من الأهالي في القريتين ما يزيد على أربعمائة بينهم عدد من النساء كن يهاجمن جنود الحملة بكل بسالة وإقدام.
 وفي نفس الشهر ثار أهالي المنصورة والبلاد المجاورة على الحامية الفرنسية في المدينة وأبادوها عن أخرها وحرروا المدينة لعدة أيام، وقد شارك في الثورة أهل المدينة كلهم رجالًا ونساء، كما تذكر التقارير الفرنسية، وكانت النساء يقاتلن، كما كن يحرضن أزواجهن على القتال.
 ومع استمرار الحملة الفرنسية في التوغل داخل البلاد استمرت المقاومة واستمرت مشاركة المرأة المصرية فيها، ففي فبراير من عام 1799 ساهمت نساء النوبة في التصدي لقوات الحملة التي حاولت الاستيلاء على جزيرة فيلا جنوب أسوان، ويذكر قائد الحملة على أسوان الجنرال بليار في يومياته أنه قد رأى النساء وهن ينشدن أناشيد الحرب ويقذفن التراب في وجه الجنود الفرنسيين.
 وكان من الطبيعي أن تدفع تلك المشاركة النسائية في الدفاع عن الوطن نساء مصر إلى المطالبة بحقوقهن التي ضاع بعضها في عصور الظلام، وتذكر الدكتورة إجلال خليفة في كتابها المهم عن تاريخ الحركة النسائية المصرية ـ والعهدة على كلوت بك أول عميد لمدرسة الطب ـ أن رشيد شهدت في عام 1799 أول "مؤتمر نسائي" في تاريخ مصر الحديث، عندما اجتمعت مجموعة من نساء رشيد في أحد الحمامات العامة بالمدينة للتداول في أوضاعهن وما يجب عليهن عمله من أجل إصلاحها.
 
 
 وبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر سنة 1801، لم تتوقف مشاركة المرأة المصرية في النضال الشعبي، فترصد المصادر التاريخية في عصر الفوضى الممتد بين عامي 1801 و1805، مشاركات النساء في حركات الاحتجاج الشعبي ضد السياسة المالية للباشاوات العثمانيين التي تفجرت في عام 1801، وقد أرغمت تلك الحركة الوزير التركي على الاستجابة لمطالب المصريين مؤقتًا على الأقل، وبعد أشهر قليلة تجددت المظالم، فتجددت حركة الاحتجاج بقيادة النساء هذه المرة كما يذكر الجبرتي مؤرخ ذلك العصر، وتحكي المصادر أيضًا عن مظاهرة شعبية كبيرة بقيادة نساء حي باب الشعرية احتجاجًا على مقتل أحد فتوات الحي على يد والي القاهرة، وكان الفتوات في ذلك العصر يلعبون دورًا مهمًا في حماية الأحياء الشعبية، ويُعتبرون أبطالا لدى أولاد البلد، وأصرت المتظاهرات على المطالبة بالقصاص من الوالي، وانظم بعض المشايخ إلى المظاهرة، وتوجه الجميع إلى القلعة مقر الحكم مطالبين بقتل الوالي، الأمر الذي أرغم الحاكم التركي على دفع فدية كبيرة لأهالي حي باب الشعرية وعزل والي المدينة من منصبه، تدل الواقعة على انغماس مبكر للمرأة المصرية ابنة الأحياء الشعبية في العمل العام وفي النضال ضد الاستبداد والظلم.
 وفي سنتي 1803 و1804 تتزايد مظالم عثمان بك البرديسي، ويتصدى المصريون لهذه المظالم، وتخرج نساء حي بولاق في مظاهرة ضخمة احتجاجا على المبالغة في فرض الضرائب وهن يحملن الدفوف وبعض الأدوات المنزلية النحاسية، صائحات: "إيش تاخد من تفليسي يا برديسي"، تلك الكلمات التي ابتكرتها امرأة مصرية وصارت كناية تستخدم للدلالة على المغالاة في الظلم والمبالغة في فرض الضرائب على الفقراء، وسرعان ما انضم الرجال وبعض الجنود الأتراك أيضًا إلى المظاهرة النسائية، وسار الجميع إلى الجامع الأزهر ومنه إلى القلعة مطالبين بعزل عثمان بك البرديسي، أكبر أمراء المماليك.
 
 
 وتستمر مشاركة المرأة المصرية في النضال ضد الاستبداد والظلم، ففي عام 1805 يسجل التاريخ أن نساء حي مصر القديمة شاركن في مظاهرة شعبية توجهت إلى الجامع الأزهر للاحتجاج على اعتداءات الجنود المستمرة على الأهالي، وكانت هذه المظاهرة البداية الحقيقية للثورة الشعبية التي قادها نقيب الأشراف عمر مكرم وشيخ طائفة الخضرية حجاج الخضري، والتي انتهت بإجبار السلطان العثماني على عزل خورشيد باشا وتولية محمد علي باشوية مصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...