أيام الديمقراطية الأخيرة
مارس 1954 الشهر الفاصل في تاريخ مصر
عماد أبو غازي
وصل الأمر في نهاية
شهر فبراير 1954 إلى نقطة أصبحت فيها مصر على شفا صدام عنيف بين أطراف الصراع،
أنصار الديمقراطية من ناحية وأنصار الحكم الاستبدادي الذين كانوا يرفعون شعار
"استمرار الثورة" من ناحية أخرى، فقد أخذت بوادر الصدام شكلًا خطيرًا
عندما حاصرت مجموعات من الأسلحة المختلفة سلاح الفرسان باعتباره الداعم الرئيسي
لجناح محمد نجيب ـ خالد محيي الدين، وعندما خرجت المظاهرات الشعبية إلى الشارع
واصطدمت بها قوات البوليس الحربي والشرطة وسقط جرحى من الجانبين، ورغم قرار إغلاق
الجامعات واعتقال أكثر من مائة من قوى سياسية مختلفة من الإخوان والوفديين
والشيوعيين والاشتراكيين وغيرهم فقد استمرت حركة المطالبة بالديمقراطية في تصاعد.
وهذا ما اضطر عبد الناصر إلى أن يتجه اتجاهًا جديدًا ويغير من خطته، ويقبل
بعودة نجيب لكن دون تولي خالد محيي الدين رئاسة الوزارة مع استمراره هو نفسه في
المنصب، لكن إلى حين.
ومع تصاعد الاصطفاف
خلف محمد نجيب من معظم القوى التي تدافع عن الديمقراطية، واستمرار محمد نجيب في
مهاجمة كل الإجراءات المعادية للديمقراطية، اتخذ مجلس قيادة الثورة مجموعة من
القرارات المهمة يومي 4 و5 مارس 1954: ونصت هذه القرارات على اتخاذ الإجراءات
فورًا لتشكيل الجمعية التأسيسية بالانتخاب المباشر، على أن تجتمع يوم 23 يوليو
1954 وتتولى مهمة وضع دستور للبلاد، كما تباشر سلطات البرلمان لحين وضع الدستور
وانتخاب برلمان جديد، كما تقرر إلغاء الرقابة على الصحف والنشر اعتبارًا من يوم 6
مارس 1954، والتعهد بإنهاء العمل بالأحكام العرفية قبل انتخاب الجمعية التأسيسية.
وفي 8 مارس صدر قرارًا
بأن يجمع محمد نجيب مناصب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس
الوزراء، ويعود عبد الناصر نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ونائبًا لرئيس مجلس قيادة
الثورة، كما صدر مرسوم في نفس اليوم بتعيين نجيب حاكمًا عسكريًا عامًا.
وبصدور قرارات 8مارس
بعودة سلطات نجيب كاملة وتقليص دور جمال عبد الناصر بدا الأمر كما لو كان الاتجاه
الداعي للديمقراطية قد حقق الانتصار في معركته، وبدأ أعضاء مجلس قيادة الثورة
يناقشون مستقبل تنظيم الضباط الأحرار ويدرسون تشكيل حزب جمهوري أو اشتراكي جمهوري،
وكان الأكاديمي اليساري الدكتور راشد البراوي يعاونهم في صياغة برنامجه.
وطوال الأيام التالية
من شهر مارس كان كل فريق يحشد قواه: معسكر أنصار الديمقراطية الذي يضم عديد من
القوى السياسية القديمة وعلى رأسها حزب الوفد، كما يضم الاشتراكيين والشيوعيين
وفئات واسعة من المثقفين والمهنيين والأكاديميين وطلاب الجامعات، تمثلهم نقابات
الصحفيين والمحامين وجمعيات أعضاء هيئات التدريس بالجامعات والاتحادات الطلابية،
كما كانت العديد من النقابات العمالية ضمن هذا التحالف من أجل الديمقراطية.
وعلى الجانب الأخر
كانت بعض القوى السياسية القديمة التي كانت تتخذ موقف العداء من حزب الوفد وتخشى
من عودة الديمقراطية والحياة النيابية والحزبية حتى لا يسيطر الوفد على الساحة
السياسية، وكان هذا الفريق يضم عددًا من رجال القانون الذين مكنوا لرجال يوليو
طوال ما يقرب من عاميين من إلغاء الدستور وتجاوز البرلمان المنتخب وروجوا لمقولة
"الشرعية الثورية" التي ذبحت الديمقراطية بسكينها.
أما موقف الضباط
الأحرار فيلخصه الرئيس محمد نجيب في مذكراته بقوله: "أما الضباط الأحرار، فقد
كان البعض منهم يرتبط بمبادئ يقتنع بها، جانب منهم وقف معي، مع الديمقراطية، وتعرض
من ذلك لأخطار حرمتهم فيما بعد من حريتهم والأمن في مستقبلهم، وجانب آخر وقف مع
جمال عبد الناصر معتقدًا أن موقفي يعتبر تراجعًا عن أهداف الثورة. والبعض منهم لم
يكن مرتبطًا بأية مبادئ، كان حريصًا على المحافظة على مصالح نعم بها واستفاد منها،
وجانب منهم كان قد تورط في أعمال قذرة جعلتهم يواجهون خطر المحاكمة إذا ذهبت اليد
المساندة لهم".
وبدأ المعسكر
الديمقراطي يصعد من هجومه مطالبًا بإنهاء الأحكام العرفية فورًا وعودة الجيش إلى
ثكناته وابتعاده عن العمل السياسي، والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين فورًا،
وعودة الأحزاب السياسية، وفي نفس الوقت كان نجيب يسعى لإصدار تشريع يتم بمقتضاه
استفتاء الشعب على النظام الجمهوري وعلى اختياره لرئاسة الجمهورية في تلك المرحلة
الانتقالية، في محاولة منه كما يقول: "للحصول على تفويض شعبي يجعل اتجاهي
للديمقراطية ذا صفة شرعية".
ووضع سليمان حافظ
المعادي للوفد والدكتور عبد الجليل العمري مشروعًا لنظام الحكم أثناء الفترة
الانتقالية تضمن تنظيم العلاقة بين رئيس الجمهورية ومجلس قيادة الثورة، كما تضمن
النص على إنهاء الأحكام العرفية في 18 يونيو 1954 ذكرى إعلان الجمهورية، وإجراء
انتخابات الجمعية التأسيسية على أساس غير حزبي، وإجراء استفتاء شعبي على إعلان
الجمهورية وتعيين الرئيس نجيب وقانون الإصلاح الزراعي، دون تحديد موعد لإجراء
الانتخابات أو الاستفتاء.
ومع استمرار الضغوط من
المعسكر الديمقراطي من أجل الإسراع بإجراءات العودة للديمقراطية، خاصة في ظل
استمرار اعتقال القيادات السياسية وتعرضهم للاعتداءات في السجن الحربي، عقد مجلس
قيادة الثورة اجتماعًا في 25 مارس 1954 طرح فيه عبد الناصر مشروع قرار "تصفية
الثورة"، واقترح عبد اللطيف بغدادي مشروعًا مضادًا بإلغاء قرارات 5 مارس
و"استمرار الثورة" والتوسع في إجراءات التطهير والمحاكمات، بينما اقترح
خالد محيي الدين بديلًا ثالثًا بالإبقاء على قرارات 5 مارس وإجراء الانتخابات على
أساس غير حزبي وحرمان من طُبق عليهم قانون الإصلاح الزراعي أو شاركوا في إفساد
الحياة السياسية أو أيدوا قوانين معادية للحريات من المشاركة، مؤكدًا إن
الانتخابات ومعركة الدستور ستفرز قوى سياسية جديدة وأحزابًا جديدة.
وهنا أصر عبد الناصر
على التصويت على واحد من اقتراحين فقط، اقتراحه الذي حصل على ثمانية أصوات،
واقتراح بغدادي الذي حصل على أربعة أصوات فقط هي أصوات جمال سالم وصلاح سالم وحسن
إبراهيم بالإضافة إلى بغدادي نفسه.
وعندئذ صدرت قرارات 25
مارس 1954، والتي نصت على أن يتم حل مجلس قيادة الثورة يوم 24 يوليو 1954 مع عدم
السماح للمجلس بتكوين حزب سياسي، وعلى السماح بقيام الأحزاب، كما نصت على عدم جواز
الحرمان السياسي، وعلى إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية بحرية كاملة، وأن يكون
لها سلطة البرلمان.
لكن هل كان هناك
انقسام حقًا داخل مجلس قيادة الثورة؟
ذهب الدكتور عبد
العظيم رمضان في كتابه "عبد الناصر وأزمة مارس 1954" إلى "أن
الاقتراحين بتخطيط واحد."، وأظنه كان محقًا تمامًا في ذلك، فقد رأى عبد
الناصر وقتها أن المخرج الوحيد من الأزمة أن يصل بالأمور إلى منتهاها، ليستنفر
أقصى طاقة القوى الرافضة لعودة الديمقراطية.
وهذا ما حدث بالفعل في
الأيام التالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق