الأربعاء، 11 مارس 2015


أيام الثورة

عماد أبو غازي
 منذ اليوم الثالث للثورة وعلى مدار شهر كامل أخذت الثورة تتسع، والشهداء يتساقطون، في اليوم الثاني للثورة سقط شهيدان مجهولان، وفي اليوم الثالث سقط أول الشهداء الذين عرفت أسماؤهم، الطالب محمد عزت البيومي، الذي استشهد برصاص الإنجليز عند كوبري شبرا من ناحية باب الحديد، وقد حقق وفاته المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919.
 وإذا كان طلاب المدارس العليا والمدارس الثانوية هم الذين فجروا الثورة، إلا أن الثورة امتدت بسرعة إلى مختلف فئات الأمة، فانضم إليها طلاب الأزهر وسائقو الترام والأتوبيس والأجرة، كما انضمت جموع المواطنين في الشوارع إلى المظاهرات فزادتها قوة.

  وانضم المحامون إلى الثورة، فأضربوا عن العمل ابتدأ من يوم 11 مارس سنة 1919، وأصدروا بيانًا يعلنون فيه إضرابهم جمعوا عليه التوقيعات فيما بينهم، وقد اتخذ مجلس نقابتهم قرارًا بتأييد الإضراب وأبلغ المجلس القرار لرئاسة محكمة الاستئناف، ورغم محاولة وزارة الحقانية بتعليمات من السلطات البريطانية إحباط الإضراب إلا أن معظم القضاة تعاطفوا مع موقف المحامين، وكان إضراب المحامين قد اتخذ طابعًا قانونيًا، حيث تقدم المحامون أفرادًا ومجموعات بطلبات إلى رئاسة محكمة الاستئناف لنقلهم إلى جداول غير المشتغلين.
وفي القاهرة شهد يوم الجمعة 14 مارس مظاهرات عنيفة بشارع عباس (رمسيس حاليًا) والسيدة زينب سقط فيهما ثلاثة عشر شهيدًا وسبعة وعشرين جريحًا برصاص الإنجليز، كما سقط اثنًا عشر مصليًا قتلى برصاص الإنجليز بعد أدائهم صلاة الجمعة بمسجد الحسين، حيث تصور الجنود البريطانيون أن المصليين المغادرين للمسجد عقب الصلاة متظاهرين ففتحوا عليهم النيران بشكل عشوائي. 
 
    
وفي اليوم التالي، يوم السبت 15 بدأ إضراب عمال عنابر السكك الحديدية، وامتد إغلاق التجار للمحال التجارية إلى المناطق الشعبية بعد أن كان قاصرا على منطقة وسط المدينة.
 وفي يوم 16 مارس انضمت النساء إلى الثورة في أول مظاهرة نسائية في الثورة شاركت فيها قرابة 300 إمرأة تتقدمهن السيدة هدى شعراوي، وتلتها مظاهرة نسائية أخرى يوم 20 مارس.

 صفية زغلول ومجموعة من السيدات
أما أكبر مظاهرات الثورة في القاهرة وأكثرها تنظيمًا فكانت مظاهرة 17 مارس التي شارك فيها أكثر من 50 ألف متظاهر واستمرت لثمان ساعات منطلقة من الأزهر مرورًا بالحلمية الجديدة وعابدين ووسط المدينة منتهية قرب ميدان باب الحديد دون أن يحدث فيها حادث عنف واحد، وكان الثوار قد شكلوا فرق للشرطة الوطنية تضع شرائط حمراء على أذرعها لحماية المظاهرات وتنظيمها وضمان عدم وقوع حوادث اعتداء على الممتلكات الخاصة، وكانت تلك المظاهرة من المظاهرات القليلة التي لم تشهد اعتداءات من القوات العسكرية البريطانية على المتظاهرين.

 لم تكتف السلطات البريطانية بإطلاق النار على المتظاهرين، بل بدأت تشدد من إجراءاتها فشكلت محاكم عسكرية في الشوارع لمحاكمة المتظاهرين، وأصدرت أحكاما بالحبس والجلد والغرامة عليهم.
 لم تكن المظاهرات النشاط الوحيد للثوار، فإلى جانب مظاهرات الشوارع أصبحت هناك منتديات للثورة يتجمع فيها الناس للاستماع إلى الخطباء ومناقشة أوضاع البلاد، وفي مقدمة هذه المنتديات كان الجامع الأزهر الذي تحول إلى معقل للثوار ومركزًا للخطابة، وإلى جانبه كان هناك بيت الأمة وجروبي شارع عبد الخالق ثروت ومحل صولت بشارع فؤاد ومقهى ريش بشارع طلعت حرب الآن، وقهوة الجندي وقهوة السلام بميدان الأوبرا. هذا إلى جانب منازل عدد من الساسة والكتاب من أمثال عبد الرحمن فهمي وأمين الرافعي ومحمود باشا سليمان وإبراهيم باشا سعيد والشيخ مصطفى القاياتي، سؤال يطرح نفسه عليّ بإلحاح: كم من هذه الأماكن ما زال باقيا لم يزله عدوان من يرغبون في محو ذاكرتنا الوطنية؟
  وإذا كانت الثورة قد بدأت في القاهرة فلم يمض على بدايتها أربعة أيام إلا وكانت قد انتقلت إلى معظم مدن مصر وقراها، فمنذ يوم 12 مارس انتقلت الثورة إلى محافظات مصر المختلفة، مع وصول نبأ نفي سعد وزملاءه، وانتقال أخبار المظاهرات في القاهرة مع الطلاب الذين عادوا إلى بلادهم بعد توقف الدراسة في المدارس العليا والثانوية.
 فخرجت المظاهرات في الإسكندرية وطنطا والمحلة الكبرى والمنصورة ودسوق وقلين وكفر الشيخ ودمياط وسمنود وميت غمر ودمنهور ورشيد وبور سعيد وشبين الكوم وبركة السبع والزقازيق والفيوم والواسطى وبني سويف والمنيا وأسيوط وجرجا.
 أما زفتى فقد أعلنت الجمهورية شكلت لجنة شعبية منتخبة لحكم المدينة قادها يوسف الجندي المحامي وتعاون مأمور زفتى إسماعيل بك حمد الذي كان رجلًا وطنًيا مع اللجنة الشعبية، وقد شهدت بعض المدن الصغيرة في مصر تجارب مشابهة مصغرة، ولم تقتصر الثورة على عواصم المحافظات والمدن الكبرى بل امتدت إلى المدن الصغيرة والقرى، وأخذت الثورة طابعًا قويًا في الريف والصعيد فقام الفلاحون بقطع قضبان السكك الحديدية وخطوط التلغراف والتليفون، ونجحوا في شل حركة الاتصالات في مصر، وحتى المناطق التي لم تشهد مظاهرات كبيرة مثل محافظتي قنا وأسوان، شهدت عمليات واسعة لقطع السكك الحديدية وطرق المواصلات، فعمت الثورة مصر كلها خلال أيام قليلة، وكان سقوط الشهداء في المذابح التي نفذها الإنجليز يزيد الثوار إصرارًا على الثورة، وكانت جنازات الشهداء تتحول إلى مظاهرات جديدة.

 لم يكد يمض شهر واحد حتى أدركت بريطانيا أن عليها أن تقدم تنازلات للمصريين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...