الأحد، 29 مارس 2015


مختار ابن الثورة ومخلدها

عماد أبو غازي
 كان للفنون الجميلة مكانتها الخاصة والمتميزة في الحياة المصرية منذ أقدم العصور، فمعارفنا الأساسية عن الحضارة المصرية القديمة وصلتنا من خلال الإبداعات الفنية للإنسان المصري، تلك الإبداعات التي صورت لنا حياته ومعتقداته وثقافته وفكره، ولم تتوقف هذه الإبداعات عبر العصور، ورغم مرور لحظات من الظلام والإعتام تراجع فيها الإبداع الفني في مصر، إلا أن الروح المبدعة تظل حية كامنة يعبر عنها الإنسان المصري من خلال فنونه الشعبية.
 وفي مطلع القرن الماضي، ومع بوادر حلقة جديدة من حلقات نهضة مصر الحديثة، بدأ اهتمام قادة الفكر والرأي في مصر بتشييد المؤسسات الحديثة للتعليم وإحياء ما قتله الاحتلال البريطاني منها؛ فتعالت الدعوة إلى إنشاء المدارس وتأسيس الجامعة الأهلية، وتضافرت جهود المصريين من أجل خروج هذه المشروعات إلى النور، فوقف إلى جانب الدعوة قادة الأحزاب الرئيسية: الحزب الوطني وحزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، جنبًا إلى جنب مع بعض قادة الفكر النابهين وعددًا من أفراد الأسرة الحاكمة.
 وفي هذا السياق قام الأمير يوسف كمال بإنشاء أول مدرسة للفنون الجميلة سنة 1908، وخرجت المدرسة دفعتها الأولى سنة 1911، وأوفد الأمير واحدًا من هؤلاء الخريجين إلى باريس لاستكمال دراسته، إنه مختار.


 وعندما قامت ثورة سنة  1919 لم يكن مختار قد أكمل عامه الثامن والعشرين، كان لا يزال في باريس، وهناك شارك مع الطلاب المصريين في تكوين حركة لدعم الثورة المصرية والدعاية لها، عرفت باسم "الجمعية المصرية"، وبعد سفر الوفد المصري إلى باريس برئاسة سعد زغلول تحولت تلك الحركة إلى جماعة لمساندة الوفد ومساعدته في الدعاية للقضية المصرية، و قد انسحب مختار من "الجمعية المصرية" كما تكشف رسالة شخصية وجهها لصديقه وزوج شقيقته محمود أبو غازي في نوفمبر سنة 1920، يفسر فيها انسحابه من الجمعية "بأن هناك يد أخرى بتشتغل فيها"، لكنه لم ينسحب من مساندة الثورة والتعبير عنها.


 لقد انفعل مختار مثل كل المصريين بالثورة وأحداثها، وقرر أن تكون مساهمته فيها من خلال فنه، فنحت تمثالًا يعبر عن الثورة التي اعتبرها نهضة للشعب المصري، وقدم هذا التمثال إلى معرض الفنون الجميلة في باريس فحصل على شهادة تقدير.
 ولفكرة التمثال قصة، فعندما انفعل مختار بأحداث ثورة 1919 نحت تمثالًا يعبر عن هذه الثورة على غرار النحاتين الأوروبيين الذين جسدوا الثورات والأحداث الكبرى في التاريخ الأوروبي، فجاء التمثال على هيئة رجل متوثب يرتدي عقال ويستل سيفه من غمده، لكن مختار تراجع عن الفكرة وحطم التمثال ولم يتبق منه سوى صورة فوتوغرافية نشرها الناقد جبرائيل بقطر لأول وآخر مرة في الذكرى العاشرة لرحيل مختار.

 ونحت مختار بعدها رمز النهضة الذي نراه إلى اليوم شامخًا في مدخل الطريق المؤدي إلى جامعة القاهرة، لقد سمى مختار تمثاله "نهضة مصر" لأنه رأى أن الثورة كانت التعبير الحي عن روح النهضة الشاملة والبعث الوطني، فجاء التمثال على هيئة فلاحة مصرية تستنهض "أبو الهول" من ثباته العميق ليربط بذلك بين نهضتنا المعاصرة وتراثنا المصري القديم.

 وكان إنجاز مختار للتمثال مواكبًا لسفر الوفد المصري لعرض قضية البلاد في باريس ولندن والدعوة لاستقلال مصر، فتعرف أعضاء الوفد على مختار وشاهدوا التمثال قبل عرضه على الجمهور.
 وقد أعجب الزعيم سعد زغلول بالتمثال وعبر عن إعجابه هذا في رسالة بخط يده بعث بها إلى مختار أشاد فيها بالعمل وبالمعنى الرمزي الذي يحمله، فقال سعد في رسالته:
 "حضرة المصور الماهر مختار
شاهدت المثال الذي رمزت به لنهضة مصر فوجدت أبلغ رمز للحقيقة، وانهض حجة على صحتها، فأهنئك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر، وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال والسلام
                                                                  سعد زغلول
باريز 6 مايو سنة 1920"

 لقد كان لعرض التمثال في فرنسا أصداء في الصحافة الفنية الأوروبـية، فتوالت مقالات الإشادة بالعمل الفني الجديد خاصة وأنه أول تمثال صرحي لنحات مصري يراه العالم بعد تماثيل قدماء المصريين.

 أما في مصر فقد عرف الناس التمثال من خلال أربع مقالات كتبها مجد الدين حفني ناصف في جريدة الأخبار التي كان يصدرها أمين الرافعي، واتخذ لها عنوانًا واحدًا: "النهضة الفنية في مصر". وفي أعقاب هذه المقالات الأربع أرسل الدكتور حافظ عفيفي، وكان من ضمن أعضاء الوفد المصري، برسالة إلى أمين الرافعي رئيس تحرير الأخبار يقترح فيها أن تتبنى الجريدة الدعوة لاكتتاب عام لإقامة تمثال النهضة في أحد ميادين العاصمة، وتلقف الرافعي الفكرة وتبنى الدعوة لها، فنشر في اليوم التالي بجريدة الأخبار نداءً لاكتتاب قومي عام تحت عنوان: "نهضة مصر دعوة إلى الأمة المصرية"، وساند فكرة الاكتتاب اثنان من أعضاء الوفد المصري هما ويصا واصف وواصف غالي، فنشر الأول مقالا بعنوان "محمود مختار والنهضة الفنية في مصر"، ونشر الثاني مقالا تحت عنوان "واجبنا نحو مختار".
 وتلقت الأمة الدعوة فتوالت التبرعات على جريدة الأخبار من كل أنحاء مصر، مدنها وقراها، قروشًا وملاليم قليلة لكنها تعبر عن يقظة الروح المصرية، كانت حركة الاكتتاب لإقامة التمثال حالة حشد للجماهير خلف الثورة وأهدافها تمامًا مثلم كانت حركة جمع التوقيعات على توكيل الوفد لتمثيل الأمة منذ انطلاقها عقب مقابلة 13 نوفمبر سنة 1918 الشهيرة حرثًا للأرض وحشدًا للشعب على طريق الثورة.

 ومن بين الرسائل التي بعث بها المكتتبين مع قروشهم القليلة اخترت رسالة لعامل اسمه الشحات إبراهيم الكيلاني، كان فاعلًا بهندسة السكة الحديد بالزقازيق، تكشف رسالته عن الروح الجديدة التي سرت في جسد الأمة، تقول الرسالة التي نشرتها الأخبار:
 "إنني رجل فقير جدًا، أشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتي 70 مليمًا، ومتزوج بيتيمه الأب، وأم زوجتي تبيع ترمسًا، ولي شغف بقراءة الصحف عن عهد النهضة المصرية الأخيرة، بينما كنت جالسًا أقرأ جريدتكم الغراء بكيت بكاء شديدًا، فسألتني زوجتي عن سبب بكائي فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود أتبرع بها خلاف 200 مليم، فقالت زوجتي: إنها تتبرع بمائة مليم أيضًا، وقالت أمها مثلها، وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة، أما أختها البالغة من العمر 13 سنة فقالت إنها لا تملك إلا 50 مليما فتبرعت بها، ولي طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليما فأحضرتهم، فأصبح المجموع 600 مليما، فأرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر، وتتوسطوا في قبوله ونكون لكم من الشاكرين، هذا وإني أدعو جميع الفعلة زملائي في الزقازيق وخلافها وأدعو أيضا جميع العمال للتبرع لتمثال نهضة مصر لنتسابق مع أسيادنا الأغنياء زادهم الله من فضله".
 ملاحظة بين قوسين (بعد سنوات قليلة يظهر اسم الشحات إبراهيم في الصحف مرة أخرى كواحد من قادة الحزب الشيوعي المصري الذين اعتقلوا في أول قضية شيوعية في مصر سنة 1924، بعد حركة إضرابات عمالية واسعة.)
 لقد كانت هذه هي الروح التي فجرتها ثورة 1919 في الشعب المصري فاستنهضت داخله أنبل وأقوى ما فيه، لقد اجتمع من الاكتتاب الشعبي مبلغ 6500 جنيه، وطلبت اللجنة المشكلة لتنفيذ التمثال من الحكومة الترخيص بإقامته في ميدان المحطة في مدخل العاصمة ، ميدان رمسيس حاليا.

 فقرر مجلس الوزراء في 25 يونيو سنة 1921 الموافقة على ذلك، وأن يكون إنشاء القاعدة وإقامة التمثال تحت إشراف وزارة الأشغال، وبدأ العمل في التمثال اعتمادًا على التبرعات الشعبية، وعلى الدعم الحكومي الذي قدمته وزارة عبد الخالق ثروت سنة 1922 ومقداره 3000 جنيه لقطع أحجار الجرانيت من أسوان، وعقب صدور دستور 23 وتشكيل أول برلمان وطني منتخب أنبرى ويصا واصف للدفاع عن التمثال وضرورة توفير الاعتمادات الكافية لإنجازه، واستجاب سعد زغلول وكان على رأس الوزارة لهذه الدعوة إذ رأى أن حكومة النهضة يجب أن تتكفل بتمثالها، فدعمه بمبلغ 12 ألف جنيه.

 لكن العمل في التمثال تحول إلى معركة أخرى من معارك الديمقراطية في مصر عندما حاولت حكومات الانقلابات الدستورية التي أتى بها فؤاد إلى الحكم إعاقة العمل في التمثال، ورغم انتهاء مختار من تمثاله إلا أن إزاحة الستار عنه تأخرت لعدة شهور بسبب رفض الملك تحديد موعد للاحتفال، وأخيرًا أقيم الحفل في العشرين مايو سنة 1928.

 لقد كان تمثال النهضة تعبيرًا عن عصر جديد وروح جديدة في العمل الوطني وفي تطور الفن المصري، وعن التمثال يقول الناقد التشكيلي بدر الدين أبو غازي في كتابه المثال مختار:
 "تمثال نهضة مصر هو أول تمثال أقيم في العصر الحديث، هو بدء عودة الحياة إلى الأزميل الذي هوى من يد أخر فنان فرعوني، وقد جاء تعبيرًا عن فكرة قومية، ومعنى هز مشاعر الجموع، وبه بدأ الإحساس بالفن كضرورة قومية، وكان لظهور التمثال وإقامته من أحجار الجرانيت دلالات رمزية ردت إلى الناس الثقة وجعلته نشيدا من أناشيد الأمل في عصر النهضة، لقد سيطر تمثال نهضة مصر على حقبة من الحياة المصرية، كان الشعب يعتبر هذا التمثال تمثاله، وكان المفكرون يدركون دلالة إقامته وما يحمله من معنى انتصار فكرة الحرية وإرادة الشعب. ومن هذه الاعتبارات استمد التمثال قيمته التاريخية فضلًا عن قيمته الفنية."

 كان اللقاء الثاني بين مختار وثورة 1919 بعد الثورة بثمان سنوات، وعلى وجه التحديد في عام 1927 عقب وفاة سعد زغلول، حيث قررت الحكومة تخليد ذكراه، بإقامة ضريح له، وتمثالين واحد بالقاهرة والثاني بالإسكندرية، ثم بعد ذلك تحويل بيت سعد "بيت الأمة" بعد رحيل أم المصريين إلى متحف ومزار قومي، وقد تم تكليف مختار بإقامة التمثالين، وللتمثالين قصة أخرى.
أهم ما فيها أنها عادت بمختار ابن ثورة 1919 الذي أعادت الثورة تشكيله ليشكل مرة أخرى ملحمة الشعب والثورة ويخلد من خلال أعماله الميدانية الثلاثة الثورة المصرية العظيمة ثورة 1919.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...