29
مارس أطول انقلاب على الديمقراطية في التاريخ المصري
عماد أبو غازي
·
كانت القوى المدافعة عن الديمقراطية تشعر أنها أصبحت على
مقربة من تحقيق الانتصار، وأن فجرًا جديدًا للديمقراطية في مصر يوشك أن يولد.
·
الاتفاق على تحويل الإضراب والاعتصام من تأييد
الديمقراطية إلى المطالبة بإلغاء قرارات 5 و25 مارس.
·
الإذاعة المصرية شاركت في مؤامرة ضد الديمقراطية بتزوير
بيانات باسم النقابات العمالية وإذاعتها في محاولة لإظهار أن الحركة العمالية ضد
عودة الديمقراطية.
·
محمد نجيب يرفض إعادة الديمقراطية بانقلاب عسكري.
·
إرجاء تنفيذ قرارات عودة الديمقراطية إلى حين نهاية فترة
الانتقال التي لم تنته إلى الآن!
كان يوما 28 و29 مارس 1954 يومين حاسمين في
تاريخ مصر، ففيهما تم القضاء على الحياة الديمقراطية ووضعت أسس الدولة الاستبدادية
التي ما زالت قائمة إلى الآن.
كانت القوى المدافعة عن
الديمقراطية تشعر أنها أصبحت على مقربة من تحقيق الانتصار، وأن فجرًا جديدًا
للديمقراطية في مصر يوشك أن يولد، ديمقراطية بلا ملك، ديمقراطية تقود إلى تحقيق
الاستقلال الكامل وتنهي سبعين عامًا من الوجود البريطاني في مصر، كان من المقرر أن
يكون يوم 28 مارس 1954 يومًا للإضراب العام كما قررته نقابة المحامين وتجمعات
أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية والجبهة الطلابية، وكان من المعلن أن تنضم
إلى الإضراب النقابات العمالية بما فيها نقابة النقل المشترك، كان الهدف واضحًا
إنهاء الحكم العسكري فورًا وعدم الانتظار حتى 24 يوليو 1954، وتشكيل حكومة مدنية
انتقالية تجري الانتخابات، ومحاسبة المسئولين عن الانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون
في السجن الحربي.
كانت نقابة النقل المشترك هي
الطريق لتحقيق كل فريق لهدفه، فريق أنصار الديمقراطية، وفريق أنصار الدولة الاستبدادية،
كانت هناك اتصالات بين القوى الديمقراطية وقادة نقابة النقل المشترك التي تضم عمال
شركات الأتوبيس الكبرى لإقناعهم بالانضمام لحركة الإضرابات العمالية التي ستشترك
فيها معظم النقابات العمالية التي كان الاتجاه الغالب فيها تأييد الديمقراطية،
وأهمية هذه النقابة أن إضراب عمالها سيشل حركة المواصلات في العاصمة تمامًا، لكن رئيس
اتحاد نقابات النقل المشترك الصاوي أحمد الصاوي توجه إلى مقر هيئة التحرير والتقى
باثنين من ضباط الصف الثاني المسئولين عن النقابات العمالية وهما الصاغ أحمد طعيمة
والصاغ إبراهيم الطحاوي وأبلغهما بمحاولات جذب النقابة إلى الإضراب المؤيد لعودة
الديمقراطية، وكانت هناك بعض القيادات النقابية الأخرى التي تؤيد ما كان يسمى
"استمرار الثورة"، فتم الاتفاق على تحويل الإضراب والاعتصام من تأييد
الديمقراطية إلى المطالبة بإلغاء قرارات 5 و25 مارس، وتم اختيار الصاوي أحمد
الصاوي زعيمًا للحركة، ودار اتحاد النقل المشترك مقرًا لها.
وبالفعل بدأ الاعتصام في السابعة
والنصف مساء، وتم استدعاء مجالس إدارات النقابات العمالية لاتخاذ موقف جماعي، إلى
هنا والأمر يندرج تحت الصراع السياسي المعتاد الذي تتعدد فيه المواقف وفقًا لمصالح
الأطراف المختلفة، لكن المؤامرة بدأت هنا عندما بدأت الإذاعة المصرية تذيع بيانات
صادرة عن النقابات العمالية تعلن فيها الاعتصام والإضراب عن الطعام وعن العمل حتى
تتحقق مجموعة من المطالب؛ أولها عدم السماح بقيام الأحزاب، واستمرار مجلس قيادة
الثورة في مباشرة سلطاته حتى يتم جلاء المستعمر، وتشكيل هيئة تمثل النقابات
والروابط والاتحادات والجمعيات والمنظمات تساند مجلس قيادة الثورة، وتعرض عليها
قرارته قبل إصدارها، وأخيرًا عدم الدخول في معارك انتخابية.
المشكلة هنا ليست في محتوى المطالب
التي تعني تصفية الحياة الديمقراطية في مصر تمامًا، لكن المشكلة الحقيقية أن
النقابات العمالية لم تصدر هذه البيانات ولم توافق عليها بل لم تعرض عليها أصلًا،
وإن الإذاعة المصرية شاركت في مؤامرة ضد الديمقراطية بتزوير بيانات باسم النقابات
العمالية وإذاعتها في محاولة لإظهار أن الحركة العمالية ضد عودة الديمقراطية،
بخلاف الحقيقة.
الأمر الثاني أن نقابة عمال الترام
التي رفضت المشاركة في إضراب لتصفية الديمقراطية بفضل دور العامل النقابي اليساري
محمود فرغلي تعرض العاملين فيها وبعض قادتها للاعتداءات، ويروي الدكتور عبد العظيم
رمضان تفاصيل ما حدث فيقول: "أمكن إيقاف مركبات الترام بالقوة بواسطة عناصر
وقفت في مجموعات في شارع عبد العزيز أمام مبنى دار الاتحاد لقذف المركبات بالطوب
وتكسيرها، وفي العباسية وغيرها، وضرب محمود فرغلي ضربًا مبرحًا بواسطة عناصر
عمالية وبوليسية، وفي الساعة الثامنة صباحًا كان الشلل قد شمل جميع وسائل
المواصلات."
وبدأت النقابات العمالية تتنبه
للمؤامرة التي تحاك باسمها فأصدرت مجالس إدارات عدد من نقابات العمال التي أذيعت
بيانات كاذبة باسمها في الإذاعة المصرية بيانًا تعلن فيه حقيقة موقفها وتنفي ما
نسب إليها كذبًا.
كما اجتمعت الجمعيات العمومية
لجميع نقابات عمال الإسكندرية وأصدرت قرارات بإلغاء الأحكام العرفية فورًا، وحل
مجلس قيادة الثورة، وإطلاق الحريات العامة، والإفراج عن المعتقلين، واستنكار
المحاولات المكشوفة لتسخير بعض النقابات، والإفراج عن جميع العمال المعتقلين، وإقامة
الاتحاد العام لنقابات عمال الجمهورية، وقد وقعت البيان عشر نقابات عمالية
بالإسكندرية منها نقابة النقل المشترك.
وفي نفس الوقت أصدرت نقابات عمال
مصر بيانًا رفعته إلى رئيس الجمهورية بتأييد قرارات 25 مارس، والمطالبة بإلغاء
الأحكام العرفية، ووقعت على البيان ثلاث عشرة نقابة عمالية وحرفية.
وأصدرت اللجنة التأسيسية السياسية
العمالية بمصر بيانًا دعت فيه لتشكيل حكومة مدنية تقود البلاد نحو حياة ديمقراطية
سليمة.
إذن كان موقف القطاع الأساسي من
الحركة العمالية منحازًا إلى جانب الديمقراطية، لكن المجموعة الصغيرة من القيادات
النقابية التي قررت أن تتحالف مع جبهة أعداء الديمقراطية نجحت بمساندة مجموعات من
ضباط الصف الثاني في تنظيم الضباط الأحرار من القضاء على إمكانيات تحقيق
الديمقراطية في مصر، فقد قام الصاغ مجدي حسنين الذي كان مشرفًا على مشروع مديرية
التحرير في تحريك العاملين في المشروع إلى القاهرة للانضمام إلى القوى المعادية
للديمقراطية، كذلك تحرك البكباشي أحمد أنور قائد الشرطة العسكرية بثقله ـ كما يذكر
عبد العظيم رمضان في كتابه "عبد الناصر وأزمة مارس 1954" ـ ليساعد
الحركة بعد أن تردد اسمه في اجتماع الجمعية العمومية للمحامين كمسئول عن
الاعتداءات على المعتقلين في السجن الحربي ليحول بأي ثمن دون عودة الحياة
الديمقراطية.
وبالفعل تم في يوم 29 مارس توجيه
مظاهرة حاشدة إلى مجلس الدولة قامت بالاعتداء بالضرب على رئيسه الدكتور السنهوري
الذي كان يرأس اجتماعًا للجمعية العمومية لمجلس الدولة.
في هذا الوقت اقترح أنصار نجيب في
الجيش عليه أن يتدخلوا لحسم الموقف بالقوة لصالحه ولصالح عودة الديمقراطية، اقترح
عليه ذلك قائد حرسه محمد رياض، كما توافد على منزل الرئيس نجيب أعداد من الضباط
المؤيدين له، منهم قائد حامية القاهرة أحمد شوقي، وأبدوا استعدادهم للتحرك ضد مجلس
الثورة، لكن نجيب رفض، فقد كان يخشى من صراع داخل الجيش، وفي نفس الوقت لا يرى
إعادة الديمقراطية بانقلاب عسكري، كان يراهن على قدرة الشعب وقواه الديمقراطية على
حسم المعركة.
وهنا كانت الكفة قد رجحت لمعسكر
أعداء الديمقراطية فاجتمع مجلس قيادة الثورة يوم 29 مارس 1954 وقرر تحمل المسئولية
كاملة مع احتفاظ الرئيس نجيب بمنصبه رئيسًا للجمهورية ورئيسًا لمجلس الوزراء،
وجاءت القرارات في صيغة غائمة، تتضمن تشكيل مجلس وطني استشاري يراعى فيه تمثيل
الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة، وإرجاء تنفيذ قرارات 5 و25 مارس 1954 إلى حين
نهاية فترة الانتقال التي لم تنته إلى الآن!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق