الثلاثاء، 10 مارس 2015


وعادت الروح

عماد أبو غازي

 "إن هذا الشعب الذي تحسبه جاهلًا ليعلم أشياء كثيرة. ولكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم. والقوة في نفسه ولا يعلم. هذا شعب قديم. جئ بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة من تجاريب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري.
 نعم هو يجهل ذلك. ولكن هناك لحظات حرجة تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجاريب فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته. هذا ما يفسر لنا تلك اللحظات من التاريخ التي نرى فيها مصر تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت.. وتأتي بأعمال عجاب في طرفة عين."

 
 تحمل كلمات توفيق الحكيم في "عودة الروح" رؤيته لحال الشعب المصري، التي عبر عنها على لسان أحد شخوص روايته مسيو فوكيه عالم الآثار الفرنسي، في حواره مع مفتش الري الإنجليز مستر بلاك، وكلمات الحكيم تعبر بصدق عن حال الشعب المصري قبيل الثورة، فلم يكن الإنجليز يتصورون عندما منعوا سفر الوفد المصري لعرض قضية البلاد على مؤتمر الصلح، ولا عندما رفضوا سفر رئيس الحكومة رشدي باشا إلى لندن للتفاوض، لم يكونوا يتصورون أن الشعب يمكن أن يثور، كان مغرورين بقوتهم العسكرية وبأحكامهم العرفية التي توهموا أنها ستمنع الشعب من الحركة إذا أراد، لقد خدعهم موقف الشعب المصري أثناء الحرب العالمية الأولى، كان الإنجليز يخشون عندما أعلنوا حمايتهم على مصر وعزلوا عباس أن يثور المصريون، لكنهم لم يفعلوا، كان الإنجليز يخشون عندما دارت المعارك مع الأتراك على جبهة سيناء أن تنفجر مصر من الداخل وتهب لتساند تركيا، لكنها لم تفعل، اعتقد الإنجليز أن المصريين أضعف من أن يثوروا، وظنوا أن روح المقاومة قد ماتت فيهم، لم يدرك الإنجليز أن استبدال حسين كامل بعباس حلمي لا يشغل بال المصريين ولا يهتموا له، ولم يفطنوا إلى أن الدولة العثمانية لا تعني للمصريين شيئًا، وإنها لا تستحق أن يثوروا لأجلها، إن هذه الأمور لم تكن تشغل بال المصريين باستثناء قلة محدودة من النخبة السياسية والفكرية المصرية المعزولة عن الشعب المصري وهمومه الفعلية.

عباس حلمي الثاني
 أما ما حدث في مصر منذ يوم 13 نوفمبر سنة 1918 فكان أمرًا مختلفًا، لم يشعر الإنجليز ورجالهم في مصر وأعوانهم من المصريين بهذه الروح الجديدة، فتمادوا في غيهم، وزادوا في تعنتهم، وفي المقابل كانت روح المقاومة تسري بسرعة في النسيج المصري، وقيادة الوفد بزعامة سعد زغلول تزداد إصرارًا على المواجهة وتصعد من مواقفها طوال شهر فبراير سنة 1919، وحسين رشدي باشا رئيس الوزراء يقدم خطاب استقالة جديد للسلطان فؤاد في 10 فبراير سنة 1919 يكشف عن ما كان عليه ساسة ذلك الزمن من قوة موقف واعتداد وحفاظ على حقوق الوطن والأمة، قال رشدي باشا موجها خطابه للسلطان: "على أثر كتابي المرفوع إلى سدتكم العلية بتاريخ 30 ديسمبر سنة 1918 الذي ألححت فيه ذلك الإلحاح على عظمتطم بقبول استعفائي قد كنت رضيت من باب التوفيق بالاتفاق الآتي بيانه: وهو أن صاحب المقام الجليل المندوب السامي ينتهز فرصة سفره إلى لندرة فيشرح شفهيًا للحكومة البريطانية أنني بعد وصول الحالة إلى الحد الذي بلغته أصبحت لا أكتفي بما عرض عليّ وقتئذ من سفري أنا وزميلي عدلي باشا إلى لندره في النصف الأول من فبراير وإنني اشترط لسحب استعفائي شرطًا أساسيًا هو إباحة السفر إلى أوروبا لمن يطلب من المصريين، وكان من ضمن ذلك ورود جواب الحكومة البريطانية بالتلغراف في بحر مدة مناسبة من وصول المندوب السامي إلى إنجلترة... على أنه قد مضى عشرة أيام على الأقل بعد الوقت الذي لا بد أن يكون المندوب السامي وصل فيه إلى لندره، ومع ذلك فلم يصلني جواب ما، ويستحيل عليّ أن أقبل أي تأخير جديد، وإنني أُعتبر في حل من القيام ولو مؤقتًا بأي عمل، حتى ولو كان مستعجلًا... فأعود إلى التمسك بكتابي المشار... وألتمس من عظمتكم بكل إلحاح إنهاء حالة شاذة قد زاد طول العهد عليها".

رشدي باشا
 عقب الاستقالة قبلت الحكومة البريطانية دعوة رشدي وعدلي وحدهما إلى لندن، إلا أنهما رفضا السفر قبل السماح لأي مصري يرغب في السفر بممارسة حقه الطبيعي، فأضطر السلطان فؤاد إلى قبول استقالة الحكومة في أول مارس سنة 1919، وفي اليوم التالي وجه الوفد المصري خطابًا شديد اللهجة إلى السلطان فؤاد ينتهي بالعبارة التالية: "...دفعنا واجب خدمة بلادنا وإخلاصنا لمولانا أن نرفع لسدته شعور أمته التي هي الآن أشد ما تكون رجاء في استقلالها وأخوف ما تكون من أن تلعب به أيدي حزب الاستعمار، والتي تطلب إليه بحقها عليه أن يغضب لغضبها، ويقف في صفها، فتنال بذلك غرضها، وإنه على ذلك قدير".

سعد
 وفي 4 مارس أرسل الوفد خطاب احتجاج إلى معتمدي الدول الأجنبية في مصر يفضحون فيه السياسة البريطانية في البلاد، وبعدها بيومين استدعى الميجر جنرال وطسن قائد القوات البريطانية في مصر بالنيابة رئيس الوفد وأعضاءه إلى فندق سافوي بميدان سليمان باشا، حيث مقر القيادة وتلى عليهم إنذارًا بريطانيًا رسميًا بتطبيق الأحكام العرفية عليهم في حال استمرارهم في معارضة السياسة البريطانية.
 كان رد الوفد واضحًا في اليوم نفسه بإرسال برقية احتجاج إلى لويد ﭼورﭺ رئيس وزراء بريطانيا، قبل أن تمضي 48 ساعة، وفي يوم 8 مارس سنة 1919، كانت السلطات البريطانية قد ألقت القبض على سعد زغلول ومحمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وحمد الباسل باشا وأودعتهم ثكنات قصر النيل، وفي اليوم التالي تم ترحيلهم إلى بور سعيد ومنها إلى مالطة منفيين بعيدًا عن الوطن، شاع الخبر بسرعة في العاصمة ومنها إلى الأقاليم، ما هي إلا ساعات قليلة وبدأت الثورة صباح الأحد 9 مارس سنة 1919، وكانت البداية من طلبة مدرسة الحقوق، واشتعلت نار الثورة في مصر من أقصاها إلى أقصاها.

محمد محمود باشا  
 
إسماعيل صدقي
 
 
وصدقت كلمة الحكيم:

 "احترس... احترسوا من هذا الشعب فهو يخفي قوة نفسية هائلة".

كرة الثلج
 كان الإنجليز يتصورن أن نفي سعد سيمر مثلما مرت تدخلاتهم السابقة، لقد عزل إسماعيل ونفي، ونفي أحمد عرابي ورفاقه بعد محاكمة سياسية، واختار محمد فريد الابتعاد عن الوطن تحاشيًا للاعتقال والسجن، وعزل الخديوي عباس حلمي الثاني ومنع من العودة إلى مصر، وفي كل هذه الحالات لم تشهد مصر احتجاجًا أو اعتراضًا له قيمة أو تأثير، لكن الحال هذه المرة كان مختلفًا، فإسماعيل وعباس حاكمين لا يهتم الشعب كثيرًا بأمر عزلهما أو نفيهما، وعرابي نفي بعد معركة خرج منها الشعب المصري مهزومًا ومنكسرًا فاقدًا لطاقة المقاومة لسنوات، أما محمد فريد فرغم حركة البعث الوطني التي بدأت مع بدايات القرن العشرين بقيادة مصطفى كامل، إلا أن تلك الحركة كانت محصورة إلى حد كبير في إطار النخبة السياسية وطلاب المدارس العليا.
 
 
 لكن الأمر كان مختلفًا تلك المرة، ففضلًا عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها مصر خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، كان الوفد المصري قد نجح في حشد الشعب كله حول قضية الاستقلال من خلال حملة جمع التوقيعات على التوكيلات، لذلك عندما صحت مصر يوم 9 مارس على خبر نفي سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة هبت ثائرة، ويروي عبد الرحمن الرافعي الذي كان معاصرًا للأحداث القصة في كتابه عن "ثورة 1919"، فيقول:
 "بدأت الثورة بمظاهرات سلمية ألفها الطلبة يوم الأحد 9 مارس، إذ أضربوا عن تلقي الدروس، وخرجوا من مدارسهم، وساروا بادئ الأمر في نظام وسكينة، تتقدمهم أعلامهم وهم يهتفون  بحياة مصر والوفد المصري وسعد، وسقوط الحماية الإنجليزية.


 كان طلبة مدرسة الحقوق أول المضربين، فقد امتنعوا عن تلقي الدروس منذ صبيحة هذا اليوم، واجتمعوا في فناء المدرسة بالجيزة، يعلنون إضرابهم، فنصحهم المستر والتون ناظر المدرسة بالعدول عن الإضراب، وكان يخاطبهم بلطف فلم يستمعوا لنصيحته، فاستدعى المستر موريس شلدون إيموس، نائب المستشار القضائي البريطاني لوزارة الحقانية، فجاء على عجل، وكرر عليهم النصح بالعودة إلى دروسهم، ودعاهم إلى ترك السياسة لأبائهم، فأجابوه إن آباءنا قد سجنوا، ولا ندرس القانون في بلد يداس فيه القانون."
 خرج طلاب مدرسة الحقوق إلى الشارع متظاهرين وانضم إليهم طلاب المهندسخانة والزراعة، ثم عبروا النيل وتوجهوا إلى مدرسة الطب بقصر العيني، فانضم لهم طلابها، وذهب الجميع إلى مدرسة التجارة العليا بالمبتديان (التي يشغل مكانها الآن معهد التعاون) واتجهت المظاهرة الضخمة إلى ميدان السيدة زينب، فانضم إليها أثناء سيرهم طلاب دار الغلوم والتجارة المتوسطة ومدرسة القضاء الشرعي، كما انخرط في المظاهرات بعض طلاب المدارس الثانوية.  واشتبك المتظاهرون مع  قوات البوليس التي كان يقودها الحكمدار الإنجليزي رسل، وانتهى اليوم بإلقاء القبض على 300 متظاهر أودعوا في قسم السيدة زينب، ومنه تم ترحيلهم إلى باب الخلق، ثم إلى القلعة ليلًا. ولم يسقط في هذا اليوم شهداء.

 في اليوم التالي امتدت الإضرابات والمظاهرات إلى الأزهر وباقي المدارس العليا والثانوية، وانضمت جموع الشعب إلى المظاهرات، وشهد اليوم الثاني للثورة إطلاق النار من جانب القوات البريطانية على المتظاهرين في منطقة الدواوين، وقد اختلفت الروايات التاريخية حول اليوم الذي سقط فيه أول شهيد مصري، لكن المؤرخ المدقق عبد الرحمن الرافعي بحسه القانوني سعى إلى تحقيق الوقائع، فراجع دفتر الوفيات بقسم السيدة زينب، وتيقن من تسجيل استشهاد "مصري مجهول"، كما راجع دفاتر مستشفى قصر العيني فوجد مسجلًا بها وفاة "غلام مجهول" يوم 10 مارس أيضًا، ومسجل أمام كل منهما أنه أصيب في مظاهرة.

 وقد شهد اليوم الثاني بعض أعمال تحطيم عربات الترام وواجهات بعض المحلات التي يملكها الأجانب، فأصدر طلاب المدارس العليا نداءً إلى الشعب المصري يناشدونه فيه التوقف عن تحطيم المرافق العامة وعدم الاعتداء على ممتلكات الأجانب.
 كما أصدروا بيانًا موجهًا للأجانب المقيمين في مصر يعتذرون فيه عما حدث، جاء فيه:
 "إلى حضرات إخواننا ومواطنينا الأجانب، قد تأسفنا نحن معاشر الطلبة المصريين مما وقع من الغوغاء عند قيامنا بمظاهراتنا السلمية التي ما قصدنا بها، إلا إظهار عواطفنا وشعورنا مع محبتنا لمواطنينا الأجانب الأعزاء، وهكذا فلنكن أحباء كما عشنا مدى الأزمان".
 في اليوم الثالث اتسعت الثورة، وأضرب سائقو الترام وسائقو الأجرة، فشلت حركة المواصلات في القاهرة، وأقفل معظم التجار محلاتهم،  كذلك أغلقت البنوك والبيوت المالية أبوابها خوفا من تكرار حوادث التعدي على المحال الأجنبية واتساعها.
 أما القيادة البريطانية فبادرت إلى إصدار إنذار شديد اللهجة للمواطنيين تذكرهم فيه بأن الأحكام العرفية ما زالت مفروضة في البلاد، وأن المحاكمات العاجلة تنتظر المتظاهرين والمتجمهرين.
  لكن الثورة كانت قد بدأت تتحرك، وكانت ككرة الثلج التي تكبر كلما تحركت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...