الأربعاء، 16 أبريل 2014


بمناسبة الحديث عن لاظوغلي وتمثاله، أعيد نشر مقالين كنت قد كتبتهما عام 2008 في الإصدار الثاني لجريدة الدستور بمناسبة رسالة تلقيتها من الصديق محمد مختار...

( 1 )
فريد ونجيب...
عماد أبو غازي
  رسالة على الفيسبوك من الصديق محمد مختار يتسأل فيها عن مغزى نقل تمثال محمد فريد من مكانه القديم إلى ميدان أبو ظريفة؟  يقول في رسالته: "مع الثورة الإنشائية التي أحدثها الخديوي إسماعيل بتشييده لما يسمى الأن "القاهرة الخديوية" تم إقامة عدة ميادين ذات طابع أوروبي، مبنية على الطرز الإيطالية والفرنسية والبلجيكية، مزينة بتماثيل"، وكما يشير في رسالته فقد صنعت التماثيل الأولى بأيدي أوروبيين وجميعها كانت لأفراد من الأسرة العلوية الحاكمة مثل محمد علي وإبراهيم باشا والخديوي إسماعيل أو كبار رجال الدولة من أصول غير مصرية مثل سليمان باشا الفرنساوي ولاظ أوغلي ونوبار باشا، وكان أول تمثال ميدان لمصري تمثال الزعيم مصطفى كامل، وقد نحته هو الآخر نحات أوروبي عقب وفاة مصطفى كامل في فبراير سنة 1908، وكما كان أول تمثال لمصري فقد كان أول تمثال يشييد باكتتاب شعبي، لكنه كان اكتتابا شعبيا محدودا من أعضاء الحزب الوطني وأنصاره، وبعد ثورة 1919 دخل إلى الساحة النحاتين المصريين وفي طليعتهم مختار بتمثاله الذي التفت حوله الأمة، تمثال نهضة مصر، وتبع مختار نحاتين مصريين من الأجيال التالية لجيله منهم عبد القادر رزق ومنصور فرج وأحمد عثمان ومصطفى نجيب وجمال السجيني ثم فاروق إبراهيم وعبد العزيز صعب، وفي السنوات الأخيرة شارك نحاتين من أجيال أصغر في نحت تماثيل الميادين والحدائق من أبرزهم طارق الكومي، وأصبحت تماثيل المصريين تحتل ميادين القاهرة بعد أن كانت حكرا على المصريين من أصول أجنبية، وكانت البداية بتمثالي الزعيم سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية وقد نحتهما مختار عقب وفاة سعد، وتمثال آخر لسعد ببنها لا أذكر الآن ـ للأسف ـ من نحته ومتى نصب في موضعه، وعقب جريمة اغتيال أحمد ماهر باشا أقيم تمثال له أمام كوبري الجلاء بالقاهرة، وبعد انقلاب يوليو 1952 أقيمت عدة تماثيل احتلت عددا من الميادين والحدائق العامة، منها تماثيل طلعت حرب ومحمد فريد وأحمد شوقي وابن خلدون بالقاهرة والجيزة، وأحمد عرابي بالشرقية، والعقاد بأسوان، ثم كان التوقف عن إقامة التماثيل الميدانية لسنوات باستثناء تماثيل بعض زعماء أمريكا اللاتينية التي أقيمت في إطار اتفاقيات لتبادل تماثيل الزعماء السياسيين بين مصر وبعض تلك الدول، إلى أن بدأت المدن المصرية تشهد في السنوات الأخيرة إقامة تماثيل الميادين والحدائق مرة أخرى.
 أعود لرسالة الصديق محمد مختار التي يقول فيها: "مؤخرا عمدت الدولة إلى تجميل بعض الساحات والأماكن بتماثيل تذكارية لأبطال ورواد وزعماء مصر, كنجيب محفوظ وطه حسين وأحمد شوقي والفريق عبد المنعم رياض وعمر مكرم ومحمد فريد وهو بيت القصيد". يسترسل قائلا: "صنع تمثال محمد فريد المثال المصري منصور فرج، و تم وضع التمثال على نصبه وسط شارع 26 يوليو من جهة العتبة الخضراء حيث أزيح عنه الستار عام 1958 وفي العام الحالي أي عام 2008 تقرر نقل التمثال إلى ميدان محمد نجيب، عبد السلام عارف سابقا."
الزعيم محمد فريد
 
وهنا نفهم سبب التساؤل الاستنكاري في الرسالة فالميدان الذي يعلو محطة مترو الأنفاق التي أطلق عليها اسم الرئيس محمد نجيب ويفترض أنه يحمل اسم الرئيس نجيب أول رئيس للجمهورية في مصر، ينبغي أن يوضع فيه تمثال لمحمد نجيب وليس لمحمد فريد. ويتسأل محمد مختار "لماذا هذا التشويش؟ هل يقام التمثال لمداراة ومواراة تداول أسم اللواء محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر عن قصد كما حدث من قبل في كل كتب التاريخ ؟  أم هي الألآجة، أي الفخامة بالمفهوم العشوائي، التي استشرى وباؤها في كافة مناحي حياتنا؟" وفضلا عن ذلك فلمحمد ملاحظات فنية على وضع التمثال الجديد، يقول: "ناهيكم أن الوضع المثبت عليه التمثال ليس صحيح! فالتمثال يعطي ظهره للمارة بدلا من استقبالهم .. تماما كما حدث مع مستنسخ رمسيس الثاني  بشارع صلاح سالم، فأن العادة قد جرت على أن يستقبل المرحب مجابها ضيفه، وعلى الضيف أن يلتفت لوداع مضيفه وهذا عكس ما تم!". ويشير محمد مختار في رسالته إلى المشاكل الفنية في عدد من الأعمال الميدانية والتي تتكرر كثيرا في السنوات الأخيرة داعيا إلى "تعديل الحسابات وتصحيح المسار القائم عليه عمل مثل هذه الإنشاءات والتي تقام لتدوم عصور وقرون."

الرئيس محمد نجيب
 الحقيقة أنا متفق تماما مع محمد مختار في أن الرئيس محمد نجيب تعرض طوال سنوات لحملة ظالمة، وأذكر تماما أنه في الستينيات كان اسمه غائب تماما من كتب التاريخ، وعندما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية وذكرت ذات مرة لزملائي في الفصل أن أول رئيس لمصر محمد نجيب وليس عبد الناصر اعتبروني مخرف، وسألوا المدرسة التي ارتاعت لمجرد ذكر اسم نجيب في الفصل واشفقت على أهلي من هذا الطفل طويل اللسان الذي من الممكن "إنه يوديهم ويوديها في داهية"، فبعد أزمة مارس 1954 وهزيمة نجيب ومجموعته جرت محاولة منظمة لحذفه من ذاكرة الوطن، رغم أن انقلاب الضباط الأحرار لم يكن متاحا له أن ينجح لولا اسم نجيب، أو ربما لهذا السبب سعوا إلى إزالته من الوجود، وانطبق عليه المثل الشعبي المصري "أخر خدمة الغز علقة"، ولم يفرج عن اسم نجيب ويرد له بعض اعتباره، وأوكد بعض اعتباره، إلا في عصر السادات وبعد حرب أكتوبر، ثم نال أول تكريم مع مشروع مترو الأنفاق الثاني عندما وجه الرئيس مبارك بإطلاق اسمه على محطة عابدين، ورغم اتفاقي مع مختار في الظلم الذي تعرض له نجيب إلا أنني لا أظن إطلاقا أن نقل تمثال فريد إلى ميدان أبو ظريفة جزء من مؤامرة على ذكرى الرجل، ففريد هو الأخر زعيم مظلوم، لكنه مظلوم لأنه جاء بين مصطفى كامل وسعد زغلول، فضاعت ذكراه بينهما رغم دوره المهم في تاريخنا الوطني وتضحياته الكبيرة في سبيل قضية الوطن، والحال الذي آل إليه الميدان الذي وضع فيه تمثاله كان مذريا، وكان قرار نقله صائبا، خصوصا أن الميدان الذي نقل إليه يتوسط الشارع الذي يحمل اسمه، ومصر مليئة بالميادين الخالية والحدائق العامة التي يمكن أن يقام فيها تمثال يليق بأول رئيس لمصر في العصر الجمهوري، ولحديث التماثيل بقية.

 

( 2 )

التماثيل حكايات

 التماثيل حكايات، ونقل التماثيل من أماكنها كمان حكايات، إذا كان تمثال محمد فريد الذي نحته منصور فرج وأزيح عنه الستار في عام 1958 في موضعه القديم في شارع 26 يوليو بين قسمي حديقة الأزبكية قد نقل من موضعه بعد خمسين سنة من إقامته، فقد كان هذا قرارا سليما، فالموضع القديم أصبح غير ملائم والشارع أغلق في هذا القسم منه، والوسعاية التي يقف فيها التمثال صارت مرتعا لتجار الرصيف، والموضع الجديد في منتصف الشارع الذي يحمل اسم محمد فريد والذي كان يحمل قديما اسم شارع عماد الدين، والغريب أن الشارع كان يحمل اسم عماد الدين من بدايته في الناصرية حتى نهايته قرب ميدان رمسيس ثم اقتصر اسم عماد الدين على الجزء الممتد من تقاطع الشارع مع شارع 26 يوليو إلى نهايته عند شارع رمسيس وأطلق اسم محمد فريد على الجزء الآخر من الشارع رغم أنه القسم الذي يقع فيه ضريح الشيخ عماد الدين !!!
وتمثال محمد فريد ليس أول تمثال ينقل من مكانه أو يتغير وضعه، في عصر الخديوي إسماعيل نصبت التماثيل الأولى في الشوارع والميادين والحدائق المصرية، وعندما افتتح كوبري قصر النيل في 10 فبراير 1872، نصبت على مدخليه الأسود الأربعة التي صنعت في أوروبا وتكلفت 8425 جنيه بينما تكلف الكوبري 113850، وكانت الأسود منصوبة على قواعد مرتفعة، لكن عندما أعيد بناء الكوبري مرة أخرى وتوسيعه في ثلاثينيات القرن الماضي تغيرت القواعد وأصبحت بالصورة التي نراها عليها اليوم.
 
الأمر نفسه حدث مع تمثال نهضة مصر الذي أزيح عنه الستار يوم 28 مايو 1928 في موقعه القديم بميدان باب الحديد، كانت قاعدة التمثال مرتفعة.
 
 وعندما قررت الحكومة سنة 1955 نقل التمثال من ميدان باب الحديد إلى مكانه الحالي بالقرب من جامعة القاهرة أقيم على قاعدة جديدة يبلغ ارتفاعها نصف ارتفاع القاعدة الأصلية.
 

 هناك تماثيل تعرضت للنقل من موقعها بسبب التطورات السياسية منها تمثال الخديوي إسماعيل بالإسكندرية الذي كان في موضوع النصب التذكاري للشهداء بالقرب من قلعة قايتباي، فأزيح بعد انقلاب يوليو، وظل في المخازن إلى أن أعاده محافظ الإسكندرية السابق اللواء عبد السلام المحجوب إلى الشارع مرة أخرى.
تمثال الخديوي إسماعيل في موقعة الأصلي
 
 وقد تعرض تمثال نوبار باشا الذي كان قائما في حديقة الشلال للمصير نفسه، وأعيد مؤخرا إلى مدخل أوبرا الإسكندرية (مسرح سيد درويش) أما تمثال سليمان باشا في القاهرة فقد نقل من مكانه في ميدان سليمان باشا إلى المتحف الحربي وحل محله تمثال الاقتصادي المصري طلعت حرب الذي نحته الفنان فتحي محمود، وتغيير اسم الميدان والشارع ليحملا اسم طلعت حرب.
 ميدان سليمان باشا، طلعت حرب الآن
تمثال طلعت حرب
 أما تمثال ديليسبس في بور سعيد بمدخل قناة السويس الشمالي فقد دمره الشعب بسبب العدوان الثلاثي سنة 1956، وقد تم ترميمه مؤخرا وتحتفظ به هيئة قناة السويس.

 والحرب ضد التماثيل اختلفت باختلاف العصور، فتمثال مصطفى كامل الذي كان أول تمثال يكتتب الشعب لإقامته بعد وفاة الزعيم بعامين، والذي نحته ليوبولد سافان وانتهى منه سنة 1913 ظل حبيس مدرسة مصطفى كامل حتى صيف عام 1938 بعد أكثر من ثلاثين عاما على وفاة مصطفى كامل، عندما نقل إلى مكانه الحالي في عهد الملك فاروق.
 
 وعام 1938 العام الذي انتهت فيه أيضا أزمة تمثالي سعد زغلول اللذان نحتهما مختار بالقاهرة والإسكندرية، لقد منعت الحكومة إقامتهما بعد انقلاب إسماعيل صدقي على الدستور، رغم أن مختار نحت التمثالين بتكليف رسمي من الحكومة، ودخل مختار في قضايا ضد الحكومة مات سنة 1934 قبل أن تنتهي ذيولها، ولم يشهد رفع الستار عن تمثاليه.
 
 ولم تكن قضية تمثالي سعد الوحيدة بين مختار والحكومة، فقد تعرض تمثاله نهضة مصر كذلك للتضييق من الحكومات الموالية للسرايا وتأخرت حفلة إزاحة الستار عنه قرابة العام.

ولتمثال أحمد باشا ماهر الذي نحته المثال محمد حلمي يوسف قصة، لقد اكتتب فيه الشعب تخليدا لذكرى الزعيم الذي اغتالته يد الإرهاب السياسي المجرم في بهو مجلس النواب، وتحدد يوم 13 نوفمبر 1948 في الذكرى الثلاثين لعيد الجهاد الوطني، لكن عاصفة هبت بليل مزقت الملاءة التي تغطي التمثال وأزاحت الستار عنه قبل موعد الاحتفال الرسمي، ، ليصحو الناس في اليوم التالي ويجدوا التمثال مكشوفا أمامهم غير مصدقين قصة الريح.
 ومن التماثيل التي ترتبط بالصراعات السياسية تمثال إبراهيم باشا الذي نحته الفنان الفرنسي كوردييه بأمر من الخديوي إسماعيل عام 1872، التمثال أقيم في أول الأمر بميدان العتبة الخضرا، ثم نقل بعد ذلك إلى موضعه الحالي بميدان الأوبرا أمام المدخل الرئيسي لدار الأوبرا المصرية القديمة التي احترقت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ليحل محلها جراﭺ قبيح المنظر، المهم أثار تمثال إبراهيم باشا أزمة سياسية كبيرة بين مصر وتركيا، فقد نحت كوردييه جداريتين من النحت البارز ليضعهما على جانبي قاعدة التمثال تمثل الأولى معركة نازيب والثانية معركة عكا، وفي المعركتين انتصر إبراهيم باشا على جيوش الدولة العثمانية، فغضبت السلطنة العثمانية، وكانت مصر من الناحية الرسمية ولاية تابعة لاستنبول، فحمل كوردييه جداريتيه ورحل إلى بلاده، وفي عام 1900 عرضهما في معرض باريس، ومن يومها اختفت اللوحتان ولم يبق إلا صورهما الفوتوغرافية.

 وعندما قررت الحكومة المصرية الاحتفال بالمئوية الأولى لوفاة إبراهيم باشا سنة 1948 حاولت جلب الجداريتين من فرنسا، ولم يعثر لهما على أثر فنحت منصور فرج وأحمد عثمان جداريتين جديدتين، هما القائمتان إلى الآن على القاعدة.


 أما تمثال لاظوغلي الذي صنعه جاكمار سنة 1872 فله حكاية طريفه فهو لسقا يشبه لاظوغلي، فعندما أراد جاكمار صنع التمثال لم يجد صورة لمحمد بك لاظوغلي، فيبدو أن الحاسة الأمنية لدى الرجل الذي أسس أول جهاز للأمن السياسي في مصر الحديثة جعله يتحاشى أن ترسم له صورة، وفجأة اكتشف أحد كبار الموظفين الذي كان صغيرا أيام لاظوغلي هذا السقا الشبيه بالرجل يسير في منطقة خان الخليلي فاتخذوه موديل للتمثال.

 هذا عن التماثيل القائمة، فماذا عن التماثيل الغائبة، التي لم تقم أصلا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...