الاثنين، 14 أبريل 2014


مخربشات

لاظ أوغلي بك ....

عماد أبو غازي


 
 
"أسماء ومسميات من مصر القاهرة" للأستاذ محمد كمال السيد محمد المحامي واحد من الكتب الممتعة والمفيدة التي أضعها في مكان مميز في مكتبتي وأعود إليه بين الحين والحين، صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986، بمقدمة لعالم الآثار الإسلامية ورائد دراسات المسكوكات في مصر الدكتور عبد الرحمن فهمي محمد، والكتاب ثمرة جهد طويل لمؤلفه استمر 30 عاما، تتبع فيها أسماء شوارع القاهرة ومسمياتها، ما طرأ عليها من تغيرات، وما ارتبط بهذه الأسماء من أحداث وأشخاص، إن الكتاب محاولة جادة لاستكمال تراث المدرسة التاريخية المصرية في مجال الخطط، والبناء على نهج شيخ مؤرخي مصر تقي الدين المقريزي في خططه المعروفة بكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، وعلى العمل المهم لعلي باشا مبارك: الخطط التوفيقية الجديدة، لقد حاول مؤلف كتاب "أسماء ومسميات من مصر القاهرة" أن يتتبع التطورات التي طرأت على مدينة القاهرة منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى زمنه الذي عاش فيه، وقد تطرق بالطبع لأصول أسماء بعض الشوارع والأحياء التي ترجع حكاياتها إلى فترات سابقة على تلك الفترة.
 ومن الحكايات الطريفة التي تستوقفني دائما في هذا الكتاب، حكاية محمد بك لاظ أوغلي، أو لاظوغلي كما نعرفه جميعا، صاحب التمثال الشهير القائم في الميدان المعروف باسمه، في منطقة الدواوين، والذي يتوسط تقاطع شارعي نوبار باشا ومجلس الشعب، ولاظ أوغلي بك هو كتخدا الباشا في عصر محمد علي، أي وكيل الباشا أو نائبه، وكانت تتجمع في يده جميع خيوط الجهاز الإداري والمالي والأمني للدولة، بل نستطيع أن نقول أنه كان بمثابة رئيس الوزراء وأحد أهم رجال الدولة في عصر محمد علي، لذلك فعندما تقرر في عصر الخديوي إسماعيل وضع تماثيل لكبار رجال الدولة في ميادين القاهرة والإسكندرية مثل محمد علي باشا وإبراهيم باشا، وسليمان باشا الفرنساوي ونوبار باشا، وقع الاختيار على لاظ أوغلي ليشيد له تمثالا في قلب منطقة الدواوين التي كانت تضم أهم مباني الجهاز الحكومي المصري بعد انتقالها من القلعة إلى المدينة، الطريف أنهم لم يجدوا صورة مرسومة  للاظ أوغلي ليصنع منها النحات الفرنسي لامار تمثال البك، فالرجل دون رجال عصر محمد علي لم تكن له صور شخصية مرسومة، ربما لأنه مات مبكرا، وربما لأنه كرجل أمن لم يكن يحب أن ترسم له صورة! المهم ... صدرت الأوامر لأحمد باشا الدره مللي بتوفير صورة للاظ أوغلي من تحت الأرض، حار الرجل ولم يعرف ماذا يفعل؟ إلى أن أسعفه الحظ ذات يوم وهو في منطقة خان الخليلي مع محمد باشا ثابت الذي أصبح فيما بعد ناظرا للمعارف والأوقاف، حيث شاهدا سقا حريم يسير في الخان يشبه لاظ أوغلي تماما، فأمره المحافظ بالحضور للمحافظة تاني يوم، وألبسوه ملابس مشابه لما كان يرتديه لاظ أوغلي، وقلدوه سيفا، وصوروه، وأخذوا الصورة للنحات ليصنع منها التمثال، إذا فالتمثال لعم محمد السقا وليس لمحمد بك لاظ أوغلي، الطريف أن حظ لاظوغلي كان بمب دائما، فبينما رفعت حكومات نظام يوليو المتوالية تماثيل زملاؤه من رجال دولة محمد علي وأبنائه من أماكنها مثلما حدث مع تماثيل سليمان باشا ونوبار باشا والخديوي إسماعيل، ظل تمثال لاظوغلي رابضا في مكانه، كما ظل ميدانه يحمل أسمه، فضلا عن شارع في حي جاردن سيتي يقطعها من كورنيش النيل إلى شارع قصر العيني، رغم أن خدمات سليمان باشا الفرنساوي مؤسس الجيش المصري الحديث، ونوبار باشا أول رئيس لمجلس النظار في مصر تفوق ما قدمه لاظوغلي لهذا البلد، عموما هذه ليست دعوة لإزالة تمثال لاظوغلي بل دعوة لإعادة التماثيل المزالة إلى ميادين عامة أو حدائق تليق بها.
  أما عن أهم إنجازات لاظوغلي والتي قدمها خدمة لنظام الحكم في عصر محمد علي فكانت تأسيس أكبر جهاز أمني لحماية النظام، والعهدة على أمين سامي باشا صاحب كتاب تقويم النيل والذي أورد قصة تأسيس لاظوغلي لنظامه الأمني في الجزء الثاني من كتابه الذي يعد أحد أهم مصادر تاريخ مصر في القرن التاسع عشر والذي كتبه مؤلفه من خلال الوثائق الرسمية، خلاصة القصة أن لاظ أوغلي جند جيشا ضخما من "المواطنين" ليعملوا بصاصين لحسابه، كان قوام هذا الجيش من خدم المنازل والباعة الجائلين وصبيان المقاهي والخاطبات والبلانات والعاملين في الحمامات العامة والعاملات، وغيرهم وغيرهن ممن يدخلوا البيوت ويختلطوا بالناس في الأماكن العامة، وعلى كل واحد وواحدة أن يقدم تقريرا يوميا بما سمعه وراءه، ويلقي بالتقرير في وقت محدد في فتحة بمنزل بحي السيدة زينب، كانت تقطن بهذا البيت معلمة محمد علي باشا التي تعرف العربية والتركية والتي كانت تصعد إلى القلعة يوميا لتعلم محمد علي مبادئ اللغة العربية والقراءة والكتابة، فتحمل التقارير إلى القلعة وتسلمها إلى شخص يسمى الشيخ يوسف، ليلخصها الأخير ويرفعها إلى لاظ أوغلي بك، وللشيخ يوسف هذا قصة أكثر طرافة من قصة أستاذه لاظوغلي لا يتسع المجال لها في هذه السطور، وبهذه الطريقة نجح لاظ أوغلي في السيطرة على البلد وأمنه لحساب محمد علي.
 هل بسبب هذا الإنجاز المهم الذي قام به محمد بك لاظ أوغلي لم يفكر رجال عصر عبد الناصر في نقل التمثال من مكانه؟

هناك تعليق واحد:

  1. صباح الخير دكتور عماد،
    قرأت باستمتاع بالغ مقالكم القيِّم، عن "لاظوغلي" وتماثله، واستفدت كثيراً مما ورد بسياقه من معلومات عن الرجل، وعن عصر محمد علي، وعن الكتاب المهم الذي أشرتم إليه.
    ولي في هذا السياق ملحوظة بسيطة، أرجو أن يتسع صدركم لها؛ إذ ورد في المقال - والأغلب أن هذا عائد لنَصّ الكتاب الذي أشرتم إليه - أن صانع التمثال هو النحات "لامار"، والصواب أنه النحات الفرنسي "هنري ألفريد جاكمار" (١٨٢٤ - ١٨٩٦)، الذي تولى كذلك نحت هذه تماثيل أسود كوبري قصر النيلالشهيرة، لتوضع في مَدخَلَي الكوبري عام ١٨٧٣، وهو أيضاً من قام بنحت تمثال "محمد علي" باشا الشهير بالإسكندرية، الذي عُرِض لمدة شهرٍ بميدان "شانزليزيه" بباريس، قبل نقله لمصر، وافتتاحه رسمياً في ١٩ ديسمبر ١٨٧٢، بميدان "محمد علي" بالإسكندرية (ميدان المنشِيّة حالياً). كذلك نحت "جاكمار" تمثال "سليمان باشا الفرنساوي" عام ١٨٧٤، وخلال الفترة ما بين عامَي ١٨٧٤ و١٨٧٥، نحت "جاكمار" تمثال السيد "محمد لاظ أوغلو بِكْ"، المعروف باسم (تمثال لاظوغلي)، والقائم بالميدان الشهير الذي يحمل الاسم نفسه بوسط المدينة.
    مع خالص تقديري وإعزازي لكم

    تلقيت هذا التصويب من الصديق الدكتور ياسر منجي

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...