الجمعة، 25 أبريل 2014


قهوة قشتمر

ليست الأولى ولن تكون الأخيرة

عماد أبو غازي

 مرة أخرى أعود للكتابة عن قهوة قشتمر التي تقع بين شارع الجيش وميدان الضاهر، تلك القهوة التي خلدها نجيب محفوظ برواية تحمل اسمها، والتي اشتهرت بأنها ملتقى لهواة الشطرنج، منذ أربعة أعوام تلقيت رسالة لصفحة تراث وتاريخ بجريدة الشروق تستغيث من المخاطر التي تهدد قهوة قشتمر، كانت الرسالة من الأستاذ طارق فودة وتحمل عنوان: "على ميدان قشتمر: ورثة الموسيقار محمد عبدالوهاب يعلنون إلغاء إيجار قهوة قشتمر وإنشاء برج سكنى مكانها"، وأمس أخبرني عبد الرحمن أحد الشباب الذين أعتز بهم والذي يسكن بمنطقة الضاهر عما آل إليه حال مقهى قشتمر، الذي بات مهجورا، الشيء الإيجابي أنه لم يهدم بعد، فقررت أن أفتح الموضوع مرة أخرى ربما نستطيع أن ننقذ جزء من تراثنا الثقافي.

 
في رسالته سنة 2009 قال الأستاذ طارق فودة:
 "قهوة قشتمر ليست فقط مجرد مكان فيه مقاعد وموائد تقدم فيها القهوة والشاى وغيرها من المشاريب. وليست فقط هى المكان، الذى نال شهرة واسعة عندما جعلها أديب نوبل نجيب محفوظ عنوانا لواحدة من أشهر رواياته، لكنها عندى أبعد من ذلك بكثير؛ لأنها فعلا هي بداية الطريق إلى حي الظاهر الموصل إلى الفجالة، وهى المدخل الحقيقى من شارع فاروق (شارع الجيش حاليا) إلى ميدان قشتمر، فهى الناصية ما بين شارع فاروق والميدان المسمى باسمها، وهى كذلك أقرب الأماكن إلى واحد من أشهر المبانى التاريخية فى القاهرة المملوكية...
 أقول: تقترب قهوة قشتمر من مسجد وحديقة الظاهر: الظاهر بيبرس من أشهر من حكموا مصر من المماليك، وممن دافعوا عنها دفاعا رائعا فى استبسال وشجاعة لا نظير لهما.
وقبل أن يرتاد نجيب محفوظ قهوة قشتمر قادما إليها من الفتحة المواجهة لها والتى تخترق شارع الحسينية، المخرج الذى كان يخرج منه إليها نجيب محفوظ، ومن حيث ولد وعاش فى مطلع أيامه؛ قبل هذا كان كبار كتاب مصر يجلسون إلى قهوة قشتمر؛ فقد كان واحد من أهم كتاب القرن العشرين يسكن فى مواجهة القهوة مباشرة، وعلى الناصية الأخرى من شارع فاروق ــ شرفته المطلة على شارع هارون تتجه إليها مباشرة، وهو: إبراهيم عبدالقادر المازني، ومن هنا ــ فإنها كانت ملتقى الأدباء والكتاب فى مطلع ومنتصف القرن العشرين.
وأبعد من هذا..
كانت قشتمر من أكثر الأماكن التى عانت إبان الحرب العالمية الثانية من قنابل الألمان ــ ليست القنابل وحدها، وإنما الطوربيدات أيضا؛ فقد حدث في ليلة ما من ليالى سنة 1942، وكانت الحرب مستعرة بين روميل وفيلد مارشال مونتجمري، وأرادت ألمانيا أن تضرب الجيش الإنجليزى فى كل مكان على أرض مصر حتى تضعفهم على أرض العلمين، فى المعركة الفاصلة، وكان القصف، أو عنفوان القصف يتجه إلى حيث المكان الذي يتصور الألمان أن الإنجليز يجتمعون فيه، ما يعرف باسم مدبح الانجليز، فقد تصور الألمان أن الانجليز ما زالوا يستخدمون حديقة الظاهرة مذبحا لأبقارهم، التى يأكلونها ويزودون بها الجيش البريطانى كله، هكذا كان الحال فى الحرب العالمية الأولى، لكنه لم يكن كذلك فى الحرب العالمية الثانية.
ومن هنا كان القصف عنيفا على أرض قشتمر، عندما يخطئون الهدف على مدبح الإنجليز حديقة الظاهرة.
وأنا واحد من الناس الذين عاشوا هذا القذف المباشر، فقد كانت جدتى لأمى تعيش فى 3 ميدان قشتمر ملاصقة لقهوة قشتمر تماما، وفى إحدى الليالى أسقط الألمان أول طوربيد لهم فسقط على أرض الميدان، صنع التوربيد حفرة واسعة على بعد أمتار من حديقة الظاهر، جاءت سيارة المطافئ لتسقط فيها، تلتها سيارة الإسعاف لتسقط هى الأخرى ولتخمد أجراس السيارتين، ثم دقائق بعدها يسقط الطوربيد الثانى على أرض قهوة قشتمر ــ لترتفع شظاياه إلى الدور الثالث ــ حيث كنا نجلس جميعا على الأرض ــ تخترق الشظية نافذة الحجرة المواجهة، تعبر الصالة، حيث نحن جالسون تعبر فوق رءوسنا وتستقر فى الحائط أمام أعينا. وانتهت الغارة لنرى أن شعر أبى، وكان حالك السواد قد إبيض جميعا لهول ما أحس به ومن هول خوفه علينا جميعا.
 ذكريات أخرى كثيرة حول قشتمر لا يتسع المكان لذكرها، ولكن هذه القهوة وهذا الميدان كانا محطا لأحداث كثيرة إبان الحرب العالمية الثانية.
قهوة قشتمر ــ والميدان كله ــ وبقاؤه على ما كان عليه من أجل أيام لها تاريخ وهى أغلى من أن يدور الحوار حول بيعها ــ بين ورثة عبدالوهاب وهذا الحاج الذى ورث إدارتها عن أبيه الحاج ــ وعن جده الحاج أيضا."


 انتهى كلام الأستاذ طارق فودة، وأقول:
 ليست قهوة قشتمر المبنى التاريخي الثقافي الأول الذي تطاله معاول الهدم ولن تكون المكان الأخير في مصر الذي تهدده تحولات المدينة وتحولات البشر.

 ففي كل بلدان العالم التي تحترم تاريخها وتراثها تكون للأماكن والمباني التي ترتبط بأحداث سياسية أو ثقافية أو فنية، أو تلك التي عاشت فيها الشخصيات التي لعبت دورا في التاريخ قيمة وجدانية وثقافية أبعد وأرفع من قيمتها في سوق العقارات. لا تستطيع معاول الهدم أن تقترب منها. بل تحتفي هذه البلدان بالمباني من هذا النوع وتحافظ عليها، تحولها إلى متاحف أو مزارات ثقافية وسياحية، وتحرص كل بلد إلى أن تشير إلى تلك المواقع من منازل أو مقاهي أو حدائق وتبرزها على خرائطها، فمثل هذه الأماكن تتحول بمن عاشوا فيها أو اعتادوا ارتيادها أو مروا بها إلى جزء من تاريخ الأمة.

 وعندنا في مصر يختلف الموقف، فبعضا من هذه المباني تحول بالفعل إلى متاحف ومزارات في مراحل مختلفة من تاريخنا، مثل "بيت الأمة" (منزل الزعيم سعد زغلول) و"كرمة ابن هانئ" (بيت أمير الشعراء أحمد شوقي) و"رامتان" (بيت طه حسين)، ومثلها بيوت كل من الفنان محمود سعيد بالإسكندرية والفنان ناجي بالهرم وقصر الأمير عمرو إبراهيم بالجزيرة والذي يتميز بطرازه المعماري الفريد، وقد ظل التنظيم الطليعي في الستينيات يستخدمه كأحد مقراته، وحولته وزارة الثقافة منذ التسعينيات إلى متحف للخزف، إلى جانب استخدام بدرومه وحديقته كمركز للفنون وقاعات للعرض التشكيلي، بعض هذه المباني اشترتها الدولة والبعض الآخر صادرته بعد انقلاب يوليو 1952، والبعض من هذه البيوت والقصور وهبها أصحابها للأمة أو أوصوا بتحويلها إلى متاحف للشعب بعد وفاتهم، مثل قصر الأمير محمد علي بالمنيل، وقصر الأمير يوسف كمال بالمطرية، وقصر محمد محمود خليل بك نائب رئيس مجلس الشيوخ في العصر الملكي وأحد رعاة الحركة الفنية في مصر وصاحب المجموعة المتميزة من الأعمال التشكيلية العالمية، والذي أصبح متحفا بعد وفاة الرجل وزوجته الفرنسية يحمل اسمهما معا، إلى أن تم الاستيلاء عليه ـ رغم الوصية ـ في عصر الرئيس الراحل أنور السادات لأنه كان يجاور منزله بالجيزة، واستعادته وزارة الثقافة مرة أخرى، ومثل منزل الفنان حامد سعيد مؤسس جماعة الفن والحياة بالمرج والذي بناه له ـ إن لم تخني الذاكرة ـ المهندس حسن فتحي.

 وإذا كانت الظروف قد حفظت لنا هذه المباني المهمة التي ارتبطت بزعماء مصر ومفكريها، وامتدت إليها يد الحماية والصيانة والترميم، وأصبحت تحظى برعاية وزارة الثقافة التي حولتها إلى متاحف ومراكز ثقافية مفتوحة أمام الناس، ومغلقة في أحيان أخرى للترميم أو التأمين أو التطوير! فإن مصير عشرات من بيوت قادة الفكر والفن والسياسة في مصر كان مأساويا، وأذكر هنا بعض الحالات من الماضي البعيد والماضي القريب: لقد تم هدم قصر هدى شعراوي رائدة النهضة النسائية في مصر التي لعبت دورا مهما في أحداث ثورة 1919، والتي أسست الاتحاد النسائي المصري سنة 1923 ثم أسست الاتحاد النسائي العربي، ودعت لعقد أول مؤتمر نسائي عربي لمناصرة القضية الفلسطينية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وعقدت جلسات المؤتمر في قصرها الذي كان يحتل ناصية شارع قصر النيل وناصية شارع شمبليون وتحولت الأرض من يومها إلى خرابة ثم ساحة لانتظار السيارات، هدمته الدولة ـ نعم الدولة ـ في أوائل الستينيات في ظل سياسة الفندقة التي تبناها أحد الوزراء الكبار في ذلك العصر، والتي أطاح في ظلها بحديقة قصر الأمير محمد علي بالمنيل ليقيم على بقايا أشجارها النادرة فندقا شوه به القصر الأثري، والتي تحول في ظلها أيضا قصر خير الله بالزمالك إلى فندق عمر الخيام الزمالك دون محافظة على حديقته ومكوناتها، ثم تحول في السبعينيات إلى فندق ماريوت الزمالك ببرجيه سابقي التجهيز المحيطين بالقصر الأثري، وفي السبعينيات أيضا وبعد حريق دار الأوبرا تم هدم قهوة متاتيا بميدان العتبة، والتي كان يجلس عليه جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وغيرهما من قادة الفكر والسياسة ورجال الثقافة والفن منذ عصر الخديوي إسماعيل، كما هُدم فندق سميراميس بطرازه المعماري المميز وأركانه التي شهدت لقاءات سياسية لقادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وشهدت جلسات كبار مثقفي مصر ومفكريها، ليقام مكانه فندق إنتركونتينتال بطرازه المعماري الحديث، وتتردد كل حين دعاوى هدم فندق الكونتينتال بميدان الأوبرا، هذا الفندق الذي شهد اجتماع البرلمان المصري في تحد واضح للملك فؤاد في أول انقلاباته الدستورية.

 وفي الإسكندرية تم هدم مطعم بترو الذي كان يشهد مجلس توفيق الحكيم، والطابية التي كانت تعلوه والتي تعد من بقايا التحصينات العسكرية زمن العرابيين، وفندق سان ستيفانو، وعديد من الفيلات القديمة بالمدينة، وغير ذلك من بيوت الصعيد القديمة في المنيا وأسيوط والأقصر، لو امتلكت مدينة في العالم بيوتا لها مثل هذا التاريخ لعرفت كيف تحتفي بها بما يليق بقيمتها.

  ومن ناحية أخرى فكثيرا ما يقوم ورثة الساسة والكتاب والفنانيين بهدم بيوتهم أو بيعها بعد وفاتهم، وما حدث مع فيلا أم كلثوم ليس ببعيد، فقد تحولت الفيلا إلى برج وفندق يحمل اسمها دون أن يبقى أي شيئ من المكان الذي عاشت فيه سنوات طويلة من عمرها، ويحمل كل ركن فيه ذكرى من ذكرياتها.

 إذن فحالة قهوة قشتمر ليست الوحيدة ولا هي الأولى لقد اختفت قهوة إسيفتش وبار اللواء وكافيتريا أسترا بميدان التحرير وقهوة المالية بميدان لاظوغلي، وكلها أماكن لها مكانها ومكانتها في تاريخنا الفكري والثقافي والسياسي، ونسمع أحيانا عن تهديدات تحيق بمقاهي أخرى لها تارخها مثل مقهى ريش بشارع طلعت حرب.

 وإذا كانت الدولة مطالبة وملزمة بألا ترتكب جرائم كتلك التي وقعت في الماضي القريب أو البعيد، إلا أننا لا نستطيع أن نمنع الأفراد من التصرف في أملاكهم كما يشأون، لقد قامت حملة صحفية وقت بيع فيلا أم كلثوم وهدمها، ولم تؤت ثمرة، لأن ما قام به ورثة أم كلثوم لا يخالف القانون.

 فماذا نفعل؟

 أتصور أن مسؤلية الدولة وواجبها يقتضيان إنشاء صندوق لتمويل شراء مثل هذه المباني من أصحابها، وصيانتها والحفاظ عليها، وتحويلها إلى مزارات سياحية وتاريخية ومراكز للنشاط الثقافي، ربما يكون مثل هذا الصندوق خطوة أولى على طريق الحفاظ على مبان لها تاريخ.

 وربما يستطيع المجتمع المدني أن يقوم بهذه المهمة، ما دامت الدولة لا تقوم بها، وإذا كانت سنوات أربع قد مرت ولم يهدم مقهى قشتمر بعد، فربما نستطيع انقاذه، وانقاذ جزء من تاريخنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...