الأحد، 20 أبريل 2014

حكاية مكتشف الفسطاط
عماد أبو غازي
 القاهرة في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فترة البدايات في علم الآثار، فترة وإن كانت الجهود الأساسية فيها للأجانب إلا أنها شهدت جهودا مصرية لازمت البناء وأرست دعائمه، هذا نفس ما شهدته مصر في إرساء معالم نهضتها القومية في مختلف المجالات، في الأدب والشعر، في الموسيقى والغناء، في الفنون الجميلة، في مؤسسات التعليم والبحث، وقبل ذلك كله في مجال النهضة الوطنية، ففي القرن التاسع عشر نبغ من بين المصريين اثنان من علماء الآثار، أحمد كمال في مجال الآثار المصرية القديمة أو علم المصريات، ورجلنا الذي نتحدث عنه اليوم في مجال الآثار الإسلامية، على بهجت... كلاهما كان له دوره البارز في الحياة المصرية في سنوات إرساء دعائم النهضة الجديدة التي جاءت كتحدي للاحتلال البريطاني لمصر.
 فمن هو على بهجت؟
على بهجت
 
 على بهجت سليل عائلات تركية الأصل من ناحية الأم والأب أبوه محمود بهجت وأمه زهرة محمود أغا، وهما من أبناء العائلات التي استوطنت في مصر خلال عصر الاحتلال العثماني وحكم أسرة محمد على وتمصرت مع مرور الزمن، وأصبح الانتماء الأساسي لهذه العائلات إلى الوطن الجديد مصر، ورغم اعتزازهم بأصولهم التركية والـﭽركسية فقد كان من المعتاد أن يذوب الجيل الثاني أو الثالث في المحيط المصري، وهذا ما حدث مع على بهجت.
 ولد على بهجت عام 1858 في قرية بهاء العجوز بمديرية بني سويف، وتنقل في سنوات التعليم بين المدرسة الناصرية ثم المدرسة التجهيزية، وأمضى سنتين في مدرسة المهندسخانه ومنها إلى مدرسة الألسن والتي أهلته لوظيفة مترجم بالمدرسة التجهيزية عام 1882، وبعد عشر سنوات أصبح مفتشا في المدارس الابتدائية التابعة للأوقاف ثم رئيسا لإدارة الترجمة بنظارة المعارف ومن هنا بدأ مسار حياته يتغير.
 أهتم على بهجت منذ تخرجه بالآثار فعمل مع المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في حل كتابات النقوش العربية والمخطوطات، وقد وصل إلى هذا العمل بمساعدة يعقوب أرتين الذي كان وكيلا للمعارف ومهتما بالآثار في ذات الوقت، وهكذا وجد على بهجت نفسه في البيئة التي التقت مع ميوله، فعمل مع البعثة الفرنسية خمسة عشر عاما بنجاح تام يساعده على ذلك درايته باللغات، فقد كان يعرف غير العربية الفرنسية والألمانية والتركية ثم الإنجليزية، وأتاح له عمله مع بعثة الآثار الفرنسية الاحتكاك ببعض من أشهر علماء الآثار الإسلامية في ذلك الوقت والتتلمذ على أيديهم، وفي مقدمة هؤلاء الأثري الكبير كازانوفا.
 وظل على بهجت موزعا بين طريقين، طريق العمل الحكومي الذي يلتقي بدراسته، وطريق الحقل الأثري الذي ينبع من ميوله واستعداده إلى أن توحد المسار في مطلع عام 1900. لقد كانت لعلى بهجت ميوله الوطنية المعادية للإنجليز، لذلك فقد اصطدم خلال عمله في نظارة المعارف بمستشارها الإنجليزي دنلوب، وكانت الحركة الوطنية تعتبر الرجل من أعدى أعداء مصر ومن المحاربين لنهضتها، وهاجم على بهجت المستشار الإنجليزي هجوما لا هوادة فيه على صفحات جريدة المؤيد مما ترتب عليه موقفا متوترا في نظارة المعارف دفع على بهجت إلى التفكير في الاستقالة من عمله.
 لكن فخرى باشا ناظر المعارف آن ذاك ووكيلها يعقوب أرتين عملا على نقله إلى إدارة حفظ الآثار العربية، وصدر بذلك قرار في 14 يناير سنة 1900، وبذلك أصبح على بهجت موجودا في الحقل الأثري الرسمي والعلمي معا، فانطلق يرسي دعائم النهضة المصرية في مجال الآثار الإسلامية ويسعى من أجل أن يجعل من تطلعاته في الحقل الأثري حقائق واقعة.
 ويظهر نشاطه العلمي واضحا في لجنة حفظ الآثار العربية والتي كان عضوا بارزا بها؛ فلا يخلو محضر من محاضر اجتماعاتها من رأى له أو تعليق في أمر من أمور الآثار الإسلامية في مصر، وهو كذلك عضو بارز في المجمع العلمي المصري منذ يناير سنة 1900، يشارك في جلساته ويسهم في نشر مطبوعاته المهمة إلى أن وصل لمنصب نائب رئيس المجمع عام 1923، فضلا عن ذلك فهو أحد المؤسسين للجامعة المصرية، ومن أبرز المحاضرين فيها، والمشاركين في إدارتها حتى أصبح وكيلا لها قبل أن تتحول إلى جامعة حكومية رسمية.
 وإسهامات على بهجت في حقل الآثار الإسلامية والقبطية عديدة تضعه على رأس علماء الآثار في مصر، بل وبين قائمة العلماء المبرزين على مستوى العالم أجمع في هذا المجال. لقد أرسى على بهجت بكشوفه الأثرية وحفائره التي امتدت من شمال البلاد إلى جنوبها دور مصر كدولة منقبة عن الآثار الإسلامية لها حضارتها وبعثتها الأثرية.
 وكان من إسهامه البارز في مجال الآثار الإسلامية ذلك الدور الذي لعبه في متحف الفن الإسلامي، فقد شارك في تأسيس المتحف القائم الآن في ميدان باب الخلق بالقاهرة وشغل منصب وكيل المتحف منذ عام 1902، ثم أصبح مديرا له من عام 1915 حتى وفاته في سنة 1924. وخلال عمله بمتحف الفن الإسلامي نجح في أن يبرز دور المتحف كمنشأة لها حفائرها، وعن طريق ذلك أمد متحف الفن الإسلامي بالقطع الأثرية المتنوعة التي شكلت قوام مجموعته الكبيرة، كما عنى عناية خاصة بأن يكون للمتحف السيطرة على التلال الأثرية بالقاهرة القديمة حتى لا يتسرب ما يعثر عليه بها من آثار إلى أيدي التجار، وكانت للرجل كذلك جهوده في الحفاظ على الآثار الإسلامية القائمة والتي بدأ الزحف العمراني في المدن يهددها، فسعى إلى حمايتها حفاظا على معالم حضارتنا في العصر الإسلامي.
 ورغم الجهود المتنوعة لعلى بهجت يبقى كشفه لأطلال مدينة الفسطاط القديمة الأهم من بين أعماله في المجال الأثري، حيث أكتشف على بهجت في أطلال المدينة القديمة مبان يعود أقدمها إلى القرن الرابع الهجري وأحدثها إلى القرنين السادس والسابع، هذا بالإضافة للآثار المتنوعة التي تشكل حاليا مجموعة كبرى من مجموعات متحف الفن الإسلامي بالقاهرة. وإلى الشرق من المدينة أكتشف على بهجت بقايا السور الذي شيده صلاح الدين الأيوبي في القرن السادس الهجري.
 
 وترجع أهمية كشوف الفسطاط إلى أنها أول عاصمة لمصر في العصر الإسلامي وقد قال عنها المؤرخ تقي الدين المقريزي في خططه المعروفة بكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار في أوائل القرن التاسع الهجري:
  "أعلم أن فسطاط مصر أختط في الإسلام بعدما فتحت أرض مصر وصارت دار إسلام، وقد كانت بيد الروم وحين اختط المسلمون الفسطاط انتقل كرسي المملكة من مدينة الإسكندرية وصار من حينئذ الفسطاط دار إمارة ينزل به أمراء مصر، فلم يزل على ذلك حتى بُنى العسكر بظاهر الفسطاط، فلما أنشأ الأمير أحمد ابن طولون القطائع بجانب العسكر سكن فيها واتخذها الأمراء من بعد منزلا حتى قدمت عساكر الإمام المعز لدين الله الفاطمي مع كاتبه جوهر القائد فبنى القاهرة وصارت دار خلافة، واستمر سكن الرعية بالفسطاط، وبلغ من وفور العمارة وكثرة الخلائق ما أربى على عامة مدن المعمور حاشا بغداد، ومازال على ذلك حتى نزل ملك الفرنج بجموعه الكثيرة على بركة الحبش يريد الاستيلاء على مملكة مصر فعجز الوزير شاور السعدي عن حفظ البلدين معا، فأمر الناس بإخلاء مدينة الفسطاط وأمر شاور فألقى العبيد النار في الفسطاط، فلم تزل به بضعا وخمسين يوما حتى احترقت أكثر مساكنه، فلما رحل ملك الفرنج عن القاهرة، تراجع الناس إلى الفسطاط ورموا بعضه، ولم يزل في نقص وخراب إلى يومنا هذا وقد صار الفسطاط يعرف في زماننا بمدينة مصر..."
 وإذا كان اكتشاف على بهجت لأطلال مدينة الفسطاط القديمة هو أهم كشوفه الأثرية، فإن أطرف هذه الكشوف هو عقد شروط زواج القائد الفرنسي عبد الله جاك مينو بزبيدة الرشيدية.
 لقد رحل على بهجت عن عالمنا بعد حياة كلها عمل وسعي من أجل مصر وآثارها حيث توفى بين كتبه في يوم 27 مارس سنة 1924. لقد كان من تلك الشخصيات الجامعة ومن هنا كان العطاء كبيرا والأثر كبيرا، أثر يعتز به علم الآثار وعطاء يشكل ذخرا لكل من تعنيه حضارة الشرق.
*****
 
هذه الأيام تجرى محاولات لردم أطلال مدينة الفسطاط التي شارك في اكتشافها علي بهجت من مئة عام.
وقع على العريضة لوقف ردم الفسطاط

هناك تعليق واحد:

  1. ياريت يادكتور عماد تدعمنا لوقف مهزلة ردم الفسطاط

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...