الأربعاء، 23 أبريل 2014


مصر قصة حضارة

مصر هبة المصريين

عماد أبو غازي

 في ماض سحيق شق نهر النيل مجراه منطلقا من قمم الجبال العالية ليعبر الغابات والصحارى بحثا عن هذه الأرض، أرض مصر، ليمهد الطريق أمام الإنسان القديم فيها لتشييد حضارة من أقدم الحضارات التي عرفها البشر وأعظمها. حديثنا اليوم عن ذلك النهر الذي تعتمد عليه حياة مصر، والذي أدرك الأجداد قيمته فقدسوه، فهو مصدر الحياة، وسر استمرار الحضارة في هذه الأرض، والحديث عن النهر الخالد يدفعنا إلى الماضي البعيد، قبل العصور التاريخية، إننا نعود إلى الفترة التي تُعرّف بالحقب الجيولوجية، ولا تُعرّف بالسنوات، ووفقا لكثير من الأبحاث والدراسات الجيولوجية والجغرافية فإن النيل الذي نعرفه اليوم قد بدأ ظهوره في العصر الجيولوجي الرابع والأخير والذي يعرف بعصر البلايستوسين.
حزين                                                                                                      غربال





 توينبي
 ويقول الدكتور سليمان حزين في دراسته عن حضارة مصر، إنه قبل تكوين النهر في صورته الحالية كانت هناك ثلاثة نظم نهرية مستقلة عن بعضها، أولها في الهضبة الاستوائية، وثانيها في الهضبة الحبشية، وثالثها في النوبة ومصر، ومن هذه النظم الثلاثة تكون النهر العظيم. وسر عظمة هذا النهر ـ كما يقول الدكتور سليمان حزين ـ ترجع إلى تكوينه الطبيعي، وإلى ما يمتاز به من ميزات جغرافية طبيعية، وإلى تطوره الفزيوغرافي، وإلى ما تميزت به مراحل ذلك التطور، لاسيما خلال الزمن الجيولوجي الرابع، من ترتيب خاص وتتابع في الأحداث، كان لهما أبعد الأثر في تكوين أرض هذا الوادي، وإعدادها لأن تكون مهد حضارة تعتبر من أعرق الحضارات.
 وقد كان من نتائج ذلك كله أن جمع نهر النيل، في مصر على الأقل ما بين خاصيتين في واقع الأمر مترابطتان أشد الترابط: أولاهما أن هذا النهر يعتبر من الناحية الجيولوجية من أحدث أنهار العالم الكبرى تكوينا، وثانيتهما أن أرضه مع ذلك كانت مهدا لحضارة من أقدم الحضارات المستقرة.
 لقد ربط المؤرخون والرحالة الذين زاروا مصر منذ القدم، بين نهر النيل والحضارة المصرية القديمة، ومن هنا جاءت العبارة الشهيرة "مصر هبة النيل" والتي تنسب إلى المؤرخ الإغريقي هيرودوت الذي يوصف بأنه أبو التاريخ، وهيرودوت مؤرخ إغريقي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ولد في هاليكارناسوس من مدن جنوب غرب آسيا الصغرى، وقد هاجر هيرودوت من بلاده وهو فتى، وتنقل في رحلات عديدة جاب فيها العالم القديم وسجل خلالها مشاهدته، التي جمعها تاريخه الشهير الذي أسماه "تمحيص الأخبار" واستحق بسببه أن يكون أبو التاريخ. وزار هيرودوت مصر في فترة الاحتلال الفارسي الأول للبلاد الذي بدأ عندما غزاها قمبيز في سنة 525 قبل الميلاد، وفي الفترة التي زار فيها هيرودوت مصر كانت هناك جالية يونانية كبيرة تعيش في مصر، وقد اختلط هيردوت بهم واعتمد على أرائهم كثيرا، عند تأريخه لمصر.
 لكن ماذا يقول هيرودوت عن فضل النيل على مصر، وننقل هنا عن الترجمة العربية لكتاب هيرودوت والتي قام بها الأستاذ الدكتور محمد صقر خفاجه بعنوان "هيرودوت يتحدث عن مصر" حيث يقول هيرودوت:
 "أما بخصوص المسائل الإنسانية فالكهنة متفقون فيما بينهم على أن مينا كان أول ملك لمصر من البشر، وإن مصر في عهده كانت كلها مستنقعا ما عدا ولاية طيبة، بينما لم يظهر فوق الماء جزء واحد من الأرض التي توجد الآن شمال بحيرة مويريس، وهذه تقع من البحر على سفر سبعة أيام تصعيدا في النهر، ويظهر لي أن كلامهم عن وطنهم صحيح، إذ يتضح لمن لم يستمع إليهم من قبل، ولمن عساه أن يكون قد رأى البلاد وحسب، وكان عليما بصيرا؛ يتضح له أن مصر التي يبحر إليها اليونانيون أرض مكتسبة، وأنها هبة من النيل."
 من هنا جاءت المقولة الشهيرة لأبى التاريخ هيرودوت "مصر هبة النيل"، وهى مقولة رددها قبله وبعده عديد من المؤرخين.
 لكن هل هذه المقولة صحيحة؟ أو بمعنى آخر هل تعبر بالفعل عن حقيقة نشؤ الحضارة المصرية وتطورها؟
 لقد رد الجغرافي المصري الكبير الدكتور سليمان حزين على مقولة هيرودوت بمقوله أخرى قدم بها لكتابه "حضارة مصر أرض الكنانة"، فقال:
 "لم تكن مصر الحضارة هبة النيل كما قال عنها هيرودوت وإنما هي كانت هبة الإنسان المصري للحضارة والتاريخ"
 وقبل ذلك ذهب الأستاذ محمد شفيق غربال المؤرخ المصري البارز نفس المذهب في أحاديثه الإذاعية التي قدمها بالإنجليزية من دار الإذاعة المصرية، ثم جمعها في كتاب باسم "تكوين مصر" حيث يقول:
"النيل منبع حياتنا، ومصر ما هي إلا الأراضي الواقعة على ضفتي النهر، وليس لها من حدود إلا المدى الذي تصل إليه مياه النهر ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر، تأمل النيل مجتازا آلاف الأميال من خط الاستواء إلى البحر الأبيض، هل تجد على طول مجراه إلا مصرا واحدة؟ إن هبات النيل كهبات الطبيعة سواء بسواء، طائشة عمياء، إذا ما تركت دون ضبط فإنها تدمر كل شئ وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة. والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة. وقد كان ذلك ما عمله الإنسان في مصر، فمصر هبة المصريين."
 لقد كان المؤرخ المصري محمد شفيق غربال محقا كل الحق عندما قال: إن "مصر هبة المصريين"، فهذه الأرض وتلك الحضارة الرائدة العظيمة لم تظهر وحدها لمجرد اختراق النهر للصحراء، بل هي حضارة من صنع الإنسان.
 فوراء قصة هذه الحضارة رواد عظام خلقوا مصر وانتزعوها من بين المستنقعات والصحارى، وأبدعوا هذه الحضارة، ولأولئك الرواد قصة ترجع إلى آلاف السنين، وهذه القصة يرويها لنا المؤرخ الكبير أرنولد تويبني، مفسرا الأحداث وفقا لنظريته الشهيرة "التحدي والاستجابة"؛ فيقول: "إن المصريين الأوائل شأنهم في ذلك شأن بعض الشعوب واجهوا بعد نهاية عصر الجليد التحول الطبيعي العميق في مناخ الأرض، والذي تمثل في ارتفاع درجات الحرارة والجفاف".
 هذا هو التحدي فماذا كانت الاستجابة من الأقوام الذين واجهوا التحول؛ منهم من لم ينتقل من مكانه ولم يغير طرائق معيشته فلقى جزاء إخفاقه في مواجهة تحدي الجفاف الإبادة والزوال. ومنهم من تجنب ترك الموطن ولكنه استبدل طريقة معيشته بأخرى فتحولوا من صيادين إلى رعاة رحل عرفتهم المراعي الأفروأسيوية. ومن هؤلاء من رحل نحو الشمال وكان لزاما عليهم أن يواجهوا تحدي برد الشمال الموسمي. ومن الأقوام من انتقل صوب الجنوب نحو المنطقة المطيرة وهنالك أوهن قواهم جو تلك المناطق المطير الجاري على وتيرة واحدة. وأخيرا منهم أقوام استجابوا لتحدي الجفاف بتغيير وطنهم وتغيير طرائق معيشتهم معا. ومن هؤلاء كان الأجداد الأوائل للمصريين، وكانت استجابتهم للتحدي هي العمل الإرادي الذي خلق مصر كما عرفها التاريخ.
 ويمضي توبيني في رسم صورة الرواد الأوائل مؤكدا على فكرة أساسية هي أن مصر وحضارتها هي هبة هؤلاء الرواد الأسلاف القدماء للشعب المصري، لقد هبط أولئك الرواد الأبطال بدافع الجرأة أو اليأس إلى مستنقعات قاع الوادي، واخضعوا طيش الطبيعة لإرادتهم، وحولوا المستنقعات إلى حقول تجري فيها القنوات والجسور، وهكذا استخلصت أرض مصر من الأجمة التي خلقتها الطبيعة، وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته الخالدة لتستقيم له أمور دنياه وأمور أخراه.
 ويذهب تويبني إلى أن المستنقعات التي تحكم فيها المصريون الأوائل هذا التحكم الحاسم كانت لا تختلف كثيرا عن منطقة المستنقعات بجنوب السودان، بل إن العلماء يظنون أن أسلاف القوم الذين يعيشون الآن في تلك المنطقة كانوا يقطنون فيما مضى ما يعرف الآن بصحراء ليبيا جنبا إلى جنب مع مبدعي الحضارة المصرية، عندما استجاب هؤلاء لداعي الجفاف واختاروا لأنفسهم أن يتخذوا خطة بالغة الخطورة إلى أقصى مدى.
 ويرى تويبني أن وجود الرجل أو الرجال ـ ونقول أو النساء ـ الموهوبين الذين قادوا شعبهم في الساعة الملائمة إلى مغامرة كبرى من مغامرات الخلق والتكوين كانت عاملا أساسيا وراء نجاح الأسلاف الأوائل للمصريين في مواجهة تحدي الجفاف، حقا إن مصر هي هبة المصريين الأوائل الذين عرفوا كيف يروضوا الطبيعة ويستفيدوا منها لأقصى درجات الاستفادة، ويقوموا بهذه المغامرة الأولى التي خلقت مصر التي نعرفها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...