الاثنين، 7 أبريل 2014


حكاية القوانين سيئة السمعة ( 1 )

عماد أبو غازي

 مصطلح "القوانين سيئة السمعة" ظهر في القاموس المصري في عصر الرئيس الراحل أنور السادات، ظهر كوصف للعديد من التشريعات المقيدة للحريات والتي تفنن في تدبيجها "ترزية" القوانين، هؤلاء المشرعون وأساتذة القانون الذين سخروا علمهم وخبرتهم القانونية ضد الشعب وفي خدمة السلطان، القوانين سيئة السمعة هي تلك القوانين التي تصادر الحقوق السياسية للإنسان المصري، وتفرض القيود على الحريات، وتهدر المبادئ القانونية المستقرة في التشريع المصري وفي المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتسهل للسلطة خرق الضمانات المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية، وتُنشأ محاكم استثنائية، وتسمح بمحاكمة المواطن أمام قاض غير قاضية الطبيعي، وتهدر درجات التقاضي، وتؤسس لسلطة الاستبداد وللدولة البوليسية.

 والقوانين سيئة السمعة قد تكون تعديلا في مادة أو مواد في قانون العقوبات أو قانون الإجراءات الجنائية، وقد تكون تشريعا مكتملا يضرب المنطق الذي يقوم عليه النظام القانوني ويطيح به تحت دعاوى مختلفة تروج دائما لأن الهدف من مثل هذه التشريعات حماية أمن الوطن والمواطن، بينما الهدف الحقيقي دوما كان وسيظل حماية الحاكم واستبداده وتسلطه. وكثيرا ما يرتبط صدور مثل هذه القوانين والتشريعات بإنهاء حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية كما كانت تسمى قديما، وهي الحالة التي عاشت مصر في ظلها على مدى المائة عام الأخيرة إلا قليلا، والتي سمحت بانتهاكات مروعة لحقوق الإنسان في مصر، راح ضحيتها آلاف المواطنين، وكانت هذه الانتهاكات سببا مباشرا من أسباب الثورة في يناير 2011.

 وإذا كان مصطلح القوانين سيئة السمعة وترزية القوانين قد ظهرا في عصر الرئيس السادات واتسع نطاق استخدامهما في عصر مبارك، فإن مصر عرفت هذا النوع من القوانين كما عرفت هؤلاء الترزية طوال تاريخها الحديث، ويبدو أن الأمر لم يتغير بعد ثورة 25 يناير 2011، وإننا مازلنا بحاجة إلى ثورة في العقول وثورة في الضمير لنتخلص من هذه الآفة البغيضة التي ترجع لسنوات بعيدة إلى الوراء.

 قبل أن تعرف مصر النظم الدستورية الحديثة كانت السلطات تباشر انتهاك حقوق الناس دون رادع إلا من حركات الاحتجاج والانتفاضات الشعبية، ورغم بداية العصر الدستوري في مصر في عهد الخديوي إسماعيل فقد شهد ذلك العصر قرارات نفي وإبعاد عن البلاد بحق عدد من المعارضين، كما شهد موجة من مصادرات الصحف السياسية التي واكبت صعود الحركة الوطنية المصرية، ربما كان أولها صحيفة وادي النيل التي أنشأها الشاعر عبد الله أبو السعود سنة 1867، وقد أوقفتها الحكومة سنة 1872، وكان الخديوي إسماعيل قد عطل قبلها جريدة نزهة الأفكار الأسبوعية التي أصدرها إبراهيم المويلحي بعد صدور عددين فقط من أعدادها، بناء على نصيحة شاهين باشا ناظر الجهادية، وكانت المصادرة مصيرا لعدد من الصحف التي صدرت في عصر إسماعيل وتبنت خطا وطنيا معارضا.

 وفي عام 1881، أثناء الثورة العرابية، صدر قانون المطبوعات الذي يمنح لنظارة الداخلية حق إنذار الصحف وتعطيلها مؤقتا أو نهائيا دون حكم قضائي وقد توقف بهذا القانون عام 1894، وبين عامي 1908 و1910 أصدرت حكومة بطرس باشا غالي ومن بعدها حكومة محمد باشا سعيد مجموعة من التشريعات المقيدة للحريات العامة، وقد وجهت تلك التشريعات ضربات قاسية للحريات في مجالات الصحافة والمسرح والشعر، بهدف محاصرة الحركة الوطنية المتصاعدة بعد حادثة دنشواي، فقد أدركت سلطات الاحتلال والخديوي والحكومة مدى تأثير الصحافة في التحريض السياسي ضد الاحتلال وسياسته وضد الحكومة المنفذة لتعليماته وضد المواقف الجديدة للخديوي عباس حلمي الثاني الذي تحول من مصادمة الاحتلال إلى التحالف معه، كما لمس الجميع دور الفن والأدب في شحن الوجدان الوطني، ومن هنا كان إصدار الحكومة لتشريعات رقابية تقيد حرية الإبداع، وإحياء قوانين مهجورة للمطبوعات تسمح للحكومة بحبس الصحفيين، وتعديل مواد في قانون العقوبات تحاسب الناس على نواياهم، ففي 25 مارس 1909 أعاد مجلس الوزراء العمل بقانون المطبوعات الصادر سنة 1881، وكانت حجة الحكومة في عودة العمل بهذا القانون بعد توقف طويل، رغبة أبدتها الجمعية العمومية سنة 1902، وأخرى أبدها مجلس شورى القوانين سنة 1904، بوضع حد للقدح في الأعراض الذي ينشر في بعض الصحف.

 ولم تمض أسابيع قليلة على إعادة قانون المطبوعات إلى الحياة إلا وكانت الحكومة قد بدأت في ملاحقة الصحف والصحفيين بالمحاكمة والحبس والتعطيل والإغلاق، وكان النصيب الأكبر بالطبع لصحف الحزب الوطني وصحفيها، وفي يوليو من نفس العام صدر قانون النفي الإداري الذي كان يعطي السلطة الإدارية حق نفي من تره خطرا على الأمن العام إلى جهات نائية بالقطر المصري.

 وعندما تشكلت وزارة محمد باشا سعيد في فبراير 1910 عقب جريمة اغتيال بطرس باشا غالي، واصلت إصدار التشريعات المعادية للحريات، فأصدرت في يوم  16 يونيو من نفس العام قانونا يقضي بإحالة قضايا الصحافة إلى محاكم الجنايات بعد أن كانت من اختصاص محاكم الجنح، لأن الحكومة رأت أن محاكم الجنح تتهاون مع الصحفيين في أحكامها، كما أن التعديل كان يسلب الصحفي حقه في درجة من درجات التقاضي، مما يسهل مهمة الحكومة في ملاحقة الصحافة الوطنية.

 كما أصدرت في نفس اليوم قانونا آخر بتعديل قانون العقوبات يقضي بمعاقبة المتهمين بالاتفاق الجنائي حتى ولو لم يتوافر فيه ركن الاشتراك في ارتكاب الجريمة، أي أنها شرعت محاكمة الناس على نواياهم وضمائرهم، الأمر الذي وصفه عبد الخالق باشا ثروت في إحدى مرافعاته قائلا: "كان شديدا علينا يوم أن جر على البلاد ما فعله السفهاء من ضرورة سن قانون الاتفاقات الجنائية، ذلك القانون الاستثنائي الذي في وجوده سبة على أمن الديار، وحجة دائمة على أننا دائما تحت خطر الاضطراب والهياج"، كما فرضت التعديلات قيودا على حرية الصحف في نشر المرافعات في القضايا الجنائية، وأقرت للمرة الأولى المسئولية الجنائية على مديري الصحف بالنسبة لما ينشر فيها، حتى لو لم تتوافر أركان الاتفاق الجنائي في وقائع النشر، وأضاف التعديل عقوبة جديدة لجريمة من أغرب الجرائم أسماها التهديد بالكتابة أو بالقول ولو لم يكن مقرونا بطلب، ويرى المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي أن الغرض الحقيقي من وراء هذا التعديل الأخير كان معاقبة الشبان الوطنيين الذين كانوا يطوفون على أعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، لدعوتهم لمناصرة الأمة في مطالبها. وأكملت الحكومة تقييدها للحريات بوضع لائحة للمسارح تجرم تمثيل الروايات التي تدعو للحرية والاستقلال.

 إذا كان هذا الحال مفهوما في ظل السلطة المطلقة للاحتلال البريطاني فهل تغير الأمر بعد ثورة 1919 وصدور دستور 1923، لانتهاك الحريات بقية.

من الاحتلال إلى الثورة... مصر تحكمها القوانين الاستثنائية ( 2 )

 لم تنته حكاية مصر مع القوانين الاستثنائية بصدور تصريح 28 فبراير 1922 وإعلان استقلال مصر، وتحول مصر إلى ملكية دستورية، ففي أعقاب صدور دستور 1923 بدأت الحكومات التي أدارت البلاد قبل إجراء أول انتخابات نيابية على أساس الدستور الجديد في إصدار تشريعات تحاصر الحريات التي نص عليها الدستور، فصدر قانون الاجتماعات في 30 مايو 1923 ليقيد حق الاجتماع والتظاهر، كما صدر قانون الأحكام العرفية في 26 يونيو 1923 ليضع في يد الحكومة سلطات لا حدود لها في حالة إعلان الأحكام العرفية التي تغير اسمها سنة 1958 لتصبح حالة الطوارئ، وقد وضعته الحكومة قبل انتخاب البرلمان بشهور قليلة حتى تتجنب رفضه من البرلمان المنتخب.

 وعندما وقع الانقلاب الدستوري الأول سنة 1925 أصدرت وزارة زيور باشا مرسوما بقانون في يوليو 1925 بتعديل قانون العقوبات في المواد الخاصة بجنح الصحافة والنشر بقصد تشديد العقوبات وإفساح المجال لإغلاق الصحف، ووسع دائرة الاتهام فيما ينشر بالصحف بالنص على عقاب كل من "يعمل على تضليل الرأي العام في أعمال السلطات العامة أو بأي طريقة أخرى"، ليدخل على النظام القانوني المصري نصوصا غامضة فضفاضة لا تعرف الجرائم تعريفا جامعا مانعا.

 وفي أكتوبر من نفس العام استصدرت حكومة زيور باشا مرسوما بقانون الجمعيات والهيئات السياسية جعلت به الجمعيات والأحزاب واقعة تحت رحمة الحكومة، كما عدلت الحكومة قبل نهاية عام 1925 قانون الانتخابات فضيقت فيه حق الانتخاب.

 وفي عهد حكومة محمد باشا محمود التي عرفت بحكومة القبضة الحديدية 1928/ 1929، تم تعديل لائحة المحاماة بسبب تبرئة نقابة المحامين لمصطفى النحاس وويصا واصف وجعفر فخري من تهم الفساد، وكان هذا التعديل نموذجا لشخصنة القوانين، ثم أصدرت الحكومة مرسوما بقانون في مارس 1929بفرض عقوبة الحبس والغرامة أو كليهما على كل من حرض على كراهية نظام الحكم أو الازدراء به، وهذا أيضا تعبير مطاط غير واضح يجرم إبداء الرأي ما زالت تأثيراته قائمة إلى الآن، كما أصدرت مرسوما آخر بتشديد العقوبات في مخالفة قانون الاجتماعات للتضييق على حق المواطنين في الاجتماع والتظاهر.

 جاءت الموجة التالية من موجات العدوان على الشرعية القانونية في العصر الليبرالي في ظل حكومات إسماعيل صدقي، ففي الانقلاب الدستوري سنة 1930 تعرضت الحريات الديمقراطية كلها لمحنة شديدة، وفي فبراير 1931 عدلت الحكومة قانون العقوبات لتستحدث نصوصا تعاقب على التعبير عن الرأي من خلال الصحافة، ومن تلك النصوص التي ما زالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، عقاب من ينشر أخبارا بشأن تحقيق جنائي قائم، ومن ينشر أمورا من شأنها التأثير في القضاة أو رجال النيابة أو غيرهم  من الموظفين المكلفين بالتحقيق، أو التأثير في الرأي العام!

 وبعدها بأشهر قليلة عدلت قانون العقوبات مرة أخرى لتشدد العقوبات على "جرائم" النشر التي تقع عن الطريق الصحف وغيرها من طرق النشر، واستحدثت مصطلحات تحكمنا إلى يومنا هذا مثل "الإضرار بالمصلحة العامة" و"الإخلال بالنظام العام" و"التحريض على قلب نظام الحكومة" و"التحريض على كراهية النظام أو الازدراء به"، كما وضعت الحكومة قانونا جديدا للمطبوعات تضمن شروطا تعجيزيه لإصدار الصحف.

 وفي حكومة إسماعيل صدقي الثانية سنة 1946 عدل قانون العقوبات وأضاف المادة 98 أ بالمرسوم بقانون 117 لسنة 1946 من وراء ظهر السلطة التشريعية وفي غيابها، ليجرم قيام الأحزاب على أساس طبقي مستعيرا هذه المادة من تشريعات موسوليني الفاشية بعد سقوط موسوليني وإعدامه.

 وفي أعقاب انقلاب يوليو استفاد النظام من التشريعات التي سنها بطرس غالي ومحمد سعيد وزيور ومحمد محمود وإسماعيل صدقي وغيرهم من منتهكي حريات المصريين وأضاف إليها حتى أصبحت مصر تمتلك ترسانة من أكبر ترسانات التشريعات الاستثنائية سيئة السمعة، وفي ظل نظام يوليو تراجعت الحريات العامة ولجأ النظام الجديد إلى التوسع في استخدام التشريعات الاستثنائية وإنشاء المحاكم الاستثنائية، التي عرفتها مصر مع الاحتلال البريطاني، لكن هذه المرة تحت مسميات خادعة مثل: محاكم الشعب ومحاكم الثورة ومحاكم الغدر، وهي المحاكم التي لم تلتزم في عملها بقانون الإجراءات الجنائية، كما لم يلتزم بعضها بقانون العقوبات، وقد استندت تلك المحاكم بما أطلق عليه "الشرعية الثورية"، وكذلك إلى استمرار حالة الطوارئ معلنة لفترات طويلة دون توقف أو انقطاع، وقد كانت هذه المحاكم والإجراءات الاستثنائية سلاحا موجها ضد معارضي النظام كما كانت أيضا سلاحا ضد المنشقين على النظام من داخله، كما توسع النظام بعد يوليو 1952 في إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية، ومحاكمتهم أمام قضاة غير قضاتهم الطبيعيين.

 وقد شهد عصر السادات في أعقاب ما أسماه "ثورة التصحيح" انفراجه ديمقراطية اتسعت بعد حرب أكتوبر 1973، فتم تعديل قانون الطوارئ وقانون الإجراءات الجنائية بما يحقق مزيد من الضمانات للمعتقلين والمحبوسين احتياطيا، وهي تعديلات ألغيت عقب اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981، لكن النظام كان يعطي بيد ويأخذ ما يعطيه تشريعيا باليد الأخرى، خاصة مع استمرار حالة الطوارئ حتى مايو 1980.

 ففي عهد السادات صدرت تشريعات استثنائية معيبة مثل قانون حماية أمن الوطن والمواطن وقانون حماية الوحدة الوطنية وقانون الاشتباه وقانون حماية القيم من العيب وقانون المدعي العام الاشتراكي، وكلها قوانين قيدت الحريات العامة للمواطنين وأسست لتغول السلطة التنفيذية، وإذا كانت غالبية هذه القوانين قد ألغيت أو عدلت في بداية عصر مبارك، إلا أن عصره شهد في المقابل تعديلات تشريعية أدت إلى أوضاع أكثر سواء للحريات، خاصة التعديلات على قانون الطوارئ فقد أدت تلك التعديلات إلى إهدار كل الضمانات التي نصت عليها التعديلات التي أدخلت في عصر السادات.

 ولم يتغير الحال كثيرا بعد ثورة 25 يناير للأسف...

 ومن الجدير بالذكر أن إصدار مثل هذه القوانين كان دائما يأتي بحجة حماية الوحدة الوطنية، ومواجهة الفتنة الطائفية، أو مقاومة الإرهاب، أو التصدي للبلطجة، لكن اللافت للنظر أن أيا من هذه القوانين أو استمرار حالة الطوارئ لم تحم مصر من الإرهاب أو الاعتداءات الطائفية أو البلطجة، بل تفاقمت كل هذه الظواهر في ظلها، وكانت مثل تلك القوانين وسيلة فقط لحماية النظام الاستبدادي.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...