السبت، 30 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 11 )
أعيد نشر الجزء الثاني من مقالي عن دستور 23 الذي نشرته في 19 أبريل الجاري

الأمة مصدر السلطات

عماد أبو غازي

 "إن الدستور في روحه وفي مجموع نصوصه هو النظام الذي يكفل للشعب حكم نفسه بنفسه بإرادته واختياره، ويكفل لأفراده تمتعهم بحقوقهم الشخصيةوالسياسية، فالدستور هو المرادف للديمقراطية، والحكم المطلق هو قيام حكومات تفرض على الشعب فرضا، وتلجأ لكي تبقى على غير إرادته، إلى إهدار حقوقه وكبت حريته."
عبد الرحمن الرافعي

 في العاشرة والنصف من مساء يوم 19 أبريل سنة 1923 في سراي عابدين وقع الملك أحمد فؤاد الأول الدستور المصري المعروف بدستور 23، وتلاه في التوقيع جميع أعضاء مجلس الوزراء، وبذلك صار لمصر دستورًا مكتملًا بعد مائة وثماني وعشرين عامًا من بدء الخطوة الأولى لنضال الشعب المصري من أجل حقه في إدارة أموره بنفسه.


 لقد نجحت المعارضة لمحاولات حكومات توفيق نسيم ويحيى إبراهيم في غل أيديهما عن تشويه الدستور، فخرج في أقرب صورة لما صاغته اللجنة التي رأسها حسين باشا رشدي، ورغم اعتراض الوفد المصري والحزب الوطني، الحزبان الرئيسيان القائمان وقتها، على لجنة صياغة الدستور ووصفهما لها بلجنة الأشقياء، إلا أن الدستور الذي صدر في 170 مادة كان من خير الدساتير؛ "فقد أُسس في مجموعه على أحدث المبادئ الدستورية، فوضع نظاما دستوريا للحكم، وقرر في ذات الوقت حقوق المصريين وكفلها لهم"، كما وصفه عبد الرحمن الرافعي عضو الحزب الوطني وأحد المعارضين للجنة الدستور، أما الوفد المصري قد تحول إلى مدافع دائم عن هذا الدستور حتى إلغائه عقب إنقلاب يوليو 1952.
 رغم أن الملك هو الذي أصدر الدستور، ورغم أن من صاغ الدستور لجنة معينة وليست جمعية تأسيسية منتخبة، فإن دستور 23 أقر بشكل واضح لا يحتمل اللبس أن الأمة مصدر السلطات، حيث نصت المادة الثالثة والعشرين من الدستور على أن "جميع السلطات مصدرها الأمة"، ويعبر هذا النص عن انتصار الإرادة الشعبية خاصة وقد نصت المادة الخامسة والعشرين على أنه: "لا يصدر قانون إلا إذا قرره البرلمان وصدق عليه الملك"، وقد جعل الدستور للبرلمان حق إصدار القوانين التي يرفض الملك التصديق عليها بأغلبية الثلثين، فإذا لم تتحقق صدر بالأغلبية المطلقة في دور الانعقاد التالي.
 وقد نصت المادة الأولى من الدستور على أن "مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة، ملكها لا يجزأ ولا ينزل على شيء منه وحكومته ملكية وراثية وشكلها نيابي."
 ونص الدستور على اختصاص المصريين وحدهم بتولي الوظائف العامة المدنية والعسكرية، كما أكد على أن لا يلي الوزارة إلا مصري، وعلى عدم جواز تولي أفراد الأسرة المالكة مناصب وزارية، وعدم جواز انتخابهم بالبرلمان.
  وحدد الدستور مخصصات الملك بمبلغ 150 ألف جنيه مصري، ومخصصات البيت المالك بمبلغ 111512 جنيه مصري، وجعل للبرلمان سلطة زيادتها.
 ونص الدستور في الفصل الخاص بالسلطة القضائية على أن "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون وليس لأية سلطة في الحكومة التدخل في القضايا".
 وفي الباب السادس من أبواب الدستور السبعة والذي يحمل عنوان أحكام عامة، نصت المادة 149 على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية". وقد أثارت هذه المادة جدلًا واسعًا داخل لجنة الدستور حيث رفضها بعض الأعضاء إنطلاقًا من أن الدول لا تدين بدين محدد لكن أغلبية أفراد الشعب هم الذين يدينون بالإسلام، لكن اللجنة انتهت إلى هذه الصياغة، التي انتقلت إلى كل الدساتير المصرية، وتطورت فيما بعد إلى المادة الثانية في دستور 1971، وأضيف عليها ما أضيف من وضع دستوري للمؤسسات الدينية في دستوري 2012 و2014، وما زالت هذه المادة ووريثتها سببًا لبعض من مشاكلنا المعاشة.
 بينما تضمن الباب الثاني المكون من 21 مادة حقوق المصريين وواجباتهم، فأقر لأول مرة في تاريخ الدساتير المصريةالمساواة وعدم التمييز بين المصريين بسبب الأصل أو اللغة أو الدين، ونص الدستور أيضا على أن التعليم الأولي إلزامي ومجاني للبنين والبنات. كما نص بشكل قاطع على أن "الحرية الشخصية مكفولة" (المادة 4)، وعلى إلغاء النفي كعقوبة؛ حيث "لا يجوز إبعاد مصري عن الديار المصرية" (المادة 7)، وعلى أن "حرية الاعتقاد مطلقة" (المادة 12)، كما نصت المادة 13 على أن الدولة تحمي حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في الديار المصرية على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب، ونصت المادة 16 على أنه "لا يسوغ تقييد حرية أحد في استعمالة أية لغة أراد في المعاملات الخاصة أو التجارية، أو في الأمور الدينية، أو في الصحف والمطبوعات أيا كان نوعها، أو في الاجتماعات العامة."
 ومن الحقوق التي قررها الدستور حق الاجتماع وتكوين الجمعيات، وحرية الصحافة وحظر الرقابة على الصحف، وحرية الرأي والتعبير؛ على أن أهم ما يؤخذ على هذا الباب أنه علق بعض الحريات على نصوص القوانين، الأمر الذي صار تقليدًا في كل الدساتير التالية، وقد عجلت الحكومة بعد صدور الدستور وقبل انتخاب البرلمان بإصدار قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات وقانون الأحكام العرفية لتقييد الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور.
 وكما قال عبد الرحمن الرافعي في عام 1947 بعد ربع قرن على التجربة الدستورية المصرية الجديدة: "إن الحياة الدستورية في حاجة إلى جهاد المؤمنين بحقوق هذا الشعب وتعاونهم، لكي تستقر وتتغلب على العقبات التي تعترضها، ومن الواجب على الذين ينظرون بعين الرعاية والاعتبار إلى مصالح الوطن العليا، أن لا يترددوا في بذل ما يستطيعون من جهود للدفاع عن الحقوق العامة التي تتميز بها الشعوب الحرة عن الشعوب المستعبدة، فعلينا جميعا أن نؤدي هذا الواجب، إذا أردنا لهذا الشعب أن يأخذ مكانه بين الأمم الحرة المستقلة، ويساير ركب الحضارة والديمقراطية".

عبد الرحمن الرافعي

 لقد شهدت السنوات الثلاثين بين صدور دستور 23 وإلغائه سلسلة من الانقلابات الدستورية ومحاولات السرايا والسلطات البريطانية الالتفاف على الدستور ووقف العمل به بل وإسقاطه تمامًا، إنها سنوات النضال بين الحكم المطلق والشرعية الدستورية؛ وهذه حكاية أخرى من حكايات نضال المصريين من أجل حقوقهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...