الأربعاء، 16 يوليو 2014



بعد الهزيمة


عماد أبو غازي

 في التل الكبير "الولس هزم عرابي"، وربما كان في العبارة تورية ذكية، الولس بالعامية المصرية الخيانة، والولس هو ولسلي القائد البريطاني، كان الهجوم في التل الكبير مفاجأ وكانت الخيانة كبيرة والاستعدادات المصرية أقل من مستوى الحدث، مع ذلك كانت هناك جيوب للمقاومة، فرغم أن الجيش المصري تشتت، البعض فروا هاربين من رصاص الإنجليز ونيران مدافعهم، والبعض هرولوا منسحبين بلا نظام، والبعض فترت همتهم للقتال وأصبحوا متخاذلين بسبب فرمان "خليفة المسلمين" وسلطان الدولة العثمانية عبد الحميد الثاني بعصيان عرابي، والبعض باعوا أنفسهم للخديوي والإنجليز، رغم هذا كله فقد صمدت قلة قليلة من المقاتلين في وجه موجات الجيش البريطاني، نجح جنود خط الاستحكامات الأول للجيش المصري في قتل وجرح 200 ضابط وجندي بريطاني في المواجهة الأولى، كما صمد الأميرالاي محمد عبيد على رأس آلايين من الجنود السودانيين، استشهد أغلبهم، كما استشهد قائدهم محمد عبيد، ومن الضباط الذين صمدوا بفرقهم في القتال كذلك أحمد بك فرج وعبد القادر بك عبد الصمد، واليوزباشي حسن أفندي رضوان قائد المدفعية الذي نجح في إعادة تنظيم صفوف فرقته وظلت مواقعه تقصف الإنجليز حتى نهاية المعركة التي أصيب فيها.


محمد عبيد
 
 عندما أدرك عرابي أن الهزيمة وقعت اتجه إلى القاهرة، وكان أعضاء المجلس العرفي الذي يدير البلاد مجتمعين في قصر النيل، ويعقوب باشا سامي يحجب الأخبار التي ترد بالتلغرافات عن المجلس، إلى أن أبلغهم بعودة عرابي فتيقنوا أن الهزيمة وقعت، اجتمع عرابي بالمجلس في حضور عدد كبير من الأمراء والكبراء ليتشاوروا في القرار المصيري، الاستمرار في المقاومة أم الاستلام، اختلفت الآراء وكان ميل الغالبية إلى الاستسلام، إلى أن قام الأمير إبراهيم باشا أحمد ابن عم الخديوي ووقف متحدثًا في المجتمعين داعيًا إلى الصمود والمقاومة، مؤكدًا أن القاهرة مليئة بالمقاتلين، والذخائر والمؤن متوفرة، وإن الواجب يقتضي المقاومة والدفاع عن الوطن حتى النهاية، فتحولت الدفة في هذا الاتجاه، وانتهى الاجتماع إلى قرار بإنشاء خط دفاعي شمال شرق القاهرة، وتوجه عرابي بالفعل مع بعض معاونيه إلى العباسية للإشراف على التحصينات، لكنه عاد إلى المجلس ليبلغه بأن القوة المتبقية لا تكفي للتصدي للإنجليز، فاتخذ المجلس قرارًا بالتسليم وإرسال عريضة استرحام إلى الخديوي في الإسكندرية، وقبل أن تصل العريضة إلى الخديوي أتبعها العرابيون بعريضة ثانية حملها عبد الله النديم، وقبل أن يصل النديم إلى الإسكندرية علم بأن الخديوي رفض عريضة الاسترحام، وقبض على حامليها فاختفى وظل هاربًا لتسع سنوات.
  أما محمود سامي البارودي فكان يرى ضرورة الانسحاب إلى الصعيد وتنظيم المقاومة من هناك، ولمصر تجربتان سابقتان في تاريخها الحديث للمقاومة من الصعيد، تجربة طومان باي في مقاومة العثمانيين والتي استمرت ثلاثة أشهر، وتجربة مراد بك مع الفرنسيين التي استمرت لعامين، لكن مشروع البارودي للمقاومة من الصعيد لم يلق قبولًا.
 وعلى المستوى الشعبي خرج فتوات الحسينية وباب الشعرية بعصيهم لمحاربة الإنجليز، لكن محافظ العاصمة إبراهيم بك فوزي منعهم من ذلك حيث رأى أن ما يقومون به مغامرة لن تجد نفعًا.
 
قوات الاحتلال تدخل القاهرة في 14 سبتمبر 1882
  وفي دمياط صمد عبد العال باشا حلمي بحاميته في مواجهة الإنجليز لمدة أسبوع وهو يحشد الأهالي إلى جانب الجيش، واستمر في موقفه هذا إلى أن صدر قرار بالقبض عليه وإعدامه رميًا بالرصاص، وكان قد أيقن أن الهزيمة حاقت بمصر كلها، وأن القادة العسكريين وعلى رأسهم عرابي قد سلموا أنفسهم للإنجليز، وإن باقي الزعماء قد قبض عليهم، فاستسلم للإنجليز هو الآخر.
 
 

 وفي رأي بيو فيس مؤلف كتاب "الفرنسيون والإنجليز في مصر" أن احتلال الإنجليز للقاهرة كان من الممكن أن يكون مغامرة خطيرة، فيقول:

 "لم يكن الجنرال دروري لو القائد الإنجليزي يسير في زحفه في طريق آمنة إذ لم يكن معه سوى عدة مئات من الجند، وكان أمامه مدينة آهلة بالسكان تدافع عنها حامية قوية كبيرة العدد ترابط في العباسية والقلعة وفي المعاقل التي بنيت أخيرًا فوق جبل المقطم، وأمامه ذكريات الثورات الهائلة التي سببت المتاعب والخسائر الكبيرة لنابليون وكليبر خلال الحملة الفرنسية، لكن جبن الرؤساء العرابيين أخرجه من المأزق."

 الخديوي يدخل القاهرة في حماية قوات الاحتلال
 إذن هزمت الثورة واحتلت مصر، وبدأت محاكمة قادة الحركة الوطنية ومناصريهم، وصدرت الأحكام بالنفي ومصادرة الأملاك والتجريد من الممتلكات على عرابي وزملائه القادة السبعة العسكريين للثورة العرابية. وكان الإنجليز قد أرغموا توفيق على تخفيف عقوبات الإعدام إلى النفي مدى الحياة، ولم يطبق حكم الإعدام سوى على اثنين من الضباط: سليمان سامي داوود الذي أحرق الإسكندرية، ويوسف أبو دية الذي اتهم ظلما بأنه كان وراء الاعتداء على الأجانب في طنطا.


عرابي في طريقة للمحكمة 
وصدرت أحكام أخرى بفصل أكثر من 250 ضابطًا من الجيش المصري، وعزل عدد من كبار الموظفين، أما الأعيان فنفي البعض وحددت إقامة البعض الآخر، وتظهر في أسماء المحددة إقامتهم أشخاصًا من عائلات كبيرة مثل عائلة أباظة والفقي ولملوم والشريعي والوكيل.
 
 
محاكمة العرابيين
 
وفي المقابل تمت مكافأة الخونة وعلى رأسهم سلطان باشا، بالأوسمة والتعويضات المالية والمناصب.

 وهكذا انتهت حلقة من حلقات نضال الشعب المصري من أجل الاستقلال والدستور، لتبدأ عقب الاحتلال مباشرة أشكال جديدة من المقاومة تأخذ شكل الجماعات السرية، كان في مقدمتها جماعة الانتقام التي اعتقل أعضائها بعد الاحتلال، وكان من بينهم الشاب سعد زغلول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...