الجمعة، 11 يوليو 2014



11 يوليو 1882 ...


عماد أبو غازي

 11 يوليو عنوان كتاب صغير مهم للأمير عمر طوسون أحد الذين عرفوا بمواقفهم الوطنية من أفراد أسرة محمد علي، يؤرخ لذلك اليوم الكئيب في التاريخ المصري الحديث، كان يوم 11 يوليو 1882 من الأيام الفاصلة في التاريخ المصري، فيه بدأت أولى خطوات الاحتلال البريطاني لمصر الذي استمر خمسة وسبعين عامًا.
 


 

 في ذلك اليوم بدأت سفن الأسطول البريطاني تقصف مدينة الإسكندرية تمهيدًا للإنزال البري لاحتلال مصر، استمر الضرب من السابعة صباحًا حتى السادسة مساء تخللته فترات توقف قليلة.
 
 وأترك الحديث لشهود العيان لنستمع معا إلى أصواتهم القادمة من الماضي.

 قال الزعيم أحمد عرابي في مذكراته التي كتبها بعد عودته من المنفى "كشف الستار عن سر الأسرار":
 "نار المدافع صُبت على القلاع والحصون والترسانة وسراي رأس التين، وبالجملة على جميع أرجاء المدينة صباح الثلاثاء 11 يوليه سنة 1882، ولم تجاوبها مدافع القلاع إلا بعد إطلاق مدافع الأسطول نحو عشرين طلقة، ثم استحر القتال بين الأساطيل الإنجليزية وقلاع الإسكندرية بعد ذلك إلى منتصف النهار، ثم أخذت نيران الاستحكامات في التناقض حتى تم تدميرها قبيل الغروب".
 
 
 أما جون نينيه عميد الجالية السويسرية في مصر وقت الأحداث، المتعاطف مع الوطنيين المصريين، فيصف في كتابه "عرابي باشا" مقاومة مدافع الجيش المصري المتمركزة في الطوابي والقلاع والحصون لعملية ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية، فيقول:
 "أجابت بطاريات الحصون على ضرب الأسطول بعد الطلقة الخامسة، وكان رماة المدافع يطلقون قنابلها بحماسة وإحكام أدهشا خصومهم الذين استمر عملهم الجهنمي عشر ساعات ونصف متوالية دون أن يستطيعوا المباهاة بنصر حاسم".
 ويقول في موضع آخر:
 "وكانت بوارج الأسطول تمرح في رميها ومدافعها تطلق قنابلها على مرمى بعيد وتصيب بطاريات الشواطئ ولا تُستهدف للخطر، وكل قنبلة منها يبلغ طولها مترًا و30 سنتي وزنتها 480 رطلًا وحشوها 370 رطلًا من البارود، وثمن الواحدة سبعون جنيهًا، وقد سقطت أولى هذه القنابل الهائلة في طابية رأس التين دون أن تنفجر، فاستوقف مشهدها نظر الجند والضباط، وقال ملازم ثان وهو يشاهدها: أيها الإخوان تعالوا وانظروا مثلًا من "إنسانية الإنجليز!" قالها بلهجة تشف عن الذكاء الساخر، فضحك السامعون جميعًا وواجهوا الضرب وهم باسمون".
 

 
 ويصف نينيه حماسة المصريين في الدفاع عن وطنهم فيقول:
 "فما كان أبدع هذا المنظر، منظر الرماة المصريين الذين كانوا قائمين على مدافعهم وهي مكشوفة في العراء وكأنما هم في استعراض حربي لا يرهبون الموت الذي يكتنفهم إذ لم يكن لهم دروع واقية ولا متاريس وكانت معظم الحصون بلا ساتر، ومع ذلك فهؤلاء الشجعان من أبناء النيل كنا نلمحهم وسط الدخان الكثيف كأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا في حومة الوغى ثم بعثوا ليكافحوا العدو من جديد ويستهدفوا لنيران مدافعه، وكان الأئمة يزورون الحصون ويشجعون المقاومة، وقام الجميع بواجبهم من جند ورجال ونساء وصغار وكبار، ولم يكن ثمة أوسمة ولا مكافأت تستحث أولئك الفلاحين على أداء واجبهم، بل إن عاطفة الوطنية والثورة على الفظائع التي استهدفوا لها كانت تستثير الحماسة في صدورهم وهم أولئك الشجعان المجهولون الذين لم يفكر أحد في آلامهم".
 
 
 ويؤكد شهود العيان الذين عاصروا الأحداث وشاركوا فيه مشاركة طوائف الشعب رجالا ونساء في الدفاع عن المدينة، فقال الشيخ محمد عبده في مذكراته:
 "كان الرجال والنساء تحت مطر الكلل ونيران المدافع ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى بعض بقايا الطوبجية الذين كانوا يضربونها، وكانوا يغنون بلعن الأميرال سيمور ومن أرسله".
 وقال عرابي:
 "وفي أثناء القتال تطوع كثير من الرجال والنساء في خدمة المجاهدين ومساعدتهم في تقديم الذخائر الحربية وإعطائهم الماء وحمل الجرحى وتضميد جروحهم ونقلهم إلى المستشفيات".
 


  وقال محمود باشا فهمي في كتاب البحر الزاخر:
 "ورأيت في ذلك الوقت بعيني ما حصل من غيرة الأهالي بجهة رأس التين وأم كبية وطوابي باب العرب وهمتهم في مساعدة عساكر الطوبجية من جلبهم المهمات والذخائر وخراطيش البارود والمقذوفات هم وسائر نساؤهم وأولادهم وبناتهم والبعض من الأهالي صار يعمر المدافع ويضربها على الأسطول".
 
 
  لكن الحماسة والشعور الوطني وحدهما لا يكفيان لتحقيق النصر، فتوازن القوى العسكري، والقدرة على التخطيط والقيادة غير متكافئة، ولنستمع إلى عرابي الذي قال في مذكراته:
 "إن مقذوفات المدافع القديمة كانت لاتصل إلى السفن الإنجليزية، ومدافع أرمسترنج لم يكن لها من المساطر التي تضبط المسافات وتحكم الإصابة إلا بواسطتها إلا مسطرة واحدة، كانت في ميدان الرماية والتعليم بالعباسية".
 يا سلام على روعة التخطيط!
 يستطرد عرابي في حديثه عن المسطرة اليتيمة اللي حيلتنا فيقول:
 "واستحضرت ليلًا وتسلمها سيف النصر بك قومندان طابية الفنار فكان يطلق المدافع بنفسه وينتقل من مكان إلى آخر ويحكم الإصابة بواسطة المسطرة المذكورة، ولو كانت مدافع أرمسترنج ذات مساطر لأمكنها تعطيل كافة الدوارع الإنجليزية بما تقذفه عليها من المقذوفات الصائبة."
 
 أما نينيه فيقول:
 "ومع أن مدافع أرمسترنج المصرية كانت أقل عيارًا من المدافع الإنجليزية فإن رماتها أدوا واجبهم على أكمل وجه بحيث أن سبع مدرعات إنجليزية أصيبت بعطوب بعضها جسيم وبعضها خفيف".
 فكانت النتيجة كما قال عرابي باشا:
 "استشهد من رجال الطوابي وحدهم مائة رجل وامرأتان من المتطوعات اللواتي كن يضمدن الجرحى، وهذا طبعا عدا خسائر الأهلين في المدينة".
 ويقدر عبد الرحمن الرافعي خسائر المصريين بألفي قتيل مقابل خمسة قتلى من الجانب البريطاني...
لكن يوم 11 يوليو 1882 لم يكن بداية الحكاية كما لم يكن نهايتها...
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...