الجمعة، 11 يوليو 2014



احتلال مصر


عماد أبو غازي
 
 

 في صيف 1882 أكتمل ما خططت له بريطانيا العظمى طوال سنوات. سنوات امتدت منذ بداية القرن التاسع عشر، حاولت بريطانيا خلالها السيطرة على مصر أكثر من مرة، لكن موازين القوى الدولية حالت بين بريطانيا وتحقيق أهدافها، لقد بدأ الاهتمام البريطاني بمصر بصورة واضحة منذ حملة بونابرت سنة 1798 التي نبهت القوى الاستعمارية الأوروبية إلى موقع مصر وأهميته في خريطة الصراعات الدولية، خاصة إنجلترا التي أدركت أهمية مصر لتأمين الطريق إلى الهند أهم المستعمرات الإنجليزية، والتي عرفت بدرة التاج البريطاني، وحاولت التصدي للحملة بالقوة العسكرية ونجحت في تدمير الأسطول الفرنسي في موقعة أبو قير البحرية، لكنها فشلت في منع بونابرت من احتلال مصر، وعند خروج الحملة الفرنسية سنة 1801 حاولت إنجلترا أن تحل محلها لكنها فشلت في ذلك، واضطرت قواتها للجلاء بعد أشهر قليلة من مصر.
 
 
 
 وبعد تولي محمد علي باشا حكم مصر بعامين، أي في سنة 1807 حاولت إنجلترا تنفيذ مخططها باحتلال مصر بالتعاون مع بعض أمراء المماليك، في الحملة المعروفة باسم حملة فريزر، لكن الشعب المصري تصدى للحملة وأعوانها المحليين في دمنهور ورشيد، وعادت الحملة مهزومة.
 
 
 
 وطوال عصر محمد علي وحروبه التوسعية، كانت إنجلترا حريصة على تحجيم قوة محمد علي وعدم السماح له بإقامة دولة قوية في المنطقة، وقد نجحت في قيادة تحالف أوروبي عثماني قص ريش محمد علي سنة 1840، وكان بالمرستون وزير خارجية إنجلترا المخطط الأساسي لوضع محمد علي في الحجم الذي تريده الدول الأوروبية الكبرى.
 

 

 ثم كان حفر قناة السويس سببًا إضافيًا للاهتمام البريطاني بمصر، فسعت بكل الطرق للتدخل في شئون مصر وسياستها الداخلية بالتعاون مع غريمتها ومنافستها في التوسع الاستعماري فرنسا.
 
 

 أخذت بريطانيا العظمى تخطط بهدوء لمشروعها لاحتلال مصر، طوال الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر كانت بريطانيا تحكم الخناق على مصر تدريجيًا، وكان إغراق مصر في الديون الوسيلة الأساسية لتحقيق هذا المخطط، خاصة في عصر الخديوي إسماعيل، مستغلة في ذلك طموحه السياسي للاستقلال عن الدولة العثمانية، وحلمه بأن يجعل مصر "قطعة من أوروبا"، وعندما أدرك إسماعيل متأخرًا خطورة الموقف واتجه إلى الالتقاء بالحركة الوطنية المصرية المطالبة بالإصلاح السياسي والدستور ووقف التدخل الأجنبي في شئون مصر، خططت بريطانيا مع حلفائها الأوروبيين لعزله ونفيه من البلاد وتعيين ابنه محمد توفيق خديوي على مصر في سنة 1879، كان استصدار فرمان من السلطان العثماني العاجز، "رجل أوروبا المريض"، كما كانوا يسمونه أمرًا سهلًا ميسورًا، أما الخديوي توفيق فقد كان ممتنًا لبريطانيا وفرنسا اللتان صعدتا به إلى عرش مصر، وبالتالي كان مطيعًا لهما منفذًا لأوامرهما على حساب مصر ومصالحها ومصالح شعبها، اصطدم توفيق بالحركة الوطنية فانفجرت الثورة العرابية في عام 1881، وشعرت بريطانيا بأن مصر ستضيع منها فأخذت تسرع الخطى نحو تحقيق مشروعها الاستعماري في مصر.
 وفي الوقت الذي كانت بريطانيا تعد العدة فيه لاحتلال مصر كانت تصريحات ساستها تسعى إلى تضليل العالم حول حقيقة أهدافها، ففي 21 سبتمبر 1881 وبعد أيام قليلة من مظاهرة عابدين التاريخية التي قاد فيها عرابي الجيش والشعب لعرض مطالب الأمة على الخديوي، يصرح السير إدوارد ماليت القنصل الإنجليزي في مصر قائلًا:
 "إن حكومة جلالة الملكة لا ترمي إلى احتلال مصر أو ضمها ولا تبغي بعملها إلا صيانة سيادة السلطان وتوطيد سلطة الخديوي".
 
 
إدوار ماليت 
 
 وفي 4 أكتوبر من نفس العام  يقول اللورد جرانفيل في تصريح للسفير التركي في لندن:
 "ليس لنا أي غرض في العمل على احتلال مصر أو ضمها إلينا وكل ما نبغيه إنما هو بقاء القديم على قدمه مع صيانة حقوق السلطان".
 
 
جرانفيل

 لكن الأمور تسير في اتجاه معاكس وقبل أقل من عام وعلى وجه التحديد في 11 يوليو 1882 تضرب السفن البريطانية بقيادة الأميرال سيمور الإسكندرية بسبب خناقة وقعت بين حمّار مصري ورجل مالطي، ويصرح جرانفيل كاذبًا مرة أخرى عشية العدوان قائلا:
 "يقتصر عمل الأميرال سيمور في المستقبل بإزاء مصر على دفاع الأسطول الشرعي دون أن يكون ثمة غرض خفي للحكومة البريطانية".

 لكن هناك بالطبع غرض هو احتلال مصر، رغم تصريحات جلادستون رئيس الوزراء البريطاني في 24 يوليو 1882 والتي قال فيها:
 "ليس لإنجلترا مطمع في مصر وهي لا تبغي بإرسال جنودها إليها إلا إعادة النظام وتوطيد سلطة الخديوي المفقودة، وقد صحت عزيمتها على أن تترك لأوروبا وضع الحل النهائي للمسألة المصرية".
 
جلادستون
 
 وهي الأقوال التي كررها الأميرال سيمور بعدها بيومين في خطاب إلى الخديوي الذي باع مصر من أجل الحفاظ على سلطاته الاستبدادية، فلم تكن الثورة العرابية تسعى إلى خلعه ـ وربما كان هذا أحد أخطائها ـ بل إلى إقرار الحقوق الدستورية للأمة، قال سيمور للخديوي:
 "أظن أن الوقت ملائم لأن أؤكد لسموكم من جديد بصفتي أميرال الأسطول الإنجليزي أن حكومة بريطانيا العظمى ليس لها غرض مطلقًا في فتح مصر أو التعرض لدين المصريين وحريتهم بحال ما بل أن غايتها الوحيدة هي حماية شخصكم وحماية الشعب المصري من الثائرين".
 
توفيق على ظهر سفينة القيادة يرحب بالمحتلين

 يا سلام! طيب حماية شخص الخديوي مفهومة، لكن حماية الشعب المصري من الثائرين! يعني حماية الشعب من نفسه! عمومًا هذه دومًا لغة المستعمر.

 وتستمر الأكاذيب الإنجليزية فيقول جلادستون رئيس الوزراء البريطاني في 9 أغسطس بعد نزول القوات البريطانية إلى الأراضي المصرية واحتلالها الإسكندرية:
 "أعلن بأعلى صوتي إلى العالم المتمدين أن ليس لإنجلترا في مصر منافع خاصة وإنما هي منافع للعالم أجمع، إننا لم نذهب إلى مصر إلا لننقذ شعبها من الظلم والاستبداد العسكري".

 كانت هذه تصريحات قادة السياسة البريطانية لكن واقع الحال كان مختلفا.
 وللقصة بقية.

هناك تعليقان (2):

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...