الاثنين، 14 يوليو 2014


 

من كفر الدوار إلى التل الكبير


عماد أبو غازي

 بعد الهزائم المتوالية التي تلقاها الجيش البريطاني على الجبهة الشمالية الغربية بين الإسكندرية وكفر الدوار، بدأ القائد البريطاني الجديد ولسلي يخطط للانقضاض على مصر من جهة الشرق، عبر قناة السويس، وكانت بريطانيا قد مهدت للهجوم من جبهة الشرق عندما تحججت بترميمات طابية الجميل بالقرب من بور سعيد لتقتحم إحدى سفن أسطولها القناة من جهة الشمال وتخترقها حتى بحيرة التمساح في الأسبوع الأخير من يوليو 1882.
 وبعدها بأيام كانت سفن الأسطول البريطاني القادمة من الهند قد بدأت تلقي مراسيها في السويس لتكمل احتلال المدينة في الثاني من أغسطس، تحتلها باسم الخديوي الخائن الذي باع البلد من أجل عرشه، لكن التحرك الكبير في اتجاه احتلال القناة بدأ مع توالي الهزائم البريطانية في كفر الدوار، فخلال ثلاثة أيام من 20 إلى 22 أغسطس احتلت القوات البريطانية منطقة القناة بالكامل وأغلقتها أمام السفن التجارية، وسيطرت على السكة الحديد بين السويس والإسماعيلية وعلى الترعة التي تغذي المنطقة بالمياه العذبة.
 
 

 وبعد السيطرة على القناة لم يضع الإنجليز وقتًا، فبدأ زحفهم تجاه الغرب من يوم 23 أغسطس، وتساقطت المواقع المصرية بسرعة موقعًا بعد موقع، بل إن رئيس الأركان المصري محمود باشا فهمي وقع في الأسر في موقعة المسخوطة يوم 25 أغسطس 1882، وفي اليوم التالي مباشرة انتقل عرابي من جبهة الشمال إلى جبهة الشرق، إلى التل الكبير، ليقود المعارك بنفسه.
 
 
 توالت هزائم الجيش المصري وكان أهمها الهزيمة التي وقعت في معركة القصاصين الثانية يوم 9 سبتمبر وكانت إيذانا بالنهاية، في تلك المعركة التي بدأت بهجوم الجيش المصري على القوات البريطانية في محاولة لاستعادة القصاصين من الإنجليز.
 
 

 خلال كل تلك المعارك كان الخديوي يصدر منشورًا وراء منشور يعلن فيه عصيان عرابي ويدعو المصريين لاستقبال قوات الاحتلال بالترحاب! باعتبارها قوات حليفة جاءت لمساندة شرعيته وحمايتها في مواجهة الثوار. لكن التأييد الشعبي لعرابي وللثوار كان جارفًا، بل إن بعض سيدات الأسرة العلوية الحاكمة تضامنن مع الثورة وتبرعن بحليهن وأموالهن وجياد مزارعهن لصالح المجهود الحربي.

 كذلك برز دور الخيانة في تحقيق النصر للإنجليز، خصوصا في معركة القصاصين، خيانة الأميرالاي علي بك يوسف خنفس الذي سلم خطة العرابيين لولسلي، وخيانة شيخ العرب سعود الطحاوي ورجاله الذين ضللوا محمود سامي البارودي فلم يصل إلى ميدان المعركة في الوقت المحدد، بفضل الأموال التي دفعها سلطان باشا بأوامر الخديوي لهم، وباع عدد من مشايخ العرب في الشرقية ومنطقة القناة ضمائرهم للعدو وأرشدوه في دروب الصحراء.
 
 

 وضاقت الحلقة حول عرابي ورفاقه من قادة الحركة الوطنية المصرية عندما أصدر السلطان العثماني فرمانًا بعصيان عرابي دعا فيه المصريون للانفضاض من حوله، وبالمناسبة فإن هذا السلطان هو عبد الحميد الثاني خليفة المسلمين الذي يصدع االبعض رءوسنا بالدفاع عنه، ومحاولة تبيض تاريخه الأسود لمصلحة تيار الإسلام السياسي الذي يروج للخلافة الإسلامية.
 
عبد الحميد الثاني

 ثم كانت الهزيمة الكبرى يوم 13 سبتمبر في التل الكبير، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ مصر.


 
 وأعتقد أنه لا يكفي لتفسير الهزيمة الخيانة رغم وطأتها، كما لا يكفي لتفسيرها الفارق في القوة بين الجيش البريطاني والجيش المصري، فقد انتصر المصريون على الإنجليز في سنة 1807 رغم أن فارق القوة كان أكبر لصالح الإنجليز بما لا يقارن، لكن عرابي وقع منذ بداية الأحداث في سلسلة من الأخطاء القاتلة التي انتهت إلى الهزيمة، ربما كان أول الأخطاء في ميدان القتال الانسحاب من الإسكندرية وإخلائها في وقت كانت القوات البريطانية التي نزلت إلى المدينة قليلة العدد فلم تكن الإمدادات قد وصلت إليها بعد، وكان هجومًا من الجيش المصري كفيلًا باستعادة المدينة.

 الخطأ الثاني الذي ارتكبه عرابي عدم قيامه بسد القناة أو إغلاقها وتعطيل الملاحة فيها، لقد صدق عرابي وعد ديلسيبس له بالحفاظ حياد القناة وعدم السماح للقوات البريطانية بدخول مصر من القناة، ولم يأخذ بنصيحة معاونيه وأركان جيشه، ولو كان عرابي أغلق القناة لأعاق تقدم الجيوش البريطانية، ويقول جون نينيه رئيس الجالية السويسرية في مصر وصديق عرابي في كتابه "عرابي باشا":
 "إن بساطة عرابي جعلته يرتكب أغلاطًا كبيرة ظهرت عواقبها فيما بعد، فبمقدار ما بذل من الهمة في الدفاع عن الإسكندرية وتحصين خطوط الدفاع في كفر الدوار بحيث امتنعت على الإنجليز، قد أظهر منذ بداية المعارك غفلة بالغة إذ استمع إلى النصائح الكاذبة التي خدعه بها المسيو فردينان دلسبس حين زعم أن الإنجليز لا يمكن أن يتعرضوا للعمل الفرنسي، فامتنع عرابي عن سد القناة في الوقت المناسب واستمسك برأيه رغم ما كانت تحتمه الخطط الفنية الحربية، ورغم ما ارتآه زملاؤه وما ارتأيته أنا، وكررته عشر مرات، تارة بالقول القارس وطورًا بالكتابة في وجوب سد القناة، ورغم كل ذلك أصر عرابي على رأيه، فمهد للجنرال ولسلي نصرًا من أسهل ما عرف في تاريخ المعارك".
 أما الخطأ السياسي الأكبر لعرابي فكان إحجامه عن عزل الخديوي توفيق الذي أظهر خيانته لمصر المرة تلو المرة وتعاون مع المحتل ودفع عددًا من الساسة المصريين الذين كانوا "وطنيين" إلى التعاون مع الاحتلال، وفي مقدمة هؤلاء سلطان باشا.
 لكن قبل ذلك وبعده، كان السبب في ذلك، الموقف الوسطي بين القديم والجديد، موقف اللي رقصت على السلم لا اللي فوق شفوها ولا اللي تحت شفوها"،  وقد لخص صلاح جاهين في رائعته "على اسم مصر" هزيمة عرابي في أبيات على لسان الطهطاوي، قال فيها:
"مالك سلامتك بتبكي ليه يا طهطاوي

قال لك عرابي ... انكسر بسلاح أوروباي

وسلاح أوروبا ما هواش المدافع بس

ده فكر ناقد مميز للثمين والغث

قلناها ميت ألف مرة بصوت جهير داوي

بس الحماقة لا ليها طبيب ولا مداوي

ولا حد م الخلق بالخطر اللي داخل حس

الغفلانين اللي خلوا العقل صابه مس

قالوا الخطر هو فكر أوروبا لو يندس

                          على اسم مصر"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...