الثلاثاء، 22 يوليو 2014

هذا المقال نشرته في جريدة الشروق في يوليو 2012 في الذكرى الستين لحركة الضباط الأحرار

 

يوليو شهر الثورات

مصر بين يوليو 1795 ويوليو 1952

عماد أبو غازي

 ستون عامًا تمر غدًا على بداية الحكم العسكري لمصر، ففي فجر يوم الأربعاء ٢٣ يوليو ١٩٥٢ تحرك تنظيم الضباط الأحرار ليسيطر على قيادة الجيش وينطلق في أولى خطواته نحو السيطرة على البلاد، لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ مصر وتاريخ المنطقة العربية كلها، ربما نعيش الآن بدايات النهاية لها منذ ثورة 25 يناير 2011.
 يوليو شهر الثورات، في ٤ يوليو ١٧٧٦ انتصرت الثورة الأمريكية وأصبح هذا اليوم عيدًا للاستقلال في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ١٤يوليو ١٧٨٩ اقتحم الشعب الفرنسي سجن الباستيل رمز الاستبداد والتسلط، وقامت الثورة الفرنسية الكبرى التي تعد واحدة من أهم الثورات في التاريخ الحديث، بل في تاريخ الإنسانية عمومًا، والتي ألهمت شعوب العالم مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
 وفي مصر يقترن شهر يوليو بحدثين كبيرين أثرا في مسار التاريخ المصري الحديث، الحدث الأول ثورة المصريين في يوليو عام ١٧٩٥ على تعسف مراد بك وإبراهيم بك كبيري المماليك في ذلك الوقت، والحدث الثاني نجاح حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على الحكم في يوم الأربعاء ٢٣ يوليو من عام ١٩٥٢ وطرد الملك فاروق من البلاد في ٢٦ يوليو، وبالتالي نجاح ذلك الانقلاب العسكري الذي صار يعرف في التاريخ المصري بثورة ٢٣ يوليو.
 
 

 كل من الحدثين كان له تأثيره الكبير على مصر لسنوات طويلة تالية؛ فثورة يوليو ١٧٩٥ تعد بداية جديدة لنضال الشعب المصري من أجل المشاركة في إدارة أمور بلاده، ومن أجل الوصول إلى صيغة عقد اجتماعي بين الحاكم والشعب ينظم العلاقة بينهما، لقد جاءت الثورة سنة 1795 بعد سنوات قليلة من هزيمة مشروع استقلالي عن الدولة العثمانية قاده علي بك الكبير أحد كبار أمراء المماليك في مصر، جاءت في عصر شهد بداية لتحولات كبرى في البلاد على مستوى البنية الاقتصادية والاجتماعية وعلى مستوى الأفكار، قامت الثورة احتجاجًا على إجراءات متعسفة اتخذها الأميران الكبيران إبراهيم بك ومراد بك مست أقوات الناس ومصالح بعض كبار مشايخ الأزهر، فخرجوا ضد هذه الإجراءات، ونجحت ثورتهم في أن تفرض على الأميرين توقيع حجة شرعية أمام قاضي القضاة التزاما فيها بعدم فرض ضرائب أو جباية أموال جديدة أو مصادرة الأوقاف والرزق والمستحقات الخاصة بمشايخ الأزهر ومجاوريه، كما تعهدا بالرجوع إلى كبار المشايخ عند اتخاذ أية إجراءات تتعلق بأقوات الناس وأرزاقهم، كانت هذه الحجة الشرعية عهدًا جديدًا من نوعه ـ في مجتمعنا ـ بين الحكام والمحكومين، لقد كانت تلك الثورة فاتحة لمرحلة جديدة استمرت لأكثر من قرن ونصف كافح فيها المصريون من أجل حكم بلادهم، وتبلورت مطالبهم حول هدفين اثنين: حكم أنفسهم بأنفسهم والتخلص من الحاكم الأجنبي، ووضع دستور للبلاد يحد من سلطات الحاكم ويحمي حريات المواطنين ويؤسس لدولة تقوم على مبدأ المواطنة، وصاغ المصريون فيما بعد شعارًا لهذا النضال تلخص في كلمتين "الاستقلال والدستور".
 وبعد قرن ونصف أضيفت العدالة الاجتماعية إلى المطالب التي يناضل المصريون من أجلها؛ فمع نهاية الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥، أصبح دور اليسار الاشتراكي والشيوعي واضحًا في النضال الوطني، وتزايد تأثيره في أوساط الطلاب والعمال والمثقفين، وظهر جناح يساري داخل حزب الأغلبية الشعبية حزب الوفد عرف باسم الطليعة الوفدية، وخلال سنوات ما بعد الحرب العالمية ظهر بوضوح تأثير أفكار اليسار في قطاعات من النخب السياسية وطرحت مشروعات للإصلاح الزراعي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعالت الأصوات المنادية بحقوق العمال وتحسين أوضاعهم.
 في تلك السنوات بات واضحًا أن مصر تتغير وأن تأثير الأفكار الشيوعية والاشتراكية التي كانت تنتصر في شرق أوروبا وفي بعض بلدان آسيا بدأت تظهر في بلدان المنطقة العربية ومن بينها مصر، وإن قيادة جديدة للنضال الوطني والديمقراطي أخذه في التشكل يلعب فيها اليسار دورًا واضحًا، وفي نفس الوقت بدأت الحركة الوطنية المصرية تتبع أساليب جديدة في النضال، فعقب إلغاء النحاس باشا لمعاهدة ١٩٣٦ من جانب واحد في أكتوبر ١٩٥١ بدأ الكفاح المسلح والعمل الفدائي في منطقة القناة وما يجاورها ضد الوجود البريطاني هناك، ودعمت الحكومة الوفدية الفدائيين وسمحت بفتح معسكرات للتدريب التحق  بها مئات من شباب الجامعات، إذاً فنحن أمام مرحلة جديدة من النضال الشعبي تتسم بالجذرية في المطالب والشعارات والجذرية في أساليب النضال، في نفس الوقت كانت حركة التذمر داخل الجيش تتسع بعد هزيمة الجيوش العربية ومن بينها الجيش المصري في حرب فلسطين سنة ١٩٤٨، وإلقاء مسؤولية الهزيمة على خيانة الأنظمة الحاكمة وعلى الأسلحة الفاسدة، وعندئذ انطلق تنظيم الضباط الأحرار الذي أسسه جمال عبد الناصر قبلها.
 
 
وضم عبد الناصر إلى تنظيمه عددًا من زملائه كان لبعضهم ارتباطات سابقة بتنظيمات أخرى كالإخوان المسلمين وحدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) وبعض مجموعات الشباب الوطني الذي كان يقوم بعمليات إرهابية.
 وبسرعة اكتسب تنظيم الضباط الأحرار مؤيدين وسط صفوف الضباط الشبان، وبدأت منشورات التنظيم تنتشر بين الضباط ووصلت إلى قصر الملك بل إلى مكتبه، وخاض التنظيم أول معاركه الكبرى في انتخابات نادي الضباط حيث نجح اللواء محمد نجيب مرشح الضباط الأحرار أمام مرشح الملك.
 
 

 كان الملك فاروق في مقتبل الثلاثينيات من عمره ويرى أن حكمه زائل لا محالة فقد كانت لديه قناعة تامة بان الملكيات إلى زوال، وكان يردد مقولته الشهيرة "لن يبقى من الملوك على الأرض إلا ملك إنجلترا وأربع ملوك الكوتشينة".
 
 

 مصر عند منتصف القرن العشرين كانت تعيش لحظة أزمة تاريخية، النظام الليبرالي التقليدي يعاني من انسداد القنوات الطبيعية التي تدفع الدماء فيه للتطور بسبب تشوهات التكوين التي صاحبته منذ لحظة الميلاد، والبديل الشعبي الثوري ينمو ويتطور ويخوض معاركه لكنه مازال بعد  متخبطًا لا يملك القوة الكافية لإسقاط النظام، وحزب الأغلبية الشعبية حزب الوفد بداخله صراع بين تيارين متعارضين، تيار يمثل مصالح كبار الملاك والعائلات الكبيرة وتيار يقترب من قوى اليسار ويتبنى أطروحات التغيير، وعلى أرض الواقع كفاح مسلح يتصاعد في منطقة القناة يومًا بعد يوم، وينبئ حال نجاحه بتغيرات جذرية في الدولة والمجتمع. خطر داهم ينبغي وقفه، لكن ليتم هذا كان لابد أن تحترق القاهرة ليكون هذا مبررًا للإطاحة بالحكومة الشعبية المنتخبة ولفرض الأحكام العرفية وتصفية الكفاح المسلح في القناة وحصار القوى الوطنية والديمقراطية. 
 كانت هذه التغيرات تشق طريقها في المجتمع المصري في وقت تتصاعد فيه حدة الصراع بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي على مستوى العالم، ومن ناحية أخرى كانت قيادة المعسكر الرأسمالي تنتقل من القوى الاستعمارية القديمة وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية على الجانب الآخر من الأطلسي. كانت الولايات المتحدة تقدم نفسها في صورة مغايرة لصورة المستعمر الأوروبي الذي يسيطر على مستعمراته بالاحتلال العسكري المباشر، وكانت تسعى للسيطرة على منطقة المشرق العربي ذات الموقع الاستراتجي المهم في الصراع الدولي والتي تملك موارد بترولية ضخمة في نفس الوقت، كان نمو الأفكار الشيوعية والاشتراكية في المنطقة العربية يشكل خطرًا داهمًا على مصالح الغرب، وفي نفس الوقت كان من الواضح أن الأنظمة التقليدية التي اعتمدت على دعم الدول الاستعمارية التقليدية فقدت القدرة على السيطرة، ومن هنا كان لابد من البحث عن بديل جديد، بديل يمكنه أن يحقق الاستقرار ويوقف الخطر الشيوعي، وكان هناك لاعبان مؤهلان على الساحة الجيش والإخوان.
وللحديث بقية. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...