الأحد، 20 يوليو 2014

عبد الله نديم... نهاية الرحلة

عماد أبو غازي

 وجد عبد الله نديم الذي عبر دائما عن روح الشعب وآماله الحماية في أحضان هذا الشعب فظل هاربًا لأكثر من تسع سنوات كاملة دون أن ينجح رجال الخديوي أو الاحتلال في القبض عليه، لقد ساعد الناس النديم في كل مكان ذهب إليه في ملحمة تؤكد على أن الروح الوطنية سارية في وجدان الشعب رغم قوة الاحتلال واستبداد الخديوي، فالمبادئ التي نادى بها النديم الذي خرج من صفوف الشعب وبلور بقلمه وكلماته طموحه نحو الاستقلال والمشاركة في إدارة أمور البلاد أثمرت ثمراتها، وبعد رحلة طويلة من التخفي والتنكر دامت تسع سنوات قبض عليه بعد وشاية.

 وقد أشار النديم فيما بعد إلى ما لقيه من حسن المعاملة على يد محمد أفندي فريد وكيل حكمدارية الغربية بمجرد أن عرف أن تهمته سياسية، وبعد إحالته للنيابة قام بالتحقيق مع النديم قاسم بك أمين الذي كان رئيسًا لنيابة طنطا في ذلك الوقت فاهتم به وبرعايته طوال فترة التحقيق، كما حرص على التأكد من حسن معاملته في السجن.

 ومن بين الوثائق التي تحتفظ بها دار الوثائق القومية مذكرة يسجل فيها وكيل الداخلية وقائع القبض عليه، والإجراءات التي اتخذت مع من قاموا بإيوائه، ثم تستطرد المذكرة لتحكي على لسان عبد الله نديم قصة هروبه بين قرى الدلتا ومدنها والشخصيات التي تقمصها، والأسماء التي تسمى بها، والزيجات التي تزوجها، وأسماء من ساعدوه في رحلته الطويلة مع الهرب؛ فيذكر النديم في تقريره أنه ترك دمياط بعد أن علم بالقبض على أحد أنصار الثورة الهاربين هناك، ونعرف من المذكرة أنه تلقى مساعدات من عدد من الأشخاص أهمهم أحمد بك المنشاوي أحد أعيان محافظة الغربية والذي عرف بمواقفه الوطنية، وقد استضافه لفترة بالقرشية واستمر في إرسال المال له بعد أن غادرها، كم دبر له ملابس للتنكر، كما يذكر أسماء سيد أحمد أفندي عبد الخالق والحاج إسماعيل الكردي والبكباشي محمد أفندي فوده من ناحية المنشية، والبك الشاذلي من ناحية شبرا نما، والسيد بك النجار من ناحية سلامون، والسيد علي شيخ ناحية الجميزة الذي كان يكرمه بدون أن يخبره بحقيقة أمره، كما يروي النديم في تقريره ما صادفه في تلك الناحية من مشاكل قادت إلى القبض عليه، وتنتهي المذكرة إلى التوصية بنفيه من البلاد.

 وفيما يلي نص المذكرة:

"مذكرة لمجلس النظار
عبد الله نديم ضبط في ناحية الجميزة بمركز السنطة غربية في ليلة السبت 3 أكتوبر سنة 91 هو وتابعه حسين أحمد الذي صحة اسمه صالح أحمد، وعملت التحقيقات/ اللازمة مع السيد أبو العزم بسيوني عمدة الناحية وعلي سليمان أحد مشايخها ومحمد حلمي شيخ غفراها والسيد على البسيوني من أهاليها وعبد الغني جميل مأذون/ الشرع بها عن كيفية وجود عبد الله نديم بالناحية، وصار سجنهم بمديرية الغربية.
 وبالاطلاع على صورة الأمر العالي الصادر في أول يناير سنة 83 التي استحضرت من الدفتر خانة المصرية وجد محكوما على عبد الله نديم بالأمر المشار إليه/ بتبعيده من الأقطار المصرية.
 ثم بالاطلاع على التقرير الذي عطي منه حين ضبطه وجد مذكورا فيه إنه من مدة الثورة لم يكن له محل إقامة مخصص، وإنه بعد هزيمة أحمد عرابي كان/ قاصد هو وتابعه صالح التوجه إلى دمياط، وعندما وصلا إلى ميت الغرقا توجه إلى واحد صاحبه يسمى الشيخ سعيد وبات في منزله، ولما بلغه أن عبد العال/ ضبط في دمياط أقام بطرف الشيخ سعيد المذكور، وبعد مدة حضر له محمد الهمشري شيخ بناحية العتوة، وأخذه إلى بلده وأقام بها إلى أن توفي/ وبعدها أقام مدة بطرف أولاده باسم الشيخ يوسف المدني، وهو الذي كان يعرف حقيقته فقط، وبعد مدة خرج هو من العتوة قاصد/ جهة البحيرة، واجتمع على السيد علي المغازي بعزبة فيبر وصار يتردد معه في العزب والكفور ثلاثة أشهر، ثم حضر معه إلى الكوم الطويل بلده، وفيها/ عين له دار لسكنه وتزوج بها وأقام هناك مدة سنتين، ثم خرج من هناك إلى المحلة وأقام بها عشرين يوما بوكالة، ومنها إلى كفر الدبوسي/ بمنزل أبو حجازي ومكث ثلاثة شهور، ثم قام إلى ناحية سنهور بطرف سيد أحمد أفندي عبد الخالق وأقام مدة، ومنها إلى ناحية البكاتوش/ وأقام بطرف الحاج إسماعيل الكردي ومكث مدة شهر تقريبا، وقام إلى ناحية القرشية بطرف أحمد بك المنشاوي بمنزل من القرية ملكه ومكث/ مدة خمسة أو ستة أشهر وبها تزوج بنت الحاج مصطفى منا بواسطة أخويها بدوي ومصطفى لكونهما كانا خفرا بطرف أحمد بك، وكان المخبر له عنها/ الأسطى محسن السروجي من المحلة، وإن أحمد بك يعرف حقيقته، والذي عقد العقد الشيخ مصطفى القاضي، وإن أحمد بك استحضر له ملابس من طرفه ومن ضمنها/ طقمين أحضرهما له محمد أفندي فوده البكباشي من ناحية المنشية وأخبره أن أحدهما من طرفه والآخر من طرف أحمد بك المنشاوي، وكان يتردد على محمد أفندي/ فوده المذكور، ثم قام إلى ناحية البكاتوش بطرف الحاج إسماعيل الكردي، ومن تاريخ 14 الحجة سنة 308 توجه إلى ناحية الجميزة وأقام بها إلى أن صار ضبطه/ وكان أحمد أبو سعيد والشيخ علي المغازي يودونه بالماؤونة، والبيك الشاذلي من ناحية شبرا تنما والسيد بك النجار من ناحية سلامون وأحمد بك المنشاوي/ كانوا يرسلوا له الماؤونة اللازمة والمصاريف، والسيد علي شيخ ناحية الجميزة كان يكرمه بدون أن يخبره بحقيقة أمره، وكان هو متزوجا بنت الشيخ/ عبد الغني وإنه حالما كان بالكوم الطويل هم السيد علي المغازي بقتله هو وتابعه لكونه اشتهر هناك كثيرا، وقصدوه الناس للتعلم والاستفتى/ فحقد عليه ذلك، وعندما بلغه ذلك خرج مع خادمه لجهة المحلة، وفي تلك الليلة أخبر أحمد أبو سعيد عمدة الكوم الطويل أنه نديم، فأعطاه حمارين/ إلى المحلة، وفي الصباح أشيع أن الشيخ الفيومي وهو اسمه إذ ذاك هو من العرابيين المختفين.
  حيث أن عبد الله نديم المذكور محكوما عليه بالتبعيد، وكان ينبغي على من آووه وهم يعرفون حقيقته أن يخبروا الحكومة عنه.
وحيث أن من تستروا عليه ممن يعرفون حقيقته لاسيما الأعيان أصحاب الرتب منهم والموظفين مثل المشايخ والعمد ينبغي مجازاتهم قانونا.
وحيث أن عبد الله نديم المذكور نظرا لما هو معلوم من ارتكابه بث الفتن بخطاباته التي أقلقت الأفكار مدة الثورة، أرى وجوب/ تبعيده عملا بالأمر العالي الصادر في شأنه إلى جهة (بيزا) مثلا أو ما يماثلها.
فقد تحررت هذه المذكرة من أجل النظر في ذلك بالمجلس،، يوم الاثنين 12 أكتوبر سنة 1891   (ختم) وكيل الداخلية
      9 ربيع أول سنة 1309."

 

 

مذكرة وكيل الداخلية المرفوعة إلى مجلس النظار بشأن القبض على النديم

 

 وبالفعل نفي عبد الله نديم إلى يافا في فلسطين، لكنه عاد إلى مصر عقب وفاة توفيق وتولي عباس حلمي الحكم، ورغم أن عودته كانت مشروطة بابتعاده عن السياسة إلا أن الرجل لم يستطع التخلي عن مبادئه ولم يقبل بالصمت، فأصدر صحيفة "الأستاذ"، وجعلها صوتًا للوطنية في مواجهة الاحتلال، ولم يتحمل اللورد كرومر ما يكتبه النديم فسعى إلى نفيه مرة ثانية.

 فأوقف النديم مجلته الأستاذ، وكتب في ختام عددها الأخير مودعًا القارئ:

 "ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرا في أعين الواقفين عند الظواهر، وعلى هذا فأني أودع أخواني قائلا:

أودعكم والله يعلم أنني        أحب لقاكم والخلود إليكم

وما عن قلي كان الرحيل وإنمــــا دواع فالسلام عليكم"

وقد نفي في البداية إلى يافا مرة أخرى، ثم انتهى به المطاف في اسطنبول، وهناك دخل في معارك سياسية عديدة ضد الفساد والاستبداد، وألف أخر كتبه "المسامير" الذي يفضح في فساد الصدر الأعظم (رئيس وزراء الدولة العثمانية)، وقضى "الأستاذ" سنواته الأخيرة بعيدًا عن الوطن الذي أحبه وأخلص له وضحى من أجله، وتوفي في 11 أكتوبر سنة 1896 في الأستانة حيث دفن هناك في غربته، لكن مصر لم تنسه أبدًا؛ فقد بقى حاضرًا في وجدان الناس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...