السبت، 12 يوليو 2014



ما أشبه البارحة بأول البارحة وأول أول البارحة!!!


عماد أبو غازي

 كانت ردود الفعل على ضرب الإنجليز للإسكندرية سريعة ومتباينة...
 
 
 
 في القاهرة ساد القلق والاضطراب، لكن عرابي باشا والقيادة العسكرية قررت أن تطمئن الناس بالتلغرافات، ومنعت الحكومة نشر أي أخبار غير ما تقره نظارة الحربية وما يرد في تلك التلغرافات، مستغلة إعلان الأحكام العرفية.
 
 
  لكن ماذا جاء في التلغرافات؟
  أرسل عرابي إلى يعقوب سامي باشا وكيل الحربية عقب نشوب المعركة، فقال:
 "قد اشتعلت الحرب بيننا وبين الإنجليز في الساعة الثانية عشرة صباحًا من هذا اليوم، والقوة بالله، فأرسلوا برنجي آلاي طوبجيه، وإجروا اللازم في تشهيل إرسال العساكر".


 ملحوظة 1: الساعة 12 صباحا عربي تقابل الساعة 7 صباحا بالتوقيت العادي الذي كان يسمى الأفرنجي.

  ملحوظة 2: رغم أن الأزمة كانت محتدمة منذ أسابيع والأساطيل البريطانية والفرنسية أمام سواحل الإسكندرية، إلا أن عرابي لم يفكر في طلب الفرقة الأولى مدفعية (برنجي آلاي طوبجيه) إلا بعد أن بدأ الضرب!

 بعدها بساعات أرسل عرابي تلغرافا قال فيه:
 "الحالة جيدة وقد شوهدت حريقة في مراكب الإنجليز".
 وفي المساء أرسل للقاهرة قائلا:
 "حصل إطلاق المدافع من المراكب وصار مقابلتها من الطوابي بكمال الهمة من أول الساعة واحدة من النهار لغاية الساعة عشرة، وبعدها امتنع الضرب من الجهتين".

 هل كانت تلك هي الحقيقة؟
 بالطبع لا، لقد كانت تلغرافات عرابي للقاهرة، والأخبار التي تذيعها نظارة الحربية غير دقيقة وغير أمينة في نقل ما يحدث بالإسكندرية.
وفي الوقت الذي كانت تلغرافات عرابي تطمئن القاهرة على الأحوال كان الوضع في الميدان مختلفًا، كان قد تم الاتفاق على التسليم ورفع الرايات البيضاء على القلاع والحصون بمجرد أن يبدأ الأسطول الإنجليزي في الضرب يوم 12 يوليو.
 وهذا ما كان، وما حدث.
 لم تكن تلك المرة الأولى التي تعرف فيها مصر البلاغات العسكرية الكاذبة، كما لم تكن الأخيرة. فقبلها بـ 1913 سنة، هزم الرومان الأسطول المصري في موقعة أكتيوم البحرية، وتقدمت قواتهم لاحتلال مصر احتلالًا دام 650 سنة، لكن أجهزة دعاية كليوباترا السابعة أخر من حكمت مصر من البطالمة أطلقت أخبار النصر المؤزر، وقد عبر أحمد شوقي عن هذا الموقف تعبيرًا رائعًا في افتتاحية مسرحيته الشعرية "مصرع كليوباترا".
 وبعدها بـ 85 سنة صحونا يوم 5 يونيو 67 على البيانات الكاذبة التي تنبأنا بإسقاط العشرات من الطائرات الإسرائيلية وبتقدم قواتنا خلف خطوط العدو، وبعد خمسة أيام أفاق الناس على الحقيقة المرة.

 "ما أشبه البارحة بأول البارحة وأول أول البارحة".

 أما الخديوي توفيق فقد كان سعيدًا للغاية، لقد أصبح حلمه بالتخلص من عرابي ومن الحركة الوطنية "قاب قوسين أو أدنى"، ولا يهمه في شيء إذا تم ذلك بقوة البوارج الإنجليزية، أو إذا ضاعت مصر كلها واستقلالها من أجل الحفاظ على كرسي عرشه. ورغم أن بعض قوات عرابي قامت بحصار قصر الخديوي في الإسكندرية، إلا أن عرابي تراجع مرة أخرى عن الإطاحة بالخديوي، مصدقًا نصائح الناصحين، بأهمية الحفاظ على وحدة الصف الوطني!
 أي صف وأي وطني بعد أن أسفر الخديوي عن وجهه القبيح؟
 ورغم أن عرابي مؤمن، ورغم أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فإن عرابي لدغ من نفس الجحر ثلاث مرات أو أربع!!!!

 في المقابل كان رد الفعل الشعبي في الإسكندرية وفي غيرها من الأقاليم عنيفًا وعشوائيًا وموجهًا في غير محله، بسبب غياب قيادة سياسية شعبية تنظم حركة الجماهير، ففي الإسكندرية تصاعدت أعمال العنف ضد الأجانب بلا تمييز، ويروي نينيه رئيس الجالية السويسرية وصديق العرابيين أنه تعرض للفتك به لولا تدخل ضابط كان يعرفه لإنقاذه من بين أيدي الجماهير الغاضبة. كذلك جرى الاعتداء على الأجانب في طنطا والمحلة وقتل ثمانين منهم، وتصرف عرابي بسرعة لوقف الفتنة فقام بإرسال فرقة عسكرية بقيادة الفريق راشد باشا حسني إلى الغربية وفرقة بقيادة علي باشا فهمي إلى المنوفية لحفظ الأمن وحماية الأجانب والقبض على مدير الغربية ومدير المنوفية وتقديمهما للمحاكمة العسكرية. وحال حرص مدير الفيوم يعقوب بك صبري ومحافظ القاهرة الأميرالاي إبراهيم بك فوزي ويقظتهما دون تكرار مثل هذه الحوادث.
 وكانت الطامة الكبرى بقرار إحراق الإسكندرية يوم 12 يوليو لإعاقة احتلال الإنجليز لها، بدلا من التصدي للإنزال البري والاشتباك مع القوات البريطانية التي لم يكن عددها يتجاوز 5700 من جنود الأسطول. وقد قاد الحريق سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس رغم معارضة عرابي، وشارك بعض الأجانب بإحراق ممتلكاتهم  حتى يطالبوا بالتعويض بعد انتهاء المعارك، وعندما حاول البحارة الأجانب إخماد الحريق أمر سيمور قائد الأسطول البريطاني برحيلهم فورًا، حتى يكتمل احتراق المدينة.

 

 مرة أخرى ما أشبه البارحة بأول البارحة، لقد حدث للإسكندرية مثل ما حدث للفسطاط في أواخر عصر الدولة الفاطمية، فعندما ضعف الخلفاء وبدأ الصراع يحتدم بين شاور وضرغام على الوزارة  لجأ طرفي الصراع للقوى الخارجية، الزنكيين والفرنجة، وعندما هُزم شاور واقترب الفرنجة من العاصمة أمر شاور بإخلاء الفسطاط من أهلها وأحرقها حتى لا تقع في أيديهم.

 وفي ليلة 12 / 13 يوليو تم انسحاب الجيش المصري من الإسكندرية، وعودة الخديوي إلى قصر رأس التين تحت حماية الإنجليز، وهجر المدينة 150 ألف من سكانها.
 وعلى الجانب الآخر تعالت في بريطانيا أصوات الاحتجاج، فاستقال جون برايت الوزير البريطاني في حكومة حزب الأحرار برئاسة جلادستون احتجاجًا على المذبحة والهمجية الإنجليزية واصفا ما حدث بأنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي وقانون الأخلاق"، مثلما فعل روبين كوك في مواجهة مشاركة بريطانيا في العدوان على العراق.
 
 
جون برايت
 
 واعترض السير ولفرد لاوسن أحد نواب الأحرار في مجلس العموم على ما حدث واصفًا إياه بأنه "فظاعة دولية وعمل يجمع بين الجبن والقسوة والإجرام"، مثلما فعل النائب العمالي جورج جلاوي.

 

 
سير ولفرد لاوسن
 
لكن لا استقالة الوزير أتت بنتيجة ولا اعتراض النائب، فأغلبية أعضاء مجلس العموم بانتماءاتهم الحزبية المختلفة كانوا يؤيدون السياسة الاستعمارية.
مع ذلك لم تكن مسيرة الاحتلال سهلة ويسيرة... وللحكاية بقية...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...