السبت، 26 يوليو 2014


 

 

سؤال يوليو 1952

 هل تغني العدالة الاجتماعية عن الحرية؟


عماد أبو غازي

  عندما قام الضباط الأحرار بانقلابهم في 23 يوليو 1952 كانت الأرض ممهدة أمامهم ليثّبتوا دعائم نظام  جديد، فمصر كانت مؤهلة للتغيير، ولو أردنا أن نلخص الوضع في مصر أواخر عام 1951 وبدايات عام 1952، يمكن أن نوجزه في أن مصر كانت تعيش أزمة شاملة، نظام ملكي فاسد احترف فيه الملك التعدي على الدستور، تجربة ليبرالية تعاني من مشكلات جوهرية بسبب تدخلات السراي والانقلابات الدستورية التي قامت بها مرة تلو أخرى لإبعاد حزب الوفد حزب الأغلبية الشعبية عن الحكم، قضية وطنية مستعصية على الحل عن طريق التفاوض بسبب السودان والقواعد العسكرية، وكانت المفاوضات قد وصلت إلى طريق مسدود انتهى بحكومة الوفد إلى إلغاء معاهدة 1936 من جانب واحد ودعم الكفاح المسلح في القناة، وقبل ذلك كله مجتمع عاجز عن أن ينجز تحوله الرأسمالي وتطوره الصناعي بشكل كامل، وفي نفس الوقت ظهور حركة معارضة جذرية تتبنى أفكار اشتراكية.


 
 عشية الانقلاب العسكري كانت الأحكام العرفية معلنة في البلاد منذ ستة أشهر عقب حريق القاهرة، والمعارضة الوطنية في المعتقلات أو تحت الحصار، وحالة الفوضى السياسية تضرب البلاد، البرلمان معطل، والحكومات لا تستمر في الحكم أكثر من أسابيع قليلة أو أيام، كل هذا مهد الأرض أمام نجاح حركة الضباط الأحرار.
 
 
 لقد أدرك جمال عبد الناصر ومجموعة الضباط الأحرار أن لحظتهم قد حانت، فتحركوا وضربوا ضربتهم، ونجحوا خلال عامين في تثبيت دعائم سلطتهم بتصفية الحياة الحزبية ومصادرة الحريات السياسية وعاونهم على ذلك مجموعة من القانونيين والساسة الذين ينتمون إلى النظام القديم، بدافع من عدائهم للوفد حزب الأغلبية الشعبية أو بدافع من قناعتهم بوصول التجربة الليبرالية إلى طريق مسدود؛ فحسنوا لهم إلغاء الدستور، وحل البرلمان ومحاصرة الأحزاب ثم حلها، وساعدوهم على بناء شرعية جديدة لنظامهم، ثم كان هؤلاء في مقدمة من أطاح بهم النظام الجديد عندما ثبت أركانه.
 كذلك تحالف معهم الإخوان المسلمون ودعموهم وساندوهم حتى بدأ الصدام بين الطرفين في يناير 1954 ليعود الوئام مرة أخرى أثناء أزمة مارس 1954 لشهور قليلة يعقبها الطلاق النهائي بين الطرفين.


 الضباط الأحرار على مائدة المرشد في زمن الصفاء بين الجماعة والحركة
 كانت المحاكم العسكرية والاستثنائية والخاصة طريقًا سريعًا لتصفية الخصوم السياسيين لنظام يوليو، تمت أمامها محاكمة رموز النظام القديم وقادة الأحزاب السياسية والمعارضين من داخل الجيش، وأخيرًا الإخوان، لكنها طالت منذ البداية الطبقة العاملة، عندما تمت محاكمة عمال كفر الدوار الذين أضربوا عن العمل في أغسطس 1952 أمام واحدة من هذه المحاكم التي قضت بإعدام اثنين من قادة العمال هما الشهيد مصطفى خميس والشهيد محمد البقري، وقد نفذ فيهما حكم الإعدام بالفعل.
الكشف على الشهيد مصطفى خميس قبل تنفيذ حكم الإعدام
 
أخبار أحداث كفر الدوار ومقال سيد قطب التحريضي ضد العمال
 كان الوضع الدولي أيضا إلى جانب ضباط يوليو فقد رحبت الولايات المتحدة بانقلابهم وساندته في بدايته، وهذا لا يعني بالطبع أنه كان انقلابًا مثل الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية التي دبرتها المخابرات الأمريكية، لكن رغبة الولايات المتحدة في ضمان استقرار المنطقة وخوفها من الخطر الشيوعي كانا يدفعاها لدعم ضباط وطنيين يحققون استقرارًا وتنمية في بلدهم ويحاصرون نمو الحركة الشيوعية، وقد استمر هذا التأييد إلى ما بعد العدوان الثلاثي في 1956 وكان لدور الولايات المتحدة فضل كبير في إرغام دول العدوان على الانسحاب.

 كان أمام النظام الجديد مهام عديدة صعبة عليه أن يحققها، لخص رجال يوليو برنامجهم فيما عرف بالمبادئ الستة للثورة، التي تتضمن هدم النظام القديم وبناء نظام جديد. على الصعيد السياسي كان أمام الضباط الأحرار مهمة حل إشكالية نظام الحكم والقضية الوطنية، أو قضيتا الدستور والاستقلال، اللتان دار حولهما النضال الوطني في مصر لعشرات السنين.

 في يتعلق بنظام الحكم، اتخذ مجلس قيادة الثورة بعد أقل من عام قرار إعلان النظام الجمهوري الذي تردد العرابيون في اتخاذه قبل سبعين عامًا، ولم تجروء عليه ثورة 19؛ وبإلغاء الملكية تم إسقاط الركن الأساسي للنظام القديم، لكن مجلس الثورة قبل أن يلغي الملكية بخمسة أشهر كان قد حل الأحزاب السياسية وصادر أموالها، ليصادر بذلك حق المواطنين في التنظيم السياسي المستقل، ويضع أسس نظام شمولي يقوم على التنظيم السياسي الواحد التابع للدولة، تغيرت مسمياته وظل جوهره واحد، من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي العربي، بل حتى عندما بدأت التجربة الحزبية المقيدة ورث حزب مصر العربي الاشتراكي ثم الحزب الوطني الديمقراطي وضع حزب الدولة الواحد أو تنظيمها السياسي المهيمن، وظلت الأحزاب الأخرى محاصرة وهامشية في أغلب الأحوال. لقد شيد ضباط يوليو نظامًا شموليًا معادي للحريات السياسية وللديمقراطية، ثبت دعائمه بالقمع وانتهاك حقوق الإنسان، وبحشد الجماهير في منظمات تابعة للسلطة.
  وفيما يتعلق بحل القضية الوطنية نجح النظام الجديد في توقيع اتفاقية الجلاء، رغم انها لا تختلف كثيرًا عن اتفاقية صدقي بيفن التي رفضها الشعب عام 1947 وسقطت حكومة إسماعيل صدقي بسبب هذا الرفض؛ لأن صدقي واجهته حركة شعبية وأحزاب سياسية صفاها نظام يوليو قبل أن يوقع المعاهدة، كذلك جاء حل مسألة السودان بالاستفتاء على الوحدة أو الاستقلال، واختار السودانيون الاستقلال بعد أن بات واضحًا الاتجاه نحو الديكتاتورية في مصر. وبعد قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 والذي حقق شعبية جارفة للرئيس عبد الناصر على الصعيدين المحلي والإقليمي، تطورت الأمور في اتجاه العدوان الثلاثي الذي مكن مصر من التخلص نهائيًا من معاهدة الجلاء وإنهاء الوجود البريطاني في مصر تمامًا.
 
 كذلك جاءت حركة الضباط تحمل معها حلولًا لكثير من مشكلات المجتمع المصري في إطار التطور الرأسمالي، وأولها مشكلة تحول مصر إلى دولة صناعية، فمنذ بدأت التجربة الثانية للتصنيع الحديث في مصر في أعقاب ثورة 19، والعقبات تواجهها، ليس فقط من الرأسمالية الأجنبية المدعومة بقوة الاستعمار البريطاني، لكن بالدرجة الأولى لطبيعة التكوين الطبقي المصري الذي قامت فيه تجارب التصنيع على أكتاف طبقة كبار الملاك، فقد كان أبرز الرأسماليين الصناعيين هم في ذات الوقت من كبار الملاك الذين يحوزون آلاف الأفدنة، وبدلًا من أن تحول هذه الطبقة فوائض ثروتها إلى الاستثمار في الصناعة، كانت تحول تلك الفوائض إلى التوسع في مجال ملكية الأراضي الزراعية، ومن هنا جاء قانون الإصلاح الزراعي ليرغم هذه الطبقة على توجيه فوائضها إلى الاستثمار في مجال الصناعة، وليوسع في ذات الوقت من قاعدة ملكية الأراضي الزراعية من خلال توزيع الأراضي على الفلاحين، ويرفع من القدرة الشرائية لقطاع مهم من المواطنين.

 ثم بدأت عملية التمصير واتسعت في أعقاب معركة السويس، وقد سمح التمصير بتحقيق نواة لملكية الدولة في القطاعات الاقتصادية المختلفة، تلك الملكية التي أدت إلى ظهور طبقة جديدة من البيروقراطيين والتكنوقراط الذين يديرون أملاك الدولة، واتسعت قاعدة الملكية مع قرارات التأميم في مطلع الستينيات بعد عشر سنوات من انقلاب يوليو، والتي وصفت بأنها قرارات يوليو الاشتراكية، ورغم المكاسب التي تحققت للطبقة العاملة خلال تلك السنوات العشر، ورغم التواسع الهائل في القاعدة الصناعية للبلاد، فقد قادت هذه القرارات البلاد إلى نظام رأسمالية الدولة، ولم تحقق نظامًا اشتراكيًا، كما أن الطبقة العاملة المصرية مقابل ما حصلت عليه من مزايا فقدت حقها في إنشاء نقاباتها المستقلة وأصبح التنظيم النقابي خاضعًا بالكامل لسيطرة الدولة وتنظيمها السياسي الواحد المهيمن. أما قاعدة الصناعة الجديدة فسرعان ما بدأت تعاني من المشكلات بعد الخطة الخمسية الأولى، وتفاقمت هذه المشكلات مع هزيمة يونيو 67.
 لقد حقق نظام يوليو الكثير لكنه سلب المصريين أهم ما أنجزوه طوال قرن ونصف من تاريخ نضالهم، سلبهم مبادرتهم المستقلة في بناء مؤسساتهم وبناء مجتمعهم المدني، سلبهم تنظيماتهم المستقلة وحقهم في تكوين الأحزاب، سلبهم روح الابتكار والحرية، وبذلك كان انقلابًا على القيم الأساسية التي ناضل من أجلها المصريون، ولذلك انتهى بعد خمسة عشر عامًا مهزومًا.
 لقد وضعنا نظام يوليو أمام سؤال هل يمكن أن نتنازل عن حريتنا مقابل تحقيق العدالة الاجتماعية؟ وأثبتت التجربة إننا بعد ستين عامًا قد فقدنا الاثنين معًا، لذلك قامت ثورة 25 يناير ردًا على سؤال يوليو 52 وتصحيًا للمعادلة، فالشعب يريد العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية معًا جميعا دفعة واحدة.

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...