الجمعة، 4 يوليو 2014


بالأمس مرت ذكرى رحيل عبد الوهاب المسيري
هذه المرثية كتبتها بعد وفاته في مقالي بالعدد الأسبوعي من الدستور "مخربشات" في يوليو 2008... أعيد نشرها تحية لذكراه...

نهاية التاريخ
"مرثية لعبد الوهاب المسيري"

عماد أبو غازي


 "نهاية التاريخ" كان اللقاء الأول لي ولأبناء جيلي بالمفكر عبد الوهاب المسيري، و"نهاية التاريخ" عنوان الكتاب الأول الذي صدر للدكتور عبد الوهاب المسيري أواخر سنة 1972، وكان يناقش فيه بنية الفكر الصهيوني، وقد صدر الكتاب عن مركز الدراسات السياسية والاستراتـﭼـية في الأهرام، في سلسلة كانت جديدة في وقتها، وكان الكتاب ثاني أو ثالث كتب هذه السلسلة المهمة، والتي توجهت إصداراتها الأولى لدراسة جوانب فكرية جديدة تسهم في تكوين فهم علمي ووعي موضوعي بالصراع العربي الإسرائيلي، في وقت كنا نحتاج فيه بشدة إلى دراسات من هذا النوع، أتذكر أن الكتب الأولى في تلك السلسلة المهمة كانت لثلاثة من المفكرين الذين أسهموا إسهاما بارزا في الفكر المصري والعربي في العقود الأربعة الأخيرة: السيد يسين وقدري حفني وعبد الوهاب المسيري، وكانت كتبهم بالنسبة لي اكتشافًا جديدًا، وسبيلًا لوعي جديد بالصراع العربي الإسرائيلي، وكان كتاب المسيري مدخلي إلى هذا العالم الجديد وإلى تلك السلسلة التي كان الأهرام قد بدأ في إصدارها، كنت في سنتي الأولى بالجامعة، وكان كتاب المسيري رفيقي اليومي في رحلتي في مترو حلوان القديم ذهابًا وعودة من المعادي حيث كنت أسكن إلى الجامعة، شدني الكتاب وأعجبت بمؤلفه، وكانت مفاجأة لي عندما علمت أنه متخصص في الأدب الإنجليزي، كنت أتابع ما يقع بين يدي من كتابته في بعض الصحف والدوريات بين حين وحين، إلى أن التقيته للمرة الأولى في مطلع الثمانينيات قبل سفره إلى السعودية، وربما كان ذلك عقب صدور كتابه عن "الأيدولوﭼية الصهيونية" سنة 1981 إن لم تخني الذاكرة، وكان اللقاء من خلال أنشطة لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، فعرفت فيه مفكرًا متميزًا وإنسانًا مميزًا.

 كانت دراسات المسيري عن الصهيونية واليهودية إضافة مهمة للإسهام الفكري العربي في هذا المجال، لقد كان دائمًا حريصًا على التناول الموضوعي والمنهجي للقضية حتى لو جاء كلامه مغايرًا للسائد الذي يردده الجميع، ولا أنسى هنا موقفه الذي دحض فيه أسطورة بروتكولات حكماء صهيون التي وقع كثيرون من المفكرين العرب في فخ الترويج لها.

اختلفت الرؤى الفكرية وتغيرت بعض الموقف لكن المسيري المفكر ظل متمسكا بالمنهجية في التعامل مع القضايا المختلفة التي يتصدى لها، وظل دائما الإنسان الذي مهما كانت درجة الخلاف الفكري بينه وبين محاوريه لا يعرف إلا لغة احترام الآخر وتقديره.

 بعد أكثر من عقدين إلتقيت به خلالهما مرات قليلة متفرقة جمعتني به في ربيع 2005 ندوة بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة دعاني للمشاركة فيه الأصدقاء محمد عفيفي وأحمد ثابت وأحمد عبد الحليم عطية، كانت الندوة التي شارك في تنظيمها مركز الدراسات التاريخية بالكلية، تدور حول الإنجاز الفكري للمسيري، وكان هو مشاركًا فيها بالتعقيب على الأوراق المقدمة في الندوة، كان نصيبي مناقشة الدراسة المعمقة التي أنجزها عن العلمانية، وكان قد صدر منها مجلدان بعنوان "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وهما يشكلان حسب مقدمة الدكتور المسيري القسم الأوسط من ثلاثية تضم دراسة أوسع عن العلمانية، قسمها الأول يتناول الحلولية ووحدة الوجود باعتبارها مقدمات العلمانية، وقسمها الثالث يتناول ما بعد الحداثة باعتبارها ثمرة العلمانية الشاملة ـ وفقا لنظرية المسيري ـ وتقوم الدراسة على نقد ونقض مفهوم العلمانية، وتسعى إلى مناقشة التعريف الشائع للعلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، الذي يرى فيه الدكتور المسيري معنى العلمانية الجزئية، وتقديم تعريف جديد للعلمانية الشاملة،  التي هي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص، من وجهة نظره.

  وينقسم كتاب "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، إلى مجلدين في كل منهما بابين، الباب الأول في المجلد الأول: "العلمانية الشاملة ـ محاولة للتعريف" والباب الثاني: "بعض تبديات النموذج العلماني"، أما الباب الأول في المجلد الثاني فبعنوان: "عمليات العلمنة الشاملة"، والباب الثاني بعنوان: "العلمانية الشاملة واليهود واليهودية والصهيونية"، وقد دعيت لمناقشة هذا العمل من أعمال المسيري بالتحديد باعتباري علمانيًا، في محاولة من منظمي الندوة لتقديم أكبر قدر من الرؤى المتعارضة والمتقاطعة، فندوة تناقش فكر عبد الوهاب المسيري وتحتفي به لابد أن تحمل أراء مختلفة معه كما كان يحب دائمًا، فقد كان الرجل يحترم الاختلاف الفكري ويقدر المختلفين معه، قد يرد عليهم بأسلوبه الساخر الجميل، الذي نالني منه ما نالني في الندوة، لكنه أبدًا لا يستهزء بهم، ولا يسفه من آرائهم مهما كانت ومهما كانوا.

 لقد تعددت اهتمامات المسيري الفكرية والثقافية فبين تخصصه الأصلي في الأدب الإنجليزي واهتمامه بدراسة الصهيونية والصراع العربي الإسرائيلي يأتي دوره الذي قد لا يعرفه الكثيرون ككاتب لأدب الأطفال حائز على جوائز في هذا المجال، بل إنه عندما شارك في الوفد العربي الكبير في معرض فرانكفورت للكتاب سنة 2004 عندما كانت الثقافة العربية ضيفا للشرف كانت مساهمته بهذه الصفة، وقبل كل هذا وبعده يبقى الدور النضالي لعبد الوهاب المسيري، الدور الذي ظل يلعبه حتى الأيام الأخيرة في حياته رغم ظروفه الصحية.

 رحل المسيري صباح الخميس الماضي في موجه جديدة من موجات رحيل رموز ثقافية وفكرية مصرية عن عالمنا ففي أسبوعين اثنين ودعنا سعد أردش وسامي خشبة ورؤوف عباس، وها هو المسيري يرحل، و"كفاية" كده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...