الجمعة، 4 يوليو 2014


 مع ذكرى رحيل الدكتور عبد الوهاب المسيري أعيد نشر مقال كنت قد نشرته في ربيع 2005 بالعدد الأسبوعي للدستور ردًا على رؤية الدكتور المسيري للعلمانية...

 

 


 

 

مخربشات


علماني ... لا يشرب الكوكاكولا !!!


 


عماد أبو غازي


   نظم مركز البحوث والدراسات التاريخية في كلية الآداب بجامعة القاهرة ندوة عن فكر الدكتور عبد الوهاب المسيري، والرجل مفكر مصري أسهم بدور مهم في الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في مصر منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وهو إنسان متعدد المواهب والاهتمامات، فرغم أنه أستاذ جامعي متخصص في الأدب الإنجليزي، وكاتب لأدب الأطفال حاصل على جوائز عن إبداعه فيه، إلا أن إسهامه الأكبر جاء في مجال دراسة الصهيونية واليهودية وإسرائيل.
 
 
 
 ومنذ سنوات أصبح ينتمي فكريا إلى اتجاه إسلامي مستنير، وفي هذا السياق قدم دراسة معمقة عن العلمانية، صدر منها مجلدان بعنوان "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وهما يشكلان حسب مقدمة الدكتور المسيري القسم الأوسط من ثلاثية تضم دراسة أوسع عن العلمانية، قسمها الأول يتناول الحلولية ووحدة الوجود باعتبارها مقدمات العلمانية، وقسمها الثالث يتناول ما بعد الحداثة باعتبارها ثمرة العلمانية الشاملة ـ وفقا لنظرية المسيري ـ وتقوم الدراسة على نقد ونقض مفهوم العلمانية، وتسعى إلى مناقشة التعريف الشائع للعلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، الذي يرى فيه الدكتور المسيري معنى العلمانية الجزئية، وتقديم تعريف جديد للعلمانية الشاملة،  التي هي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص.
 

  وينقسم كتاب "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، إلى مجلدين في كل منهما بابين، الباب الأول في المجلد الأول: "العلمانية الشاملة ـ محاولة للتعريف" والباب الثاني: "بعض تبديات النموذج العلماني"، أما الباب الأول في المجلد الثاني فبعنوان: "عمليات العلمنة الشاملة"، والباب الثاني بعنوان: "العلمانية الشاملة واليهود واليهودية والصهيونية".

 ويؤكد الدكتور المسيري أن دراسته تتسم بروح استكشافية، ولا تنتهي إلى يقين... وبالمناسبة فإنه يعود بذلك علمانيًا.

 ويربط المسيري بين العلمانية وكل شرور المجتمع الرأسمالي، بل يحملها وزر هذه الشرور، ويعتبر أن فصل الدين عن الدولة أدى إلى ما آلت إليه المجتمعات الرأسمالية الآن من فقدان الإنسان لإنسانيته وتحوله إلى سلعة، كما تسبب في انهيار القيم والأخلاق وعدم الاكتراث بأي مبدأ أخلاقي، وسيادة الابتذال في كل مناحي الحياة، وهذه ما يسميها بالعلمانية الشاملة، فهل هذا حق؟

  إن في هذا تحميل للعلمانية بأوزار ليست مسئولة عنها، إن العلمانية بمعناها "الجزئي" ـ أي فصل الدين عن الدولة ـ كما يوّصفها الدكتور عبد الوهاب المسيري، كانت وما تزال احتياجًا سياسيًا واجتماعيًا، ارتبط بتطور المجتمع الإنساني وظهور الدولة القومية في بداية العصر الحديث، تلك الدولة التي تقوم على أساس رابطة المواطنة وعلى قاعدة المساواة بين أفراد المجتمع بغض النظر عن الدين والعقيدة أو اللون أو الجنس، والعلمانية بهذا المعنى تحاول تجاوز الصراعات الدينية داخل المجتمع، والابتعاد عن نموذج الدولة القائمة على أساس التمييز بين البشر تبعًا للعقيدة الدينية، وهو النمط من الدول الذي ساد في العصور القديمة والوسطى.

  وقد ترتب على الصراع الديني أو الصراع الذي يتخذ الدين ستارًا له، مآسي ومذابح راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر عبر التاريخ باسم الدين وتحت شعاراته، ونذكر هنا ـ على سبيل المثال فقط ـ عشرات الآلاف الذين راحوا ضحايا أثناء الحروب الصليبية بين أوروبا الكاثوليكية والشرق المسلم والأرثوذكسي، وأولئك الذين سقطوا قتلى منذ العصور الوسطى وإلى يومنا هذا، في الصراعات بين البروتستانت والكاثوليك في الغرب، وبين السنة والشيعة في المشرق العربي والعالم الإسلامي، وبين الهندوس والمسلمين في شبه القارة الهندية.

  وهذا لا يعني بالطبع أن الرأسمالية وصراعاتها ـ بعد علمنة كثير من دولها ـ لم تؤد هي الأخرى إلى حروب ومجازر راح ضحيتها الملايين تفوق من سقطوا في حروب العصور الوسطى عددًا، مثلما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكنها حروب المصالح الرأسمالية، وليست حروب العلمانية أو بسبب العلمانية، ومواجهة حروب المصالح والتصدي لها أيسر من مواجهة حروب العقائد، ولا ترجع ضخامة أعداد الضحايا في الحربين العالميتين قياسًا إلى أعدادهم في حروب العصور الوسطى إلى رأفة قلوب المقاتلين الذين خرجوا للحرب تحت شعار الدين، لكن للتقدم التقني الهائل في صناعة أسلحة الدمار الجزئي والشامل خلال القرنين الماضيين، وهي أسلحة لا تتورع القوى التي تحارب باسم الدين عن استخدامها إلا لأنها لا تملكها، وهي تسعى سعيا حسيسًا لامتلاكها، لتمارس طقوسها "المقدسة" في إبادة المختلفين، وأعتقد أن المجتمعات الحديثة التي تقوم على الديمقراطية والعلمانية تمتلك من أدوات الردع الأخلاقية لدعاة الحروب فيها أكثر مما تمتلك المجتمعات التي تقوم على أساس الدين، والتي تعتبر إبادة الآخر المختلف دينيًا جهادًا مقدسًا، فالمجتمعات العلمانية هي التي أفرزت وما زالت تفرز حركات مناهضة الحرب، مناهضة العنصرية، وجماعات الدفاع عن حقوق الإنسان، ومجموعات حماية البيئة، كما أن مقاومة الاتجاهات اللا إنسانية في الرأسمالية في مرحلة العولمة "المتوحشة" بدأت أيضا من المجتمعات الرأسمالية العلمانية، وفي المجتمعات العلمانية نظام قيمي لا يرتبط بالضرورة بالدين، لكن هناك نظام للقيم، فالأخلاق مرتبطة بالفكر الإنساني بنفس قدر ارتباطها بالدين، كما أن الدين بما قدمه من نموذج أخلاقي لم يمنع البشر من خوض حروب الإبادة، بل اتخذه بعض أصحاب المصالح مبررًا وغطاء لعمليات إبادة واسعة عبر العصور.

  وفي كل الأحوال فإن العلمانية لا تحارب الدين ولا تعاديه ولا تجعل من الاصطدام به هما لها، لكنها فقط تسعى لبناء الدولة على أساس يفصل بين الشأن العام الذي ينبغي أن يكون مدنيًا يجمع المواطنين ولا يفرقهم، والمعتقد الخاص الذي يشمل الدين والعقيدة، وهو يرتبط بالحرية الشخصية للأفراد والجماعات، فكل يمارس طقوسه كما يشاء ما دام لا يتعدى على حقوق الآخرين.

 ويجب أن لا ننسى أن الغرب الاستعماري الإمبريالي صنع أهم الدول التي تقوم على أساس الدين في عالمنا المعاصر: السعودية ـ  باكستان ـ إسرائيل، كما صنع ودعم أهم حركات التطرف الديني في العالم الثالث، والتي انقلبت عليه فيما بعد، كل ذلك لدعم مصالحه، وفي المقابل كانت العلمانية دومًا سلاحنا في مواجهة الاستعمار الذي كان يسعى إلى التفرقة بيننا على أساس الدين.

 تبقى نقطة أخيرة تؤكد إصرار الدكتور المسيري على الربط بين العلمانية وقيم الاستغلال الرأسمالي وتنميط الأفراد داخل المجتمع، لقد اعتبر أن هناك مجموعة من الرموز للعلمانية الشاملة تتمثل في: التي شيرت الذي يحمل دعاية للسلع الرأسمالية واختار نموذج تي شيرت اشرب كوكاكولا، والوجبات السريعة واختار الهامبورجر، والسكن في المنازل سابقة التجهيز، وأفلام كارتون توم وجيري، وأفلام الويسترن الأمريكية، ورغم إنني علماني "أب عن جد"، فأنا وبكل فخر أمثل الجيل الثالث من العلمانيين في عائلتي، إلا إنني لم أجد في ملابسي تي شيرت واحد يحمل شعار شركة كوكاكولا، ولم أرتد مثله في حياتي، ربما ارتديت تي شيرتات تحمل رسائل عكسية، مثل شعارات التضامن مع القضية الفلسطينية أو قضايا السلام وحقوق الإنسان، كما أنني لا أشرب الكوكاكولا أصلا منذ عادت إلى مصر بعد إنهاء المقاطعة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كما لا أكل الهامبورجر، فأنا نباتي، بينما كثيرون من المتدينين المعادين للعلمانية يأكلون الهامبورجر ويشربون الكوكاكولا، ولا ولم أسكن في مبنى سابق التجهيز، وأكره كارتون توم وجيري لأني ابن حضارة زراعية تحب القطط وتكره الفئران، وأخيرا فقدت أي رغبة في مشاهدة أفلام الويسترن من أكثر من خمس وثلاثين سنة ولم أعد أستمتع بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...