الجمعة، 18 يوليو 2014


أستاذ الأدباتية وأدباتي الأساتذة ...

عماد أبو غازي

 سقطت القاهرة في القوات البريطانية، ودخلوها يوم 14 سبتمبر 1882، بمباركة السلطان العثماني، خليفة المسلمين عبد الحميد الثاني، وبتواطئ الخديوي توفيق، ذلك اليوم الذي ظل المصريون لسنوات يحيونه كذكرى ليوم أسود في تاريخهم.
  استشهد من استشهد من قادة الثورة العرابية والحركة الوطنية، واستسلم من استسلم منهم، وقبض على من قبض، لكن الأستاذ تمكن من الهرب.
  وكما يقولون: عند الشدائد تظهر معادن الناس... و"أستاذنا" الذي نتحدث عنه امتحن بالشدة وراء الشدة وظل ثابتا على المبدأ مخلصا لأفكاره وقيمه، إنه واحد من أبناء الشعب المصري تجسدت فيه كل القيم الإيجابية في هذا البلد، شارك في صنع الأحداث التاريخية الكبرى في وطننا، وساهم في تكوين الوجدان المصري في القرن التاسع عشر.
 أستاذنا هو عبد الله نديم الكاتب الثائر والأديب المبدع، خطيب الثورة العرابية الذي ألهب حماسة الجماهير بكلماته عن أهداف الثورة وطموحات الشعب.
 
عبد الله نديم

 برز عبد الله نديم كأحد أهم قادة الثورة العرابية من المدنيين منذ تصاعد الأحداث في صيف 1881 حتى هزيمة العرابيين في سبتمبر 1882، ورغم أنه كان عند اشتعال الثورة في السادسة والثلاثين من عمره، إلا أنه احتل مكانة مرموقة بين قادة الثورة، لأنه كان قد اكتسب خبرة كبيرة وحقق شهرة ذائعة من خلال مشاركته في العمل العام.
 ولد عبد الله مصباح إبراهيم الإدريسي الحسني في الإسكندرية في 10 ديسمبر سنة 1845، وفي رواية أخرى سنة 1843، في أسرة متوسطة الحال، وقد لمح أبوه علامات نبوغه فألحقه بمسجد إبراهيم بالإسكندرية ليتلقى العلوم الدينية، لكن الفتى اهتم بفنون الأدب ونبغ فيها، فبرع في الكتابة والشعر والزجل، وتميز النديم في المناظرات المرتجلة واشتهر بروحه الساخرة.
 لم يحترف عبد الله نديم الأدب في بداية حياته العملية لكنه اتجه إلى تعلم صنعه يتعيش بها، فدرس فن التلغراف، وكان قد دخل إلى مصر حديثًا، وعمل النديم في مكتب بنها للتلغراف، ثم انتقل إلى مكتب القصر العالي حيث تسكن الوالدة باشا، أم الخديوي إسماعيل. وكان انتقاله إلى القاهرة بداية لاختلاطه بأعلام الأدب والفن والثقافة في ذلك العصر، فأخذت شهرته تذيع بينهم، إلا أن إقامته لم تطل بالقاهرة، فقد اصطدم بخليل أغا، أغا قصر الوالدة باشا والرجل القوي صاحب النفوذ، فأمر بفصله؛ فرحل عبد الله نديم إلى الدقهلية وأقام بالمنصورة حيث افتتح متجرًا هناك، وخلال إقامته التي لم تستمر طويلًا كان مجلسه مقصدًا لرجال الأدب وطلاب العلم، وبعد تجواله في عدة مدن وقرى بالدلتا عاد إلى الإسكندرية ليستقر بها، وكان ذلك سنة 1876، في فترة صعود الحركة الوطنية.
 لقد ظهر عبد الله نديم على الساحة الأدبية والفكرية في مصر في وقت كانت البلاد تموج فيه بتيارات الإصلاح والتجديد، وكان الشعور الوطني في تصاعد مستمر، خاصة في السنوات الأخيرة من حكم الخديوي إسماعيل حيث سعى الوطنيون المصريون إلى إنقاذ البلاد من عبء الديون الخارجية التي كانت قد أوشكت أن تهدر استقلال مصر، وتشكلت التجمعات السياسية مثل جماعة مصر الفتاة وجماعة حلوان التي عرفت باسم الحزب الوطني، وقد التقى النديم بعناصر من جماعة مصر الفتاة، التي كانت تطرح مشروعًا للإصلاح الوطني والدستوري، وتعد جماعة مصر الفتاة التي ظهرت في سبعينيات القرن التاسع عشر أقدم تشكيل حزبي عرفته مصر في تاريخها الحديث.
 
 

 وظهرت ميول النديم الوطنية وانحيازه للحرية ومناهضته للاستبداد من خلال كتاباته الصحفية وأعماله الأدبية وخطبه التي كان يلقيها في المنتديات العامة؛ ففي تلك المرحلة المهمة من تاريخ مصر والتي شهدت صعودًا للدعوة لسيطرة المصريين على مقدرات بلادهم، بدأ عبد الله نديم الكتابة بانتظام في عدد من الصحف التي أصدرها أديب إسحاق وسليم نقاش.
 

                أديب إسحاق                                             سليم نقاش

 وفي سنة 1879 شارك في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية، وأصبح مديرًا لمدرستها، كما تولى تدريس الإنشاء وعلوم الأدب والخطابة بها، وأنشأ فريقًا للمسرح بالمدرسة وقام أعضاء هذا الفريق من تلاميذ المدرسة بالاشتراك مع النديم بتمثيل بعض أعماله الأدبية الأولى التي ألفها، ومنها "الوطن وطالع التوفيق" و"العرب". ونظرًا للنجاح الذي حققته مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فقد وضعت تحت رعاية الأمير عباس حلمي الذي أصبح خديوي مصر فيما بعد.

 وفي صيف سنة 1881 أصدر الرجل صحيفة أسبوعية أسماها "التنكيت والتبكيت"، انتهجت خطًا وطنيًا واضحًا وأسلوبًا أدبيًا ساخرًا، وكان عبد الله نديم مهمومًا في صحيفته بقضية وحدة الوطن واستنهاض همة أبنائه للارتفاع بشأن البلاد، وقد تواكب صدور الصحيفة مع أحداث الثورة العرابية، فكان من الطبيعي أن ينضم عبد الله نديم إلى صفوف الثورة ويساند أهدافها الوطنية، وقد وجد العرابيون فيه سندًا لهم بكتاباته الوطنية الحماسية، وانتقل النديم إلى القاهرة ليكون في قلب الأحداث، والتقى بأحمد عرابي زعيم الثورة، حيث طلب منه أن تكون صحيفته لسان حال الثورة، بشرط أن يغير اسمها إلى اسم أكثر وقارًا! يلائم عقلية عرابي العسكرية المحافظة؛ فأصدر عبد الله نديم صحيفة "الطائف" من القاهرة لتحل محل "التبكيت والتنكيت" ولتصبح لسان حال الثورة، وخلال أسابيع قليلة أضحت الطائف أهم الصحف المصرية على الإطلاق.
 
 

 استمر عبد الله نديم مخلصا لمبادئ الثورة وأهدافها حتى عندما بدت في الأفق ملامح الهزيمة، وانفض الكثير من رجال الثورة عنها وانتقلوا إلى معسكر الأعداء.

 وبعد الهزيمة، سلم عرابي وبعض زملائه أنفسهم للإنجليز، وتم القبض على من بقى حيا من قادة الثورة ومناصريها لتقديمهم للمحاكمة، أما النديم فقد نجح في الفرار.
 
 
 
 صحفية الأهرام تبشر المصريين بالاحتلال والقبض على عرابي
وللحكاية بقية...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...