الاثنين، 21 يوليو 2014


ورقة مشتركة اشتركت في تقديمها مع الصديق محمد حاكم لحلقة بحثية بمكتبة الإسكندرية، صيف 2006.
 
الخلفية التاريخية لقضايا الحريات الفكرية في مصر

 

عماد أبو غازي و محمد حاكم

 تحاول هذه المداخلة تتبع الخلفية التاريخية لقضايا الحريات الفكرية في مصر، تلك الحريات التي تعد شرطًا من شروط تطور المجتمع المصري في ظل مجتمع المعرفة، إن لم نقل الشرط الأساسي لتحقق هذا التطور ـ إن كان مقدرًا له أن يتحقق ـ باعتبار هذه الحريات مدخلًا لبناء موضع تحتله مصر مستقبلًا في خارطة العالم الجديد.
 ومفهوم الحرية الفكرية وفقًا لهذه الحلقة البحثية يقتصر على ثلاثة مجالات محددة:

·        الحريات الأكاديمية.

·         وحرية البحث العلمي.

·         وحرية الاجتهاد الديني.

 وانطلاقًا من إدراكنا لأن هناك عقبات تقف أمام حرية التفكير في مجتمعنا المصري المعاصر، ومن تصورنا لأن لهذا المعوقات جذور تاريخية، يعود بعضها إلى الماضي القريب بينما يضرب بعضها بجذوره في التربة المصرية لقرون بعيدة إلى الوراء. من هذا المنطلق سنحاول في مداخلتنا البحث عن الجذور التاريخية لمعوقات حرية التفكير في المجتمع المصري، ورغم أن جذور أزمة حرية الفكر بعيدة تاريخيًا في مجتمعنا المصري فإن مقاربتنا ستسعى إلى التركيز على الجذور التاريخية القريبة من خلال التوقف عند بعض القضايا الفارقة والدالة على ما تعرضت له حرية التفكير بأبعادها الثلاثة من معوقات عبر القرنين الماضيين، منطلقين من فرضية ترى أن المجتمع المصري عبر قرنين من الزمان، في سياق نضاله من أجل تحديث المجتمع وتشييد دعائم الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها المختلفة وإرساء قيمها، شهد صراعًا متواصلًا بين دعاة حرية التفكير وحماتها من ناحية في سعيهم لإرساء قيم الحق في الاجتهاد الديني وحرية البحث العلمي والحريات الأكاديمية، وقوى التخلف والجمود من ناحية أخرى، تلك القوى التي سعت دومًا لوضع العراقيل أمام الحريات العامة ومنها حرية التفكير بدعاوى مختلفة في مقدمتها اصطدام هذه الحريات بثوابت المجتمع الدينية والفكرية والأخلاقية والسياسية، وكانت الغلبة عادة لقوى الجمود التي قادتنا لما نحن فيه اليوم من حال بائس لحرية التفكير.

 لقد أصبح إصلاح المؤسسات البحثية والجامعات المصرية ضرورة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، فإذا كنا جميعًا ـ خاصة المشتغلين بالمراكز البحثية والجامعات ـ مدركين لمدى التدهور الذي آلت إليه مؤسساتنا، تدهور الخدمة التعليمية وتدهور البحث العلمي وتدهور الحريات الأكاديمية، وإذا كان هذا الوضع ليس وليد اليوم بل نتاج تراكم المشكلات عبر  سنوات طويلة، فإن أهمية الإصلاح تعاظمت اليوم بسبب الدور الذي ينبغي أن تقوم بها الجامعات والمراكز البحثية في الأخذ بيد مجتمعنا للدخول في عصر المعرفة، وعندما نخطط لإصلاح التعليم والبحث العلمي لابد أن نضع أمام أعيننا جامعات ومراكز بحثية تلائم "مجتمع المعرفة" الذي يعيشه العالم، ذلك المجتمع الذي جعلت فيه "ثورة المعرفة" من "ثروة المعرفة" القوة الفاعلة والمحركة لكل شيء.

  إن ما نحتاج إليه جامعات تمتلك القدرة والمقومات على أن تبني إنسانًا قادرًا على التعامل مع معطيات العصر الجديد، بدلًا من جامعاتنا التي أصبحت مدارس ثانوية كبيرة يأخذ الطلاب فيها دروسًا خصوصية ومجموعات تقوية، جامعات لا تضيف للطلاب معرفة جديدة بل تكتفي بتدريبهم على الإجابة عن الامتحان، جامعات يعلن رؤساؤها في بداية كل عام عن موعد صدور الكتب الدراسية المقررة بدلًا من الإعلان عن تدعيم المكتبات الجامعية بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية، جامعات تسهم في قمع شخصية طلابها وتمحو قدرتهم على الابتكار والمبادرة بدلًا من أن تنمي هذه القدرات فيهم وتدفعهم إلى امتلاك قدرات البحث العلمي السليم. ومراكز بحثية تنشغل بالبحث العلمي الحقيقي وفقًا لبرامج وسياسات بحثية حرة لا تتحكم فيها قيود الدولة والمجتمع، مراكز بحثية تخصص لها موازنات مالية تفي بأغراضها التي أنشئت من أجلها، مراكز بحثية تستخدم ما تمتلكه من أجهزة ومعدات في البحث فعلًا، وليس كديكورات لاستقبال كبار الزائرين، مراكز بحثية جاذبة للباحثين المتميزين لا طاردة لهم.

 وسنحاول في هذه الورقة التوقف عند أحداث متفرقة تبرهن على هذه الفرضية وتكشف عن تعامل المجتمع مع قضية حرية التفكير، أننا نسعى لأن نقدم شهادات من الماضي تثبت مقولتنا.

 في البداية لابد من التأكيد على أن جذور الأزمة بعيدة إلى حد كبير تعود إلى العصر الذي اعتنق فيه المجتمع المصري الديانات التوحيدية، عندما بدأت القوى المتشددة دينيًا داخل المنظومة الفكرية لتلك الديانات تفرض تفسيرات أحادية لها تستبعد الآخر وتنفيه وترفضه وتصادر حقه في التفكير والاجتهاد، سواء الأخر الديني أو الأخر المذهبي على أرضية الدين الواحد، أي حتى لو كان هذا الآخر منتميًا لنفس العقيدة الدينية طالما رفض التطابق مع مقولات تلك القوى، ومن هنا بدأت مصادرة حرية التفكير في مجتمعنا المصري ليدخل سلسلة متوالية من الانتكاسات الفكرية والحضارية تخللتها لحظات إشراق خاطفة. ومن الجدير بالذكر أن تلك القوى كانت تتزاوج مع الاستبداد السياسي في كثير من الأحيان لتتخلق حالة من الجمود تسيطر على المجتمع. إذًا فعمر الأزمة بعيد.

 سنكتفي بمثالين اثنين للتدليل على مسئولية قوى التشدد الديني وعلى الاستخدام السياسي للأصولية الدينية في مصادرة حرية التفكير والتعددية الفكرية منذ عصور تاريخية بعيدة، أو بعبارة أخرى للتدليل على عمق الجذر التاريخي للمصادرة في المجتمع المصري.

 

المثال الأول: ما حدث لهيباتيا السكندرية (370 ؟ ـ 415م) الفيلسوفة وعالمة الرياضيات والفلك الأفلاطونية الفذة ـ بمقاييس عصرها ـ المنتمية إلى مكتبة الإسكندرية في عصر أفولها، والتي تعد اليوم أقدم عالمة فلك معروفة لنا، والتي تعرضت الاضطهاد والقتل والتمثيل على يد رجال دين مسيحيين متشددين لم يقبلوا بحق الاختلاف العقيدي ولم يعترفوا بالحق في البحث العلمي، واعتبروا آرائها العلمية هرطقة تستوجب القتل، فمارسوا بحقها وبحق غيرها من المختلفين مع معتقداتهم الدينية سلوكًا لا يختلف مع ما سبق أن مارسته السلطة الرومانية من اضطهاد مع أسلافهم القريبين من المؤمنين بالمسيحية.

 

المثال الثاني: ما قام به صلاح الدين الأيوبي بعد إسقاطه للخلافة الفاطمية في مصر، واستقرار الأمر له في هذا لبلد حيث أمر بحرق المكتبات ودور الحكمة الفاطمية التي جعلت من القاهرة عاصمة من عواصم الفكر والثقافة والعلم، بدعوى أنها تحوي فكرًا شيعيًا خارجًا على أصول "الإسلام" السني، ويذكر المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي أن حمامات القاهرة العامة ظلت لعشرات السنين تستخدم تلك الكتب وقودًا تشعل به نيران مستوقداتها, فضلا عن إغلاقه للأزهر الذي كان معقلًا من معاقل الدراسة والعلم الديني في ذلك العصر.

 

 إنهما مجرد مثالين فقط من تاريخ طويل من قمع الاختلاف ومصادرة حرية التفكير، الأول جاء فيه القمع من خارج مؤسسة الدولة، من المؤسسة الدينية مستندة إلى غوغائية الجماهير، لأسباب اعتبرها أصحابها حفاظًا على العقيدة، والثاني كانت المصادرة من رأس مؤسسة الحكم، لإغراض سياسية لبست ثوب الدين.

  نحن أمام تاريخ من القيود قيود سلطة الدولة من ناحية، وقيود سلطة المجتمع من ناحية أخرى. تاريخ من تحالف القوى المحافظة سياسيًا وفكريًا ودينيًا تقف ضد حرية التفكير.

 لن نتوقف طويلًا عند الماضي البعيد، سننتقل إلى القرنين الأخيرين، حيث بداية نضال المصريين من أجل الحق في المشاركة السياسية والاستقلال الوطني عبر امتلاك مقومات التحديث، لقد بدأت مصر مرحلة جديدة من تاريخها مع السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر، مرحلة بدأت تتشكل خلالها ملامح وعي جديد، لكن قوى الماضي كانت من القوة بحيث تمكنت من إعاقة التحولات مستندة في كثير من الأحيان إلى الصراعات الدولية التي لم تكن في صالح تحديث المجتمع المصري.

 

 سنتوقف عند عدد من المحطات الدالة أو الفارقة في تاريخ حرية التفكير في مصر لنتتبع نماذج من الاعتداءات على تلك الحريات خلال القرنين الماضيين:

 

الوقفة الأولى تعود إلى عصر محمد علي وتكشف عن موقفه من قضية الحريات الأكاديمية، فقد استوقفنا في الأوامر والمكاتبات التي أصدرها محمد علي باشا خلال سنوات حكمه لمصر، أمران أصدرهما في جماد آخر 1251 هـ (سبتمبر 1835م)، والأمران يرتبطان بنظام التعليم الحديث الذي أدخله محمد علي في مصر ورد فعل القوى المحافظة في المجتمع تجاه المدارس الحديثة التي أنشأها.

 لقد كان التعليم ركن أساسي في مشروع محمد علي لتحديث مصر، فعندما تولى محمد علي حكم مصر سنة 1805 كان التعليم في مصر مرادفًا للتعليم الديني الذي يعتبر الأزهر مؤسسته الكبرى، وكان ما يسمى بدراسة علوم الدنيا قد تراجع وانزوى وما يقدم منه من خلال الأزهر لا علاقة له بما وصلت إليه العلوم الحديثة في الغرب، فترك محمد علي الأزهر "بعبله" وأتجه إلى إرسال طلاب مصريين لدراسة العلوم الحديثة في أوروبا، وإلى إنشاء مدارس حديثة في مصر مثل المهندسخانه ومدرسة الطب ومدرسة المولدات ومدرسة الألسن وغيرها من المدارس، واهتم محمد علي باستقدام الأساتذة الأوروبيين للتدريس في تلك المدارس.

 ولم يتقبل المجتمع التقليدي نظم التعليم الحديثة ببساطة، فتعرضت تلك المدارس للهجوم عليها، وكان الدين سلاحا للهجوم، فماذا كان رد فعل محمد علي؟

 تكشف أوامر محمد علي ومكاتباته عن موقف حازم في مواجهة دعاوى قوى التخلف، والقصة التي تتحدث عنها الأوامر ترتبط بمدرسة الطب التي أنشأها محمد علي سنة 1827 بناء على اقتراح الطبيب الفرنسي كلوت بك رئيس أطباء الجيش المصري، وقد بدأت المدرسة نشاطها في المستشفى العسكري بأبي زعبل واستمرت هناك إلى عام 1837 ثم نقلت إلى قصر العيني.

 وفي عام 1835 علم محمد علي من خلال مطالعته لمحاضر اجتماعات ديوان الجهادية الذي كانت تتبعه المدرسة أن أحد المشايخ الذين كانوا يعملون بالترجمة في مدرسة الطب واسمه الشيخ الهراوي اعترض على بعض ما يدرسه كلوت بك  بالمدرسة من مناهج الطب الحديث بدعوى مخالفته للدين فأصدر محمد علي أمرًا جاء فيه:

 "إنه علم حصول معارضة من الشيخ الهراوي في بعض أمور لا تعنيه، وبالنسبة لعلمه وآدابه لم يقابل بشيء من شوراى الأطباء، ويشير بأن المذكور ليس ممن يجب احترامهم بل من الأشرار المحتاجين للإيقاظ، حتى أن تزويره معلوم من قبل، فيلزم استحضار المذكور والتنبيه عليه مؤكدا بعدم تداخله في شيء خارج عن وظيفته، وبأنه ينفى ويطرد فيما لو حصل إقدام ثانيا على ما يوجب التشكي منه".

 ثم عاد بعد خمسة أيام ليصدر أمرًا أشد لهجة لأنه لاحظ أن المسئولين في الديوان خضعوا لابتزاز الشيخ الهراوي لهم باسم الدين، جاء فيه: "إنه اطلع على المضبطة الصادرة بشأن التقرير المقدم من الشيخ هراوي في حق كلوت بك بخصوص تلامذة مكتب المارستان ـ يقصد مدرسة الطب ـ وعِلم الكيفية، وإن تقرير المذكور من قبيل التزويرات، وبناء عليه يشير بدعوة المذكور إلى ديوان خديوي والتنبيه عليه بعدم تداخله فيما هو خارج عن وظيفته المحولة عليه وهي الترجمة والتصحيح، وإنه إن لم يرتدع يضرب بالنبوت، واستحضار كلوت بك أيضا والتنبيه عليه بمداومته على السعي والاجتهاد في تعليم أولئك التلامذة علم الطب كمرغوبه".

 هكذا كانت القوى المحافظة دائما ضد أي تقدم أو تحديث، وهكذا كان موقف محمد علي، يا ترى أين كنا سنصبح الآن لو خضع محمد علي لخزعبلات الشيخ هراوي وأوقف جهود كلوت بك ومنع دراسة التشريح والعلوم الطبية الحديثة!

 

 والوقفة الثانية تأتي مع إنشاء الجامعة الأهلية، فقد دفعت نشأة الجامعة المصرية بقضايا حرية التفكير إلى مناطق جديدة، حيث تأسست سلطة علمية جديدة أخذت على عاتقها تنفيذ مهام رقابية وتقيدية كانت سابقًا من مهام السلطة السياسية، والأمر الذي يبدو واضحًا في قضية منصور فهمي، فقد كان الرجل من طلبة البعثة الجامعية الأولى، التي أوفدتها الجامعة المصرية (الأهلية) إلى فرنسا منذ عام 1909، وكان بعد ما يقارب أربعة سنوات قد انتهى من إعداد دراسته عن وضع المرأة في الإسلام، إلا أن الجامعة طالبته بعدم تقديمها للمناقشة، ورغم دفاعه عن الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي وحتى حرية الاعتقاد، ورغم حصوله على درجة الامتياز بعدة مناقشة الرسالة إلا أن الجامعة أقدمت على فصله في عام 1913 بعد ستة أشهر فقط من تعينه أستاذ كرسى بها، كانت هذه هى الحادثة الأولى التي اختارت فيها الجامعة الخضوع لمنطق الرأي العام الديني والأخلاقي السائد حتى ولو كان على حساب رسالتها وعلى حساب مبدأها: استقلال الجامعة عن الدولة والمجتمع في آن واحد. ذلك الخضوع الذي سيصبح سمة مؤسسية للجامعة في علاقاتها بمؤسسات الدولة، بما فيها البرلمان، ومؤسسات المجتمع بما فيها الصحافة.

 

 أما الوقفة الثالثة: فمع واحدة من أهم المعارك الفكرية السياسية التي شهدتها مصر في القرن العشرين، والتي تجسد تحالف القوى المحافظة فكريًا مع الاستبداد السياسي، إنها معركة "الإسلام وأصول الحكم" التي فجرها صدور كتاب الشيخ علي عبد الرازق الذي يحمل هذا العنوان، والذي أصدره في أبريل عام 1925،  ليناقش فيه فكرة الخلافة الإسلامية وتطورها عبر التاريخ.

 والشيخ علي عبد الرازق أزهري من أسرة مصرية عريقة، تنتمي إلى محافظة المنيا، لعبت أسرته دورًا مهمًا في الحركة الوطنية المصرية من خلال حزب الأحرار الدستوريين، الذي حمل اللواء الفكري لليبرالية المصرية بعد ثورة 1919 وكان امتدادًا لأفكار حزب الأمة الذي أسسه أحمد لطفي السيد.

 كان علي عبد الرازق في الثلاثينيات من عمره عندما نشر كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، والكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان "الخلافة في الإسلام" تناول فيه طبيعة الخلافة، وحكم الخلافة شرعا، والخلافة من الوجهة الاجتماعية، أما القسم الثاني فيدور حول "الحكومة والإسلام" وقد تناول فيه الشيخ علي عبد الرازق نظام الحكم في عصر النبوة، مميزًا بين الرسالة والحكم، طارحًا فيه فكرته عن الإسلام باعتباره "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، أما القسم الثالث فيتتبع فيه "الخلافة والحكومة في التاريخ".

 والكتاب محاولة جريئة لمناقشة فكرة الخلافة، نشأتها وتطورها بمنهج علمي تاريخي، واجتهاد بالرأي في قضية شائكة تقع بين الدين والسياسة، وقد قدم الشيخ في كتابه عددًا من الأفكار أهمها: أن الخلافة هي نظام دنيوي للحكم مثلها مثل أي نظام آخر، وإن الدين الإسلامي لم ينص عليها بل ترك للمسلمين حرية اختيار النظام الذي يلائمهم، وناقش القائلين بالنص على الخلافة في الكتاب والسنة وفند آراءهم بالأدلة التاريخية والشرعية، وذهب إلى إننا لا نجد فيما وصل إلينا من أخبار من عصر البعثة النبوية شيئا واضحا يمكن أن يوصف بأنه نظام للحكومة النبوية، وينتهي إلى أن الخلافة تاريخيًا ارتبطت بالاستبداد في الحكم، وإن أمرها عبر التاريخ لم يحسم إلا بقوة السيف، كما رفض الفكرة القائلة بأن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على وجود خليفة للمسلمين، وهو قول كان شائعًا بشدة في ذلك الحين بعد إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة سنة 1924، واعتبر علي عبد الرازق أن تحديد الحكومة الصالحة للمسلمين بأنها الخلافة دون سواها وبمفهوم محدد للخلافة يجاوز الواقع والعقل والتاريخ، كما رفض تحويل الرابطة الإسلامية الدينية التي تربط المسلمين ببعضهم إلى رابطة سياسية ينتظم تحتها المسلمون في كيان سياسي واحد، ولم يوافق الشيخ كذلك على الفكرة القائلة بأن الإسلام جعل من العرب وحدة سياسية واحدة، كما اعتبر أن جزءًا كبيرًا من حروب الردة لم يدر إلا لحماية الدولة الجديدة الناشئة والملك الذي تولاه أبو بكر الصديق، وإنها كانت في كثير منها حربًا سياسية حسبها العامة دينية، ويخلص الرجل من دراسته إلى أن السلاطين هم المسئولون عن ترويج الفكرة الشائعة القائلة بأن الخلافة مقام ديني بهدف الحفاظ على عروشهم، وقد توصل علي عبد الرازق إلى هذه النتائج من خلال استعراض لوجهات النظر المختلفة حول الخلافة عبر العصور، ومن خلال البحث التاريخي في الأحداث والوقائع.

 لقد كانت أفكار الشيخ علي عبد الرازق جريئة لكنها مستندة إلى أدلة تاريخية وفقهية من وجهة نظره، وكان من الطبيعي أن تثير نقاشًا واسعًا على الساحتين الدينية والسياسية، لقد تصدى لهذه الأفكار عدد من المشايخ والكتاب بالفكر والبرهان مقابل الفكر والبرهان، وإزاء إصرار الرجل على موقفه وتمسكه برأيه، أطلت على الساحة قوى الظلام ممن لا يملكون الحجة ولا القدرة على النقاش أو الرغبة فيه، ممن ينصبون من أنفسهم أوصياء على عقول الناس، كانت لهؤلاء الغلبة في النهاية، فأصدر مشايخ الأزهر حكمهم بطرد الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، الأمر الذي ترتب عليه فصله من عمله في القضاء الشرعي، وتبع ذلك انهيار الائتلاف الحاكم المكون من حزبي الاتحاد الموالي للملك والأحرار الدستوريين ذي التوجه الليبرالي، حيث رفض وزراء حزب الأحرار قرار رئيس الوزراء بعزل الشيخ علي عبد الرازق من منصبه واستقالوا جميعا من الحكومة احتجاجًا على الاعتداء الصارخ على حرية الفكر والاجتهاد.

 ولا شك أن الظروف السياسية التي صاحبت صدور الكتاب كان لها أثرها في اتساع ساحة المعركة واتخاذها تلك الأبعاد السياسية التي انتهت بسقوط الحكومة، فقد صدر هذا الكتاب في العام التالي لإلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية في تركيا، في ظل شعور إسلامي عام بالغضب، وبأن الإسلام قد فقد ركنًا من أركانه، رغم أن الخلافة الفعلية كانت قد زالت بالفعل منذ مئات السنين، وفي وقت كان ملوك العرب يتطلعون، بل يتنافسون على منصب الخلافة، ومنهم فؤاد الأول الذي كان يحظى بدعم الإنجليز للحصول على هذا المنصب، فأصدر الأزهري الشاب علي عبد الرازق كتابه ملقيًا به حجرًا في مياه راكدة متعفنة، ومدمرًا حلم فؤاد بالحصول على لقب خليفة المسلمين، ومقدما رؤية جريئة لا زلنا في حاجة إليها إلى يومنا هذا.

 

 والوقفة الرابعة: مع طه حسين وحرية البحث العلمي، فقد كانت مشكلة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق سنة 1925  أول اختبار لليبرالية المصرية الناشئة، فيما يتعلق بقدرتها على تقبل مبدأً أساسيًا من مبادئ الفكر الحر، نعني حرية الفكر والاجتهاد والتعبير، ولم يكد يمضي عام حتى تفجرت أزمة جديدة كان بطلها هذه المرة المفكر الشاب والأستاذ الجامعي اللامع الدكتور طه حسين، وكان موضوعها ـ مثل الأزمة الأولى ـ كتاب صغير في حجمه تقل صفحاته عن مائتي صفحة، لكنه كبير في قيمته وسبقه بما حواه من مغامرة فكرية جريئة، كتاب رغم صغره هز الثوابت التي ظل الناس يجترونها جيلًا وراء جيل، إنه كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي صدر عن مطبعة دار الكتب في مارس سنة 1926، ورغم أن الكتاب يتناول قضية بحثية في تاريخ الأدب العربي ليس لها طابع سياسي كقضية الخلافة الإسلامية، إلا أن الضجة التي أعقبت صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين فاقت تلك التي صاحبت صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، ووصلت بصاحب الكتاب إلى المثول أمام النيابة العامة متهمًا، وظهرت الأبعاد السياسية للصراع حول الكتاب سريعًا مثلما ظهرت في قضية الإسلام وأصول الحكم، بالطبع كان هناك أمرًا مشتركًا آخر على المستوى السياسي بين القضيتين، فالبطل في كل منهما كان ينتمي إلى التيار الليبرالي الأصيل في الحركة الوطنية المصرية، تيار الأحرار الدستوريين.

 فما الذي جاء به طه حسين في كتابه من أفكار ساقته إلى النيابة العامة؟ وهل يمكن في أي مجتمع حر أن يؤدي بحث في تاريخ الأدب بصاحبه إلى النيابة ليحاسب على آرائه العلمية محاسبة قضائية بدلا من أن يرد عليه المختلفون معه ردًا علميًا؟

 الكتاب ببساطة يتناول الشعر الذي ينسب إلى عصر ما قبل الإسلام في جزيرة العرب، العصر الذي نسميه عادة العصر الجاهلي، ويشكك في صحة انتساب الكثير من هذا الشعر إلى ذلك العصر.

 ويتكون كتاب "في الشعر الجاهلي" من ثلاثة أقسام، وعبر هذه الأقسام الثلاثة سعى طه حسين إلى أثبات فكرته هذه، فبدأ في القسم الأول بتقديم منهجه في البحث الذي يقوم على الشك، الشك الذي يقود إلى الوصول ليقين علمي، ويؤكد في هذا القسم من الكتاب أنه يرفض التسليم بما قاله القدماء في قضايا الشعر والأدب دون مناقشة وتحليل ونقد، وينتهي إلى إعلان رأيه الذي توصل إليه وهو أن غالبية الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلي يعود إلى عصر ما بعد الإسلام، وفي القسم الثاني من الكتاب يحدد أسباب انتحال الشعر من وجهة نظره ويقسمها إلى أسباب دينية وسياسية وأدبية، أما القسم الثالث فيتناول فيه بعض الشعراء المنسوبين إلى العصر الجاهلي مثل أمرؤ القيس وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وغيرهم محاولا التثبت من كونهم شخصيات تاريخية، أو تحديد التاريخي والأسطوري في سيرهم، وما هو من أشعارهم فعلا إذا كانت لهم أشعار، وما هو منتحل ومنسوب إليهم.

 ويؤكد طه حسين في كتابه أن الأخذ برأي الأغلبية يصلح في السياسة لكنه لا يصح في العلم، ويدلل بمثال بسيط واضح، فقد كانت الكثرة من العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وإن باحث هنا وباحث هناك امتلكوا الجرأة على الشك والبحث فوصلوا إلى الحقيقة وهدموا الوهم والأسطورة.

 لقد أكد طه حسين في التمهيد الذي بدأ به كتابه من أن الكتاب يبحث في تاريخ الشعر العربي بمنهج جديد لم يألفه الناس عندنا، وكان واثقا من أن فريقا من الناس سيلقون هذا الكتاب ساخطين، وفريق آخر سيزورّون عنه ازورارا، وقال: "أنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد"، لكنه لم يتوقع أن يصل الأمر بالساخطين والمزورّين إلى حد الدفع به إلى النيابة العامة.

 وإذا كانت أزمة الإسلام وأصول الحكم قد انتهت بعزل الشيخ علي عبد الرازق من القضاء الشرعي واستقالة وزراء حزب الأحرار من الحكومة، فإن أزمة "في الشعر الجاهلي" انتهت بحفظ التحقيق الذي أجرته النيابة العامة وصدور طبعة معدلة من الكتاب تحمل عنوان "في الأدب الجاهلي"، حذف منها طه حسين بعض العبارات التي استفزت التيارات المحافظة، لكنه تمسك فيها بمنهجه في التعامل مع الشعر الجاهلي

 وقد كشفت تلك الأزمات المبكرة في الحقبة الليبرالية في مصر عن عدة جوانب مهمة، أولها ضيق المجتمع بالجديد والجريء من الأفكار، وثانيها التأثير السلبي للصراعات السياسية على حرية الفكر والتعبير، واستغلال القوى السياسية الرجعية للمزاج المحافظ للشارع المصري في صراعاتها، وخضوع القوى التي ينتظر منها الدفاع عن حرية الرأي لابتزاز صندوق الانتخابات، فحزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية والذي يفترض فيه الدفاع عن قضايا حرية الرأي والتعبير، تخاذل في مواقفه خوفًا من تأثير أي موقف إيجابي يتخذه على نتائجه في الانتخابات، أما ثالث هذه الجوانب التي كشفت عنها قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" فكانت مدى هشاشة حرية البحث العلمي في الجامعة المصرية الوليدة، وسهولة مصادرة هذه الحرية بتحريض من الرأي العام المحافظ، وهي أعراض مازلنا نعاني منها إلى يومنا هذا، وهو ما سنعود إليه لاحقًا.

 

 أما الوقفة الخامسة فمع التدخل السياسي للدولة في الجامعة، لقد بدأ التدخل السياسي من الدولة في الجامعة مبكرًا، ففي ظل الانقلاب الدستوري الذي قاده إسماعيل باشا صدقي في الفترة من 1930 إلى 1933 وقعت أول أزمة سياسية في الجامعة كان الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب حينذاك ضحيتها، فقد كانت للرجل مواقفه المؤيدة للديمقراطية والمعادية للديكتاتورية، وكان يحترم القيم الجامعية ولا يتهاون فيها، وعندما رفض الأوامر الحكومية بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، كان رد الحكومة عزله من عمادة كلية الآداب ونقله بعيدًا عن الجامعة ليعمل موظفا بوزارة المعارف، لكن لأن قيم الليبرالية كانت راسخة جاء رد الفعل قويا، لقد استقال مدير الجامعة أحمد لطفي السيد باشا من منصبه احتجاجًا على تجاوز الحكومة لحدودها وتعديها على استقلال الجامعة، وقرر المثقفون تنصيب طه حسين عميدا للأدب العربي ردا على عزل الحكومة له من عمادة كلية الآداب، ولم تمض سنوات قليلة إلا وكانت الحركة الوطنية قد نجحت في إسقاط  حكومة صدقي ومن بعدها حكومة توفيق نسيم، وعاد دستور 23 الديمقراطي، وعاد طه حسين إلى الجامعة محمولا على الأعناق.

 لقد مرت الأزمة السياسية الأولى في الجامعة المصرية بسلام، لكن الأمر تفاقم مع وصول حركة الضباط الأحرار إلى السلطة وظهور مصطلح "التطهير" في حياتنا المصرية، وقد بلغت المأساة ذروتها فيما يعرف بأزمة  مارس 1954 التي قرر فيها قادة حركة الضباط الأحرار عزل رئيس الحركة اللواء محمد نجيب والتراجع عن خيار الديمقراطية، وأصابت الجامعة مع مؤسسات أخرى كارثة التطهير، وتم استبعاد مجموعة من خيرة الأساتذة بعيدًا عن الجامعة بسبب مواقفهم السياسية المعارضة للنظام الجديد، ومن يومها أصبح التطهير سيفًا مسلطًا على رقبة الجامعة، واختفت حرية الفكر والتعبير في مؤسسة عملها هو الفكر، فتراجع بالتبعية النشاط الأكاديمي والبحث العلمي، وتراجعت المشاركة في الإدارة واتخاذ القرار إلى أدنى الحدود، فبدأ انهيار الجامعة، ولم يكن ما حدث في 1954 أمرًا وانتهى بل أصبح منهجًا في تعامل نظام يوليو مع الجامعة، حتى عندما جاء الرئيس السادات بخطاب سياسي مغاير إلى حد ما في قضايا الديمقراطية والتعددية لم تسلم الجامعة من عدوان الدولة عليها وعلى حريتها، فانتهى عصر السادات وهناك أكثر من مئة أستاذ جامعي من خيرة العقول الأكاديمية مبعدين عن الجامعات إلى وزارة الإسكان وهيئة التأمينات ووزارة الري وغيرها من المصالح الحكومية، هذا فضلًا عن عشرات من الأساتذة استضافتهم السجون والمعتقلات في أحداث سبتمبر 1981، وكل ذلك بسبب المواقف السياسية والفكرية لهؤلاء الأساتذة، لقد كان تدخل السلطة الطاغي في النشاط السياسي والأكاديمي للطلاب والأساتذة سببًا أساسيًا من أسباب انهيار الجامعات المصرية، كما كان أيضًا سببُا في النمو السرطاني لتيارات الإسلام السياسي في أوساط الطلاب وأعضاء هيئات التدريس على السواء، وهو النمو الذي زاد من الانهيار بسبب معادة هذا التيار للحريات الأكاديمية، إن مصادرة السلطة للحريات السياسية ونمو التيارات "الفاشية" والمتخلفة متلازمان يغذي كل منهما الآخر.

 لكن ماذا نحتاج من أجل إصلاح الجامعة والمراكز البحثية؟

الإصلاح رهين باحترام الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي:

 نعتقد أن أول ما نحتاج إليه هو أن نفتح حوارًا حول الإصلاح بين أعضاء هيئات التدريس والباحثين في المراكز البحثية يشارك فيه من يتلقون ناتج الخدمات الأكاديمية والبحثية، وفي هذا السياق نتصور أن هناك مجموعة من محاور الإصلاح بعضها سياسي والبعض إداري والبعض الثالث أكاديمي، يأتي في مقدمتها احترام الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي.

  لا شك في أن الإصلاح السياسي للأوضاع في الجامعات والمؤسسات البحثية لن يتم إلا بإنهاء تدخل الدولة سياسيًا وأمنيًا في عملها، ولا شك في أن حصانة تلك المؤسسات في مواجهة التدخل السياسي والأمني محور أساسي من محاور إصلاح الجامعة ومؤسسات البحث العلمي، لكن هل تكفي هذه الحصانة لإصلاح الأحوال؟

في الحقيقة يحتاج الأمر فوق ذلك وقبله إلى صيانة الحريات الأكاديمية وحمايتها لتتمكن جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية من النهوض بدورها، فالغاية الأساسية من وراء استقلال الجامعة والمؤسسات البحثية ضمان حرية البحث العلمي وحرية الفكر والتعبير وغيرها من الحريات الأكاديمية اللازمة لازدهار تلك المؤسسات وتطورها، وفي تاريخ الجامعة المصرية لم يأت التعدي على الحريات الأكاديمية من الدولة في أغلب الأحيان، بل أتى من المجتمع وأحيانًا من داخل الجامعة نفسها، لقد وقع الاعتداء الأبرز على الحريات الأكاديمية في تاريخ الجامعة المصرية بعد تحولها إلى جامعة حكومية في عام 1926، وكان من نصيب الدكتور طه حسين عندما نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، فكان ضحية للتعدي على الحريات الأكاديمية مثلما كان ضحية لتدخل الدولة سياسيًا في الجامعة واعتداءها على استقلالها عام 1932، وإذا كان الاستبداد السياسي للدولة الجاني في الحالة الثانية، فإن تخلف المجتمع كان الجاني في قضية كتاب "الشعر الجاهلي"، لقد أثار القضية نائب في البرلمان يتمتع بالجمود الفكري لا يذكر أحد اسمه الآن، وانتهى الأمر بطه حسين متهما أمام النيابة العامة، ولولا سعة أفق وكيل النيابة محمد نور الدين وسيادة الروح الليبرالية في المجتمع لانتهى الأمر بتكفير طه حسين وإبعاده عن الجامعة، ومع ذلك فقد اضطر طه حسين إلى إصدار طبعه معدله من الكتاب بعنوان: "في الأدب الجاهلي"، حذف منها بعض العبارات التي استفزت قوى التخلف في المجتمع، وانتهى الأمر إلى حل وسط فتمت تبرئة طه حسين ليس على أساس من أن حرية البحث العلمي مطلقة لا قيد عليه، بل على أساس أن الرجل لم يقصد ما ذهب إليه منتقدوه مع إقرار غير قاطع بحرية الباحث، وفي نفس الوقت كان التراجع الشكلي لطه حسين عن بعض ما كتبه نوعا من الانحناء أمام عاصفة الفكر المحافظ، خاصة أنه لم يجد دعمًا واضحًا من حزب الأغلبية الشعبية "الوفد المصري" لأن عيون قادة الحزب كانت على صناديق الانتخاب، فلا مانع لديهم من بعض التضحية بمبادئ الليبرالية وبقليل من الحريات لضمان أصوات الجماهير، كانت قضية الشعر الجاهلي نموذجًا مبكرًا لضيق المجتمع بالحريات الأكاديمية، واستعداده للاندفاع خلف الغوغائية الفكرية لمصادرة حرية البحث العلمي في الجامعة، وعكس الحل الوسط الذي انتهت إليه القضية ظلاله على الحياة الأكاديمية في الجامعات المصرية إلى الآن، وحدد مسار الصراع بين أنصار الحرية الفكرية في الجامعة ودعاة الجمود في المجتمع.

 ومع تغول السلطة وتعديها على استقلال الجامعة بعد حركة يوليو 52 تضافرت تعديات الدولة مع اعتداءات قوى التخلف والجمود في المجتمع لتزيد من ضعف الجامعة وانهيار الحريات الأكاديمية فيها، وفي ظل التنافس الدائم بين سلطة يوليو وجماعات الإسلام السياسي على احتكار صفة "المتحدث الرسمي باسم الدين"، لم تجد الدولة غضاضة من التضحية بحرية البحث العلمي تملقًا لجماعات الإسلام السياسي أو أثباتًا لأنها أكثر حرصًا على الدين منهم.

 وبلغت المهزلة مداها مع تدخل أولياء الأمور فيما تدرسه الجامعات، فبين فترة وأخرى تصحو الجامعة على ضجة يثيرها ولي أمر اعتراضًا على نص يدرس في الجامعة، والأمثلة كثيرة يحضرني منها: الاعتراض على تدريس "ألف ليلة وليلة" في الثمانينيات، وعلى تدريس رواية "موسم الهجرة للشمال" للروائي السوداني الكبير الطيب صالح في التسعينيات، بدعوى خروجهما على الآداب العامة، والواقعتان من كلية الآداب بجامعة القاهرة، والضجة التي أثيرت بسبب تدريس رواية "الخبز الحافي" للأديب المغربي محمد شكري بالجامعة الأمريكية، وعلى وضع كتاب "محمد" للمفكر الفرنسي مكسيم رودنسون ضمن قائمة مراجع يطلع عليها الطلبة في نفس الجامعة، وتعكس هذه الظاهرة ضيق هامش الحرية داخل الجامعة يوما بعد يوم، وقد كانت استجابة الجامعة متفاوتة من حالة إلى أخرى لكنها جميعًا أتت في إطار الحل الوسط الذي فرض نفسه منذ أزمة كتاب الشعر الجاهلي.

 وإذا كانت الاعتداءات قد وقعت في هذه الحالات من قوى متخلفة ضيقة الأفق في المجتمع خارج الجامعة، فقد شهدت السنوات الثلاثون الماضية تضخما في نفوذ التيارات السلفية وجماعات الإسلام السياسي بين أعضاء هيئة التدريس داخل الجامعة، ولهذه التيارات والجماعات مواقفها المعلنة المعادية لحرية الفكر والتعبير، وإذا كان تأثير هذا الوجود الكثيف على الحريات الأكاديمية لا يبدو واضحًا في الكليات العلمية، فالأمر خلاف ذلك في الكليات النظرية، وكانت هذه التيارات قاسمًا مشتركًا أعظم في معظم الاعتداءات التي تعرضت لها الحريات الأكاديمية في الجامعات المصرية خلال العقدين الماضيين، خاصة مع وصول أساتذة منهم إلى عضوية لجان الترقيات في الجامعة، وتعتبر قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد في منتصف التسعينات من أشهر حالات التعدي على الحريات الأكاديمية من جانب تلك التيارات لكنها ليست الحالة الوحيدة.

 أصبحت الظاهرة الخطيرة في السنوات الأخيرة اختراق الجامعة بأساتذة ضد الحريات الأكاديمية، وإذا كان استقلال الجامعة عن الدولة أمر حيوي، فلا يقل عنه أهمية حماية حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي ورفض وصاية أية جهة داخل الجامعة أو خارجها على الحريات الأكاديمية، دون ذلك لن يتطور بحث علمي حقيقي في هذا المجتمع.

***********

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...