الاثنين، 21 يوليو 2014


 
وداعا محمد حاكم

نصر أبو زيد

"لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون".

صدق الله العظيم

"وكل في فلك يسبحون" إلا الموت فلا فلك له. إنه لا يميز بين الأفلاك فيغتال من هنا ومن هناك. إنه الفلك الدوار بامتياز. نعلم أن "الموت الحق"، لكننا لا نستطيع أحيانا أن ندرك منطقه ولا أن نتجلى حكمته؛ لأنه يضرب حيث لا نتوقع ويأتيينا من حيث نأمن. هكذا اغتالك الموت يا ولدي، بل صديقي وزميلي، وأنت في زهو شبابك وفي لحظة اشتعال فتيل الفكر في مصباحك، بل في مصباح حياتنا.

 
قلت لي في الهاتف – والمرض يحاول إسكاتك – : إنها "الحرب البيولوجية" ضد "أسرة مصر" وتحيرتُ يا ولدي بين الضحك والبكاء. منعتني قوة صوتك الضاحك من البكاء. نعم كنتَ يا ولدي في قلب الألم تخاف علينا من الألم. أية قوة إنسانية جبارة تلك التي اغتالها الموت. "أسرة مصر" التي كونتَها مع زملاء لك في مطالع الثمانينيات لتستعيد من خلالها الألق الثقافي والفكري للنشاط الطلابي حين كانت كل الظروف تسعى للقضاء على الحركة الطلابية. تلك الأسرة التي شرفتموني بأن أكون رائدها، والتي بدأنا نشاطها الثقافي بالاحتفال بيوم الأرض وخضنا حربا شرسة ضد الإدارة الجامعية، لأن اسم "فلسطين" كان من المحرمات وقتها في الحرم الجامعي.
 
 

احتفلنا بيوم الأرض وغنينا معا قصيدة أمل دنقل "لا تصالح" وثار علينا العميدان: عميد الأمن وعميد الكلية لأننا دُسنا على العصب الحساس، عصب الجُبن وممالأة السلطة. أَوْقَفوا نشاط أسرة مصر، لكن أبناء "أسرة مصر" وأنت على رأسهم واصلوا المسيرة. أنت واصلتها حتى آخر لحظة، لأنك حدثتني عن مشاريعك البحثية، وكلانا يعلم أن المرض كان قد استشرى. كنت تزرع الفَسيلة التي في يدك وأنت تعلم أن قيامتك على وشك القيام. أيها الفلاح، يا ابن الأرض، إنها ثقة الإيمان بأن فَسيلَتَك التي زرعتها وأنت تحتضر ستنمو وتزدهر لتصير شجرة.  

أن ما يجمعنا ليس مجرد ذكريات يا ولدي، فقد باعدت بيننا المسافات والأيام كثيرا، لكنا كنا دائما حين نلتقي ندرك أننا لم نفترق أبدا. هل يمكن أن يفرق بيننا الموت؟ حين أقول "وداعا" أودع الجسد النحيل والنظرة الوادعة والصوت الرقيق إلى حد الهمس. وتبقى قوة الإرادة والإنسانية التي بلا ضفاف والحب الذي زرعته في قلوبنا، والحرص على تنمية الحياة، يبقى كل ذلك حيا؛ فالموت أعجز من أن ينال من هذه القيم.

ها أنا ذا وسط محبيك أحني هامتي أُقَبِّلُك أيها الابن والصديق والزميل.
 
 
 
مرثية الدكتور نصر حامد أبو زيد لمحمد حاكم في التأبين الذي أقامه أصدقاء حاكم بنقابة الصحفيين، وقد قمت بإلقاء الكلمة نيابة عن نصر.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...