الثلاثاء، 27 فبراير 2024

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

عماد أبو غازي

 إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به تمر هذا العام؛ ففي شهر ديسمبر يكون قد مر خمسة وثمانون عامًا على صدور كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر"، وقد أثار الكتاب عند صدوره معارك فكرية واسعة النطاق، كما طرح على العقل المصري أسئلة مهمة، ورغم مرور كل هذه السنوات إلا أن أصداء هذه المعارك ما زالت تتردد إلى يومنا هذا، كما أن الأسئلة التي طرحها الكتاب ما زالت ملحة في حياتنا لم تلق إجابة بعد.



 فمن اللافت للنظر أن الكثير من القضايا التي طرحها طه حسين في كتابه ما زالت مطروحة للنقاش، وبعض المشكلات التي تعرض لها وقدم تصوراته لحلولها عالقة إلى الآن لم تجد لها حلًا، فالكتاب رغم مرور كل هذه السنوات ما زال مثيرًا للنقاش، ليس فقط باعتباره علامة من علامات تاريخ الفكر والثقافة في مصر، بل كذلك لأن القضايا التي طرحها حية إلى الآن.

 لقد استحضرنا الكتاب عند المنعطفات المهمة واللحظات الحرجة في تاريخنا، ففي عام 1992، وفي مواجهة موجة الإرهاب التي شهدتها مصر، صدرت طبعة مصورة عن الطبعة الأولى للكتاب، وفي عام 1996 صدرت طبعة ثانية من الكتاب بمناسبة اقتراب الذكرى الستين لصدور طبعته الأولى، وفي أعقاب ثورة 25 يناير صدرت عدة طبعات للكتاب، وما زالت الطبعات تتوالى.

 واليوم ونحن نتذكر طه حسين بعد خمسين عامًا من رحيله، علينا أن نتوقف عند الكلمات التي ختم بها طه حسين كتابه:

"فإن مصر التي انتصرت على الخطوب، وثبتت للأحداث وظفرت بحقها من أعظم قوة في الأرض في هدوء وأناة وثقة بالنفس وإيمان بالحق، خليقة أن تنتصر على نفسها وتظهر على ما يعترض طريقها من العقاب، وترد إلى نفسها مجدًا قديمًا عظيمًا لم تنسه ولن تنساه".

 ونتساءل: هكذا كان الحلم وكان الأمل، فترى إين نحن منهما بعد مرور خمسة وثمانين عامًا؟

  وعلينا أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة التي طرحها الرجل لكنها لم تجد إجابة شافية إلى الآن، لن نناقش كتاب طه حسين بل نناقش الأسئلة الجوهرية التي طرحها الرجل على معاصريه، لكنها لم تلق إجابة بعد.

أول هذه الأسئلة وأهمها: سؤال المستقبل؛ هل نملك رؤية واضحة للمستقبل؟ هل وضعنا سيناريوهات بديلة لمستقبل هذا الوطن في عالم يموج بالمتغيرات؟

 ربما يمكن أن نعتبر أن كتاب الدكتور طه حسين الذي صدر سنة 1938 "مستقبل الثقافة في مصر" من أقدم الخطط المستقبلية على المستوى القطاعي في مجتمعنا، ورغم أنه لم يكن يشغل موقع المسئولية التنفيذية في ذلك الحين إلا أنه من واقع خبراته الحياتية ورؤيته كمفكر منحاز للتقدم نجح في أن يقدم هذه الخطة المستقبلية التي سعى إلى تنفيذ بعضها عندما تولى منصب وزير المعارف العمومية في حكومة الوفد الأخيرة (12 يناير 1950-27 يناير 1952).

 فماذا عن خططنا المستقبلية منذ ثلاثينيات القرن الماضي؟ وما مدى جديتها؟ وما قدر التزامنا بها؟

السؤال الثاني: سؤال الهُوية، وأظنه سؤال مثير للاستغراب، ففي بلد يمتد تاريخه المكتوب لما يزيد عن خمسة آلاف عام ما زلنا نتساءل حول الهوية!

 وفي مستقبل الثقافة في مصر انطلق طه حسين أيضًا من الماضي ليبني تصوراته للمستقبل، مستقبل الثقافة، التي رأى فيها مدخلًا لمستقبل الوطن؛ لقد بدأ طه حسين كتابه بالبحث في الهُوية، هُوية مصر وانتمائها، ربما كانت الفصول التي تدور حول الهوية هي أكثر ما أثار الجدل والنقاش حول كتاب مستقبل الثقافة في مصر، في حين صدور الكتاب، وإلى الآن، بل حول طه حسين نفسه.

 ناقش طه حسين قضية الهوية في وقت كانت مصر قد انسلخت حديثًا انسلاخًا كاملًا من الإطار العثماني، واستكملت بناء هويتها القومية المصرية بعد ثورة 1919 التي توجت نضالًا ممتدًا من أواخر القرن الثامن عشر، لكن كانت هناك بقايا لمقاومة فكرة القومية المصرية، وكانت هناك تيارات ترفض الجديد وتحاول إعادة مصر إلى زمن سابق، وإذا كان البحث عن الهُوية مفهومًا في تلك الفترة التي كانت مصر تمر فيها بمنعطفٍ تاريخيٍ، فالغريب أن يستمر البحث عن هويتنا بعد مرور كل هذه السنوات، وأن تصبح قضية الهوية محورًا للصراع السياسي والاستقطاب المجتمعي.

ثالث الأسئلة يدور حول الموقف من التراث، هل تراثنا قابل للنقد؟ هل نجحنا أن نعيش عصرنا فكرًا وممارسةً، أم أننا مازلنا رهائن للماضي؟

  لقد كان طه حسين مفكرًا مهمومًا بالمستقبل، مستقبل وطنه، ومستقبل الأجيال الجديدة، ومستقبل الفكر والعلم والثقافة، وهو مثل الكثير من المستقبليين ينطلق إلى المستقبل من دراسة الماضي، وكان ينظر إلى الماضي من زاويتين: الزاوية الأولى الماضي/التاريخ/التراث كحجر عثرة في طريق التقدم بسبب أسلوب تعاملنا معه، وتحويله إلى مقدس غير قابل للنقد والنقض، والزاوية الثانية الماضي/التاريخ/التراث كنقطة انطلاق نحو المستقبل نتعامل معه برؤية نقدية ونأخذ منه بقدر احتياجنا ونبني عليه.

 للأسف ما زلنا نعيش في مجتمع ماضوي تحكم تفكيرنا أفكار الموتى من قبورهم، مجتمع يقدس الماضي ويتركه يتحكم في حاضرنا ومستقبلنا، مجتمعنا يتعارك حول أي ماضٍ ينبغي أن نستلهمه ونجعل منه مرجعية لحياتنا المعاصرة ولمستقبلنا، بدلًا من أن تدور معركتنا حول مستقبل جديد، ما زلنا عالقين في فخ الماضي.

 كيف نواجه العلم الكاذب؟

سؤال رابع طرحه طه حسين وما زلنا في حاجة إلى الإجابة عليه، كان طه حسين يرى في العلم الكاذب شرًا يهدد الأجيال الصاعدة، فقال: "إذا كان هناك شر يجب أن نحمي منه أجيال الشباب فهو هذا العلم الكاذب، الذي يكتفي بظواهر الأشياء ولا يتعمق حقائقها، فلننظر كيف نرد عن أجيال الشباب هذا الشر، وليس إلى ذلك سبيل، إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساس متين."

 هل نجحنا بعد أكثر من ثمانين عامًا أن نتمكن أو نُمكن الأجيال الجديدة من أدوات مواجهة العلم الكاذب؟ أظن أننا في موقف أسوأ مما كان عليه الحال عندما كتب طه حسين عبارته تلك، فقد أتاحت ثورتا المعلومات والاتصالات المجال واسعًا أمام نشر العلم الكاذب من خلال أدوات العصر الجديد.

هل نحن في مجتمع يحترم قيمة العمل؟

  في عام 1938 كان أحد هموم طه حسين الدعوة لاحترام "العمل الصادق النافع"، كان ينادي بضرورة   "أن نأخذ أمورنا بالحزم والجد، وأن نعرض عن الألفاظ التي لا تغني، إلى الأعمال التي تغني، وأن نبدأ في إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساس متين." فهل يحترم مجتمعنا بعد مرور هذه السنوات قيمة العمل؟

 أسئلة التعليم...

 تشكل أسئلة التعليم المحور الأساسي عند طه حسين؛ واللافت للنظر أننا بعد مرور ثمانية عقود على مشروع طه حسين أصبحنا في وضع متراجع في التعليم عما كان عليه الحال زمن صدور الكتاب، فالقسم الأكبر والأهم من كتابه يناقش فيه قضايا التعليم في مصر، وما يعانيه من مشكلات، وما يقترحه من حلول لها، واعتبر أن التعليم يلعب الدور الأكبر في التكوين الفكري والمعرفي للإنسان.

 ويدور فكر طه حسين عن التعليم حول ثلاثة محاور رئيسية، أولها التعليم والهوية القومية، وثانيها دور التعليم في الحفاظ على الديمقراطية والاستقلال الوطني، وثالثها التعليم والعدالة الاجتماعية، ومن خلال هذه الركائز الثلاثة في فكر الرجل نستطيع أن نفهم كل أفكاره حول المستقبل المرجو للتعليم.

 فهل نملك اليوم تعليمًا يسهم في تكوين وعي الأجيال بانتمائهم الوطني؟

 وهل نجحت منظومة التعليم في بناء الديمقراطية وحمايتها؟ وهل لدينا اليوم عدالة اجتماعية في نظامنا التعليمي؟

 هل نجحنا في دمج منظومة التعليم الديني داخل منظومة تعليمية وطنية؟

 وهل نملك جامعات تتمتع بالاستقلال الصحيح كما دعا إليه طه حسين؟ وهل لدينا احترام لحرية البحث العلمي؟ وهل ننفق على التعليم والبحث العلمي ما ينبغي أن ننفقه؟

 أزعم أن الإجابة على كل هذه الأسئلة ليست في صالحنا.

  أسئلة الثقافة

  أما مستقبل الثقافة في مصر الذي يحمل كتاب طه حسين عنوانه فقد رسم له خارطة طريق لصيقة الصلة بمستقبل مصر المستقلة الديمقراطية، إنه مستقبل يرتكز على تكوين المواطن المصري بالتعليم والثقافة؛ ويؤكد طه حسين أن الثقافة ليست محصورة في المدارس والمعاهد، وأن تنظيم شئون التعليم وحده ليس كافيًا من أجل تحقيق المستقبل الذي نرنو إليه للثقافة المصرية، وهو يرى أن العمل الثقافي مسئولية مشتركة بين الدولة والشعب، ينبغي أن تتجه نحو تمكين المثقفين من أن ينتجوا ما يضيف إلى الثقافة المصرية ويجددها، وأن يتعاونوا على تحقيق الصلة بين مصر والثقافات العالمية، ويدعو لتطوير العمل الأهلي في مجال الثقافة ودعمه.

 فكيف يمكن أن نرى حال ثقافتنا في عالم اليوم؟ ما الذي حققناه؟ وما الذي فشلنا في تحقيقه؟ وهل ثقافتنا اليوم بخير؟

مقالي في أخبار الأدب في ملف طه حسين أكتوبر 2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...