الثلاثاء، 6 يونيو 2023

رعاية حلمي... حكاية فنانة توقفت في منتصف الطريق

 

 

رعاية حلمي... حكاية فنانة توقفت في منتصف الطريق

عماد أبو غازي


 تنتمي رعاية حلمي (24 ديسمبر 1923-28 أكتوبر 2014) إلى جيل تفتح على الدنيا في ظلال ثورة 1919، واستفاد كثير من إبناء ذلك الجيل وبناته من منجز الثورة، كان ترتيبها الرابعة من بين سبع شقيقات وشقيقين، ولدت وأمضت طفولتها وصباها وسنوات شبابها الأولى في ضاحية حلوان، والدها محمد حلمي أحمد حلمي درس القانون، والتحق بالعمل بالإدارة القانونية بوزارة المعارف، انخرط منذ شبابه في صفوف الحركة الوطنية المطالبة بالجلاء والدستور، وانضم إلى الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، وكان حريصًا على استكمال كل البنات والأبناء لدراستهم حتى نهاية التعليم العالي، ولم يفرض على أي منهم أو منهن طريق للدراسة؛ اختارت هي دراسة الفنون، فقد تفتحت موهبتها الفنية في الرسم في مرحلة مبكرة، فاتجهت إلى دراسة الفنون والتحقت بمعهد الفنون الجميلة للبنات، في عام 1941، ولحقت بها شقيقتها الأصغر منها مباشرة، الفنانة منحة حلمي.


محمد حلمي أحمد

 في ذلك الزمن كانت قد تغيرت نظرة المجتمع للفن بشكل عام، فبعد أن كانت علاقة الفتاة بالفن قاصرة على بعض الطبقات العليا في المجتمع التي تعلم البنات بعضًا من فنون الموسيقى أو التطريز أو التصوير على أيدي مدرسين خصوصيين بالقصور والبيوت، كنوع من استكمال "الوجاهة" الغربية، أصبح من المقبول أن تدرس الفتاة الفنون في معاهد العلم خاصة مع ظهور مؤسسات تعليمية تُدرّس الفن، لقد كان لإنشاء تلك المعاهد وامتداد إشراف وزارة المعارف عليها أثرًا واضحًا في تقبل الأسرة المصرية لإلحاق بناتها بتلك المعاهد، كما كان لاقتران الفن التشكيلي بالثورة الوطنية (ثورة )1919 من خلال تمثال نهضة مصر وحركة الاكتتاب الشعبي من أجل إقامته أثرًا أيضًا في تغير نظرة المجتمع للفن.

  تأسس في البداية معهد عالي للمعلمات وبه قسم لمعلمات الفنون، ثم مع بداية الأربعينيات تأسس معهد الفنون الجميلة للفتيات، وكانت الدراسة به ثلاث سنوات بعد التوجيهية تحصل الطالبة بعدها على دبلوم الفنون الجميلة، ومن ترغب في التخصص في تدريس الرسم، تستمر لعام رابع، أما من يريدن التخصص في التصوير أو النحت فكان عليها ـن تمكث في الدراسة لعامين إضافيتين، وقد اختارت رعاية حلمي التخصص في النحت.








 وفي أواخر الأربعينيات ارتبطت رعاية حلمي بناقد فني شاب كان قد بدأ يشق طريقه في الكتابة في النقد الفني وتاريخ الفن في بعض الصحف والمجلات، كما صدر له في عام 1949 كتابه الأول "مختار حياته وفنه"، وهو بدر الدين أبو غازي، وتزوجا في صيف عام 1950؛ إذن أنا أكتب عن أمي.




 هذا بعض ما كتبته "فضولية" عن رعاية حلمي وبدر الدين أبو غازي، في مجلة صباح الخير عام 1956 في باب "بيت مصري": "البيت الذي أتسلل إليه هذا الأسبوع في المعادي، إنه بيت الأستاذ بدر الدين أبو غازي، مدير مكتب وكيل وزارة المالية لشئون الضرائب، والزوجة رعاية الله حلمي، خريجة معهد الفنون الجميلة، والمدرسة بمدرسة المنيرة الثانوية للبنات، إنه بيت فن، مصري، عصري، يجمع جمال تنسيقه بين الهدوء، والتفاهم العائلي؛ فالأستاذ بدر الدين رغم تخرجه من كلية الحقوق عام 1941، فإن نفسه كانت تعشق الفن، ولا عجب فإن خاله هو المثال الخالد مختار، وله في الفن بعض المؤلفات.

 كان يهوى النحت والتصوير وقراءة القصص، ويحرص على حضور المعارض الفنية وسماع المحاضرات، فكان يلتقي عادة خلال هذا النشاط بالسيدة رعاية، وهي إذ ذاك لا تزال طالبة بالمعهد العالي للفنون الجميلة، أثناء اشتراكها بإنتاجها في إقامة بعض المعارض، وعن طريق هذه المعارض الفنية عرفا بعضهما، وتوطدت بينهما أواصر الصداقة، فالحب... وتقدم فعلًا بدر الدين لعائلتها، وتزوجها بأسلوب جديد، بلا مهر، ولا شبكة، ولا زيطة فرح، ولا تقاليد عتيقة، بلا شيء من كل هذا، سوى تعاونهما معًا في تأسيس المنزل، وفي الاستمتاع بحياة زوجية هادئة بسيطة في جو فني.

 إذا دخلت هذا البيت ستشاهد الإنتاج الفني للسيدة رعاية، تماثيل وتبلوهات بديعة ولوحات فنية، وتحف عادت بها من جولتها الفنية بين معارض لندن وباريس، التي عادت منها منذ فترة قصيرة، كما ستشاهد أيضًا إنتاج هذا الزواج، زواج التفاهم والفن، والتعاون المشترك، طفلين صغيرين لا تفارق الابتسامة وجهيهما، وهما يمرحان ويضحكان باستمرار.

 وأجمل حجرة في البيت حجرة المكتب المفروشة بالحصير، والمؤثثة بذوق فني مصري بسيط."






 خلال سنوات الأربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات ظلت رعاية حلمي تمارس فن النحت الذي تميزت فيه إلى جانب الرسم والتصوير، تميزت رعاية حلمي كنحاته في فن البورتريه، أما أعمالها في التصوير والرسم، فإلى جانب فن البورتريه، كانت تدور في غالبيتها حول تصوير الطبيعة في المدن المصرية التي زارتها، وتركت أعمالًا تصور مشاهد من أسوان ورأس البر والنيل في القاهرة، كذلك قدمت عددًا من الأعمال في التصميم والزخرفة.




  اتخذت في منتصف الخمسينيات قرارها بالتوقف عن أن تكون فاعلة الحياة الفنية، رغم أنها كانت نحاته ومصورة متميزة، في رأي كل من شاهد أعمالها، ابتعدت عن أضواء العرض في المعارض، واعتزلت النحت والتصوير، وركزت جهدها في عملها الذي أحبته كمدرسة للتربية الفنية في مدرسة المنيرة ثم في المدرسة السنية، لكنها لم تنقطع عن متابعة المعارض والحركة الفنية عمومًا، ودعوة طالباتها لمتابعة المعارض الفنية وزيارة المتاحف، بل والكتابة عن هذه المعارض لطالبتها في مجلة المدرسة التي كانت الطالبات تحررنها، واستمرت في التدريس إلى أن انتقلت في مطلع السبعينيات لتعمل موجهة للتربية الفنية حتى تقاعدت في نهاية عام 1979، بعد وفاة أكبر أبنائها في حادث سير.

أما مع طالباتها في المدرسة السنية، فكان تركيزها إلى جانب تدريس التذوق الفني وتعريفهن بتاريخ الفن، كانت تركز على أعمال الحفر باستخدام الخشب والجلد والطباعة على الورق والنسيج.




 لم يؤثر عملها أبدًا على اهتمامها بنا، الأبناء الثلاثة مختار وأنا ونادية، بقدر ما كانت المرأة العاملة المتفانية في عملها المخلصة له، كانت الأم الحنونة، حضورها في الأسرة دائم، ولمساتها في المنزل واضحة، تعلمنا وتوجهنا بشكل غير مباشر، ترعى اهتماماتنا الصغيرة والكبيرة، كانت تحببنا في الفن وتهتم بما نرسمه وتشجعنا دومًا، وكان يوم عيد بالنسبة لنا عندما تعطينا علبة ألوانها الفلوماستر العريضة التي أتت بها من فرنسا لنرسم بها، فلم يكن هذا النوع من الألوان موجود في مصر وقتها، وكنا نسميها "الألوان السحرية"، في بعض الأحيان تجمع "لوحاتنا" وتنظم لنا بها معرضًا على جدران غرفة من غرف المنزل، وتضع شريطًا على بابها، ثم تدعو أبانا لافتتاح المعرض، وربما يمنحا بعض "اللوحات" جوائز، أو يقرروا اقتنائها، مثلما تقتني الدولة أعمال الفنانين.












 وفي عام 2005 وبعد رحيل شقيقتها منحة حلمي طُلب منها أن تكتب كلمة لكتالوج المعرض الفني لمعرضها بقاعة أفق الملحقة بمتحف "محمد محمود خليل وحرمه"، ورغم أن الكلمة شخصية لكنها تعكس تفكير جيلها، وهذا بعض ما جاء فيها: "جمعني بمنحة مصير واحد وعلاقة مركبة، لم تكن مجرد شقيقتي التي تصغرني مباشرة، فقد كنت أكبر منحة بعامين، كنا في الوسط بين تسعة أشقاء، ولدان وسبع بنات، كان تقارب السن بيني وبينها وسط أسرة كبيرة العدد دافعًا إلى توطد علاقتنا، ثم كان تقارب الميول والاتجاه نحو دراسة الفنون نتيجة لتلك العلاقة الحميمة وسببًا ـ في نفس الوقت ـ لمزيد من تعميق العلاقة، كان اختيارنا للفنون مجالًا لدراستنا العليا في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي نتاج نشأتنا في بيئة أسرية تحترم الفكر والثقافة، كان الأب حريصًا على تعليمنا جميعا التعليم الذي نرغب فيه ويتوافق مع ميولنا، اهتم بتعليم البنات بنفس قدر اهتمامه بتعليم الأولاد، في فترة كان التحاق الفتيات بالتعليم الجامعي في مصر في بداياته الأولى، وكانت الأم تعمل دائمًا على توفير الأجواء الملائمة لنا لنحقق ذواتنا ونتقدم في حياتنا.

 كنا دائمًا ـ- منحة وأنا - مع بعضنا متلاصقتان، ينادوننا دومًا: منحة ورعاية أو رعاية ومنحة، لم نكن نفترق أبدًا، معًا في اللهو في مرحلة الصبا، معًا في الدراسة وفي استلام شهادات التفوق الدراسي حتى المرحلة الثانوية، ثم في المعهد حيث اتجهت منحة لدراسة فن التصوير، واتجهت أنا لدراسة فن النحت، وبعد بعثتها إلى إنجلترا تخصصت في فن الحفر وتميزت فيه دون أن تترك أساسها الأول كمصورة بارعة، استمرت تبدع أعمالها الفنية حتى السنوات الأخيرة من حياتها عندما توقفت عن ممارسة فن الحفر بسبب الحساسية التي أصابتها من التعامل مع الأحماض والمواد الكيميائية التي يتطلبها الإبداع في هذا الفن، وإن واصلت عملها كأستاذة بكلية التربية الفنية تخرج أجيالًا وراء أجيال.

 وفي مرحلة الدراسة تعلمنا على يد مجموعة من الأساتذة المتميزين الذين ساهموا في تكوين فنانات جيلنا، كان ممن درسن لنا: مارجريت نخلة ومدام عياد ومدام راينر وكوكب يوسف وزينب عبده.

 على مر الأيام جمعت بيننا جولتنا المشتركة في المعارض والندوات الثقافية والفنية، التي كانت تذخر بها الحياة المصرية في الأربعينات، كانت حواراتنا حول المعارض التي نزورها وحول الفن وقضاياه، حتى عندما تزوجنا، كان اختيارنا لشخصين متشابهين في كثير من الصفات، اخترت أنا بدر الدين أبو غازي ناقدًا تشكيليًا شابًا دارسًا للقانون، واختارت هي عبد الغفار خلاف طبيبًا شابًا وهب حياته لخدمة الفقراء والدفاع عن قضاياهم، كانا متشابهين في الطموح الشديد كل في تخصصه ومجاله الوظيفي، إلى جانب اهتمام بالثقافة والفن والأدب، ومشاركة فاعلة في العمل العام، وتميزا إنسانيًا باحترام شديد للحياة الأسرية وللزوجة ولعملها، وعرفنا معهما مساندة دائمة لنا."


 في سنواتها الأخيرة عادت مرة أخرى للرسم والزخرفة على نطاق ضيق في المنزل، كانت موهبتها ما زلت حية ونابضة.













مجموعة من أعمال رعاية حلمي في مراحل مختلفة

 كما اهتمت بإعادة صب ما تبقى من أعمالها النحتية للحفاظ عليها للأبناء والأحفاد، الذين أورثت واحدة منهم الموهبة.


الحفيدة مريم أبو غازي

هناك تعليقان (2):

  1. توثيق رائع، وأمر يدعو للفخر بمصر ونسائها وأجواء التعليم والثقافة بها ، أعجبني الكشف التدريجي عن كون الفنانة هي والدتك، " إذن أنا أكتب عن أمي " أنتظر المزيد. صفاء الليثي

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...