السبت، 23 أغسطس 2014


"النحاس ولو كره بعض الناس"

عماد أبو غازي

 23 أغسطس تمر ذكرى رحيل الزعيمين الكبيرين سعد زغلول ومصطفى النحاس، هذا العام يصادف الذكرى السابعة والثمانين لرحيل سعد، والذكرى التاسعة والأربعين لرحيل مصطفى النحاس.


 سعد والنحاس
 
 ومصطفى النحاس زعيم وطني يستحق أن يكون له تمثال في أهم ميادين القاهرة تخليدًا للقيم التي عاش وكافح من أجلها، واعتذارًا لهذا الرجل الذي تم تشويه تاريخه وحجب اسمه بعد انقلاب يوليو إلا إذا ذكر مقرونًا بالأكاذيب التي تشكك في وطنيته وإخلاصه، وقد حصل بالفعل الدكتور عبد المحسن حمودة أحد رجال الطليعة الوفدية وأحد أبناء مصطفى النحاس المخلصين على حكم نهائي من مجلس الدولة يلزم الحكومة بإقامة تمثال للنحاس باشا في ميدان التحرير لكن الحكم لم ينفذ حتى الآن.
 ينتمي مصطفى النحاس إلى الرعيل الأول من مؤسسي الوفد المصري الذين انضموا إلى سعد زغلول، وكان الوفد عندما تأسس يضم خليطًا من السياسيين من اتجاهات مختلفة يمثلون أطياف الخريطة السياسية المصرية التي تشكلت في السنوات الأولى من القرن العشرين، بعضهم كان ينتمي إلى حزب الأمة أو إلى التيار السياسي الذي يمثله ذلك الحزب الذي أسسه أحمد لطفي السيد، وفي مقدمة هؤلاء سعد زغلول نفسه، وبعضهم كان ينتمي إلى الحزب الوطني، حزب مصطفى كامل، أو يتعاطف معه، ومنهم كان مصطفى النحاس، الذي أصبح بسرعة من أقرب المقربين إلى الزعيم سعد زغلول، ونفي معه، وأصبح سكرتيرًا عامًا للوفد المصري.


 مصطفى النحاس في شبابه
 
 
 سعد والنحاس في المنفى بجزيرة سيشل
 شارك مصطفى النحاس في أول حكومة وفدية تشكلت بناء على نتيجة أول انتخابات برلمانية أجريت على أساس دستور 1923، وقد تشكلت هذه الحكومة في 28 يناير 1924 برئاسة سعد زغلول، وتولى مصطفى النحاس فيها وزارة المواصلات، لكن تلك الوزارة لم تكمل العام واستقالت في نوفمبر 1924 احتجاجًا على العقوبات التي فرضتها بريطانيا على مصر بعد اغتيال السردار لي ستاك.
 وبعد فشل الانقلاب الدستوري الأول الذي قاده زيور باشا تنفيذًا لإرادة الملك، تشكلت حكومة إئتلافية بين الوفد والأحرار الدستوريين، وأصبح مصطفى النحاس وكيلًا لمجلس النواب، وبعد وفاة سعد زغلول في 23 أغسطس 1927 انتخب الوفد مصطفى النحاس رئيسًا له في 23 سبتمبر وأقر الانتخاب رسميًا في اجتماع الهيئة البرلمانية الوفدية في 26 سبتمبر، وحل محله في سكرتارية الوفد مكرم عبيد، ومن يومها حمل مصطفى النحاس راية النضال الوطني والديمقراطي زعيمًا لحزب الأغلبية في ظروف حصار مستمر للحياة النيابية على يد الملك المستبد والسفارة البريطانية.


 بعد أقل من ستة أشهر شكل النحاس باشا أول وزارة برئاسته، كانت وزارة إئتلافية امتدادًا للإئتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين الذي بدأ بوزارة عدلي باشا يكن سنة 1926، شكل النحاس الوزارة في 16 مارس 1928، وفي خطابه إلى الملك فؤاد الذي يعلن فيه قبول تشكيل الوزارة قال أنه يستمد قوته من ثقة ممثلو الأمة وتأييدهم، وتشجيع الرأي العام، وأكد على أن ارتباط الأمة بالملك رهنًا بصيانته للدستور وتمكين تقاليده، لكن حكومة النحاس لم تدم طويلًا، فبعد ثلاثة شهور نفذ الملك فؤاد انقلابه الدستوري الثاني وعطل العمل بالدستور، مستعينا بمحمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين.
 
  النحاس والملك فؤاد
 وخلال الفترة من مارس 1928 إلى يناير 1952 تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزارة سبع مرات، منها مرتان في عهد فؤاد ثم مرة في ظل مجلس الوصاية على فاروق وأربع مرات في عهد فاروق، لكن مجموع ما قضاه النحاس في الحكم لا يتجاوز سبع سنوات وعدة أسابيع قليلة، فعادة ما كان حكمه ينتهي بانقلاب دستوري يدبره الملك بمباركة الإنجليز، وفي الوزارة الأخيرة التي أقالها فاروق في 27 يناير 1952، كانت مؤامرة حريق القاهرة المبرر لإقالة الوزارة.
 لكن لماذا ينبغي أن نقيم تمثال لمصطفى النحاس؟

النحاس مع العقاد وطه حسين
 
 لقد كان مصطفى النحاس تاريخًا من النضال من أجل مصر، دستورها واستقلالها، ومن المواقف التي تكشف عن احترام النحاس باشا للدستور ودفاعه عنه، موقفه في وزارته الثانية، فعندما تبين بوضوح أن الملك فؤاد لا يحترم دستور البلاد ويسعى باستمرار لخرقه المرة بعد المرة، سعت حكومة النحاس باشا الثانية التي تشكلت في أول يناير 1930 بعد انتخابات برلمانية نزيهة أجرتها حكومة عدلي باشا يكن الانتقالية وجاءت ببرلمان بأغلبية وفدية كاسحة إلى وضع الضمانات لصيانة الدستور، الأمر الذي أكده النحاس باشا في خطاب قبول تشكيل الوزارة حيث قال:
 "ستتقدم الوزارة ببرنامجها إلى البرلمان جاعلة من أغراضها الأولى العمل على تثبيت قواعد الدستور وصون نصوصه وأحكامه والسير بالبلاد في طريق الإصلاح بجميع نواحيه..."
 وأعدت وزارة النحاس مشروع قانون محاكمة الوزراء تمهيدًا لتقديمه للبرلمان، وتضمن المشروع نصوص تقضي بمحاكمة الوزراء الذين يقدمون على قلب دستور الدولة أو حذف حكم من أحكامه أو تغييره أو تعديله بغير الطريقة التي رسمها الدستور، أو مخالفة حكم من أحكامه الجوهرية، كما نص مشروع القانون كذلك على محاكمة الوزراء الذين يبددون أموال الدولة العامة، إلا أن الملك رفض توقيع مرسوم إحالة مشروع القانون إلى البرلمان، وزاد على ذلك أن تدخل في أعمال الوزارة فيما يتعلق بترشيح أسماء أعضاء مجلس الشيوخ المعينين منتهكًا بذلك الدستور، فما كان من النحاس باشا إلا أن اتخذ موقف الدفاع عن الدستور ومبادئه، فقدم استقالة وزارته، وقال في خطاب الاستقالة:
 "أرفع إلى سدتكم العلية استقالتي وزملائي من الوزارة نظرا لعدم تمكننا من تنفيذ برنامجنا الذي قطعنا العهد على أنفسنا بتنفيذه"...
 واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب الذي يستمد منه الشرعية ليعلن استقالته ويحدد أسبابها قائلًا:
 "عندما تولت الوزارة الحاضرة الحكم قطعت على نفسها عهًدا أن تصون أحكام الدستور وأن تحوطه بسياج من التشريع يكفل له حياة متصلة ونموًا مطردًا... لكن الوزارة لم تتمكن من أن تقدم إلى البرلمان هذا التشريع الذي تقضي به المادة 68 من الدستور، لذلك رأت من واجبها أن ترفع استقالتها إلى السدة الملكية..."
 قبل الملك الاستقالة في 19 يونيو 1930 أي أن الحكومة لم تكمل ستة أشهر، لقد قدم النحاس نموذجًا لرئيس الوزراء الذي يعتبر أنه مسئول أمام الشعب ممثلًا في البرلمان المنتخب انتخابًا ديمقراطيًا وليس مسئولًا أمام الملك الذي يصدر مرسوم تعيينه ومرسوم إقالته، إن حكومته هي حكومة الشعب وليست حكومة الملك، تحترم الدستور الذي ارتضاه المصريون لأنفسهم ولا تحترم إرادة الملك المستبد الذي يسعى إلى الإطاحة بالدستور.
 لقد أتى فؤاد بإسماعيل صدقي عدو الشعب رئيسًا للوزراء فعطل البرلمان وألغى دستور 1923 ليحل محله دستور جديد يسحب سلطات الأمة ويعطيها للملك، إنه دستور 1930 الذي رفضه الشعب بكل فئاته وطوائفه.
 فماذا كان موقف مصطفى النحاس زعيم الأغلبية وزعيم الأمة؟
 كان رده الخروج إلى الشارع للتصدي للانقلاب الدستوري ولديكتاتورية صدقي، جسد المعنى الحقيقي للزعامة، لم يقبع الرجل في مقر حزبه ويكتفي بخطب في الغرف المغلقة أو مقالات في الصحف، بل قدم النموذج للزعيم الذي ينزل إلى الشارع يختلط بالجماهير يقودها بالفعل معرضًا حياته للخطر، بدأ النحاس باشا جولة في الأقاليم لحشد الجماهير ضد عدوان الملك ورئيس الوزراء صدقي باشا على الدستور، توجه إلى الزقازيق ليخطب في مؤتمر جماهيري بمحلج يملكه القطب الوفدي عبد العزيز بك رضوان، لم يتعال باعتباره رئيسًا لحزب ورئيسًا للوزراء، بل اجتماع بجماهيره في محلج قطن في مره، ونام ليله على دكه في رصيف محطة القطار في مره أخرى، وفتح صدره للرصاص مرات ومرات دون أن يهاب طغيان السلطة، أينما حل كان قوة دافعه للجماهير يحشدها من حوله، ويجمعها في مواجهة الاعتداء على حقوقها وعلى دستورها، عندما أحست حكومة إسماعيل صدقي بقوة النحاس باشا وخطورة حركته بين الجماهير وعجز قوات البوليس على التصدي لها، دفعت بالجيش إلى ساحة المواجهة.

 وفي المنصورة في الثامن من يوليو سنة 1930 احتشد الآلاف لاستقبال مصطفى النحاس، ودفعت الحكومة بقوة من الجيش قوامها ثلاثة آلاف جندي للتصدي للجماهير، وأطلق الجنود النار في الهواء في شارع البحر، وهددوا بالضرب في المليان ما لم تنفض الجموع، لكن الحشود تزايدت، وعربة النحاس باشا واصلت طريقها وسط الجماهير، فما كان من الجنود إلا أن هاجموا الجموع بسناكي بنادقهم، بل هجم أحدهم على النحاس باشا يطعنه بالسونكي، فتلقى سنيوت بك حنا الطعنة عنه وأصيب بجرح بالغ في ذراعه، واستشهد أربعة من الأهالي وقتل ثلاثة من رجال الجيش والبوليس وجرح 145 مواطنا، وكافأت السرايا والحكومة ضابط نكره باع ضميره بترقيته إلى رتبة اللواء استثناء، في الوقت الذي أحالت فيه الصاغ محمد أمين إلى الاستيداع عقابا له على رفضه استخدام القوة مع الأهالي، رغم عنف السلطة وطغيانها استمرت المقاومة واستمر النحاس باشا في وسط الجماهير، إلى أن سقطت وزارة صدقي ومن بعدها سقطت وزارتا عبد الفتاح يحيي وتوفيق نسيم، وعاد الدستور وعاد مصطفى النحاس إلى الحكم مرة أخرى بعد انتخابات ديمقراطية نزيهة.
 وللقصة بقية...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...