قصة
تنازل المماليك عن جزيرة قبرص
عماد
أبو غازي
فى
القرن الخامس عشر الميلادى كانت مصر تتعرض لأخطار خارجية متعاظمة، كما كان إقتصادها
يعاني من أزمة طويلة ممتدة، كان المماليك الجراكسة يحكمون مصر منذ أواخر القرن
الرابع عشر الميلادي، عندما أستولى الأمير سيف الدين برقوق بن أنص على الحكم وأصبح
سلطانًا للبلاد، وقد حاول برقوق بعد أن أصبح سلطانًا إعادة تنظيم أمور البلاد
لإخراجها من حالة الفوضى والإضطراب التى سادت في أواخر عصر سلاطين أسرة قلاوون؛ فقد
تولى بعض هؤلاء السلاطين الحكم وهم أطفال صغار، وعاشت البلاد في ظل حكمهم صراعات طاحنة
بين الأمراء، أنتهت بها إلى حالة من الفوضى والإضطراب.
لكن
هل نجحت جهود السلطان برقوق في إعادة الإستقرار إلى سلطنة المماليك؟
رغم أن
جهود برقوق قد أعادت إلى مصر بعض الإستقرار والحيوية، إلا أن الأحوال سرعان ما
تدهورت مرة أخرى وبسرعة، فتعرضت دولة المماليك لموجه جديدة من الهجمات التترية
بقيادة تيمور لنك الذي نجح في إحتلال جزء كبير من الشام، كما مرت البلاد بمجاعة
طاحنة بسبب القحط ونقص الفيضان تضافرت تلك المجاعة مع الفساد السياسي والإداري
والمالي، فأدخلت المجتمع في أزمة شاملة لا فكاك منها أستمرت حتى سقطت دولة المماليك
الجراكسة على يد العثمانيين.
وإذا
كان المماليك قد نجحوا في هزيمة تيمور لنك وتحرير الشام من سيطرته، فإن أخطارًا
جديدة تتابعت على البلاد، فقد دفع التنافس التجاري بين الشرق والغرب الأوروبيين
إلى تصعيد غاراتهم على الموانئ المصرية والسورية لضرب سيطرة المماليك على تجارة
الشرق، وكانت رودس بفرسانها وقبرص بأسرتها الحاكمة الفرنسية الأصل والتي تدعي
ملكية بيت المقدس، هما مكمن الخطر على السواحل المصرية والشامية، وقد تلقى
المحاربون والقراصنة فى رودس وقبرص دعمًا ماديًا ومعنويًا من فرنسا والبابوية في
روما.
ولم
يكن لمصر حلفاء في أوروبا سوى جمهورية البندقية (فينسيا) التي كانت تربطها بمصر
علاقات وثيقة، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، لقد قام حلف تجاري بين مصر
والبندقية حيث سيطرت الدولتان معًا على طرق تجارة الشرق، وتحكمتا في جزء كبير من
التجارة الدولية، ولم تستطع كل محاولات الدول الأوروبية المعادية لسلطنة المماليك فصم
عرى هذا التحالف.
ظلت
قبرص هي مصدر القلق الأساسي لسلاطين مصر، فقد كان حكامها يعتبرون مصر العدو الأساسي
لهم، وعندما إزدادت إعتداءات القبارصة على السواحل المصرية والسورية، قرر سلطان
مصر الأشرف برسباي إستئصال الخطر من جذوره؛ فقامت أساطيل المماليك بحملة بحرية على
جزيرة قبرص إنتهت بالإستيلاء على الجزيرة في عام 1426 ميلادية وأسر ملكها يانوس
وفرض الجزية عليه، ورغم خضوع حكام قبرص للسيادة المصرية، فقد ظل الأمل يراودهم في
التخلص من سيطرة المماليك، ولم يجد القبارصة قوة أوروبية يمكن أن تساندهم سوى
البندقية، فتوجهوا إليها طلبًا للدعم المالي لمحاربة مصر، لكن البنادقة رفضوا
التخلي عن حلفائهم المماليك ولم يقدموا لقبرص الدعم المطلوب، واتجه ملوك قبرص إلى
التفكير في إسلوب جديد لكسب تاييد جمهورية البندقية، حيث تزوج جاك لوزينان الثاني
ملك قبرص من نبيلة بندقية، وفي سنة 1469 ميلادية وضع الملك القبرصي جزيرته تحت
حماية البندقية بمقتضى معاهدة سياسية، وبمقتضى ذلك الإتفاق تعهدت جمهورية البندقية
بحماية ملك قبرص ضد أعدائه، لكنها أستثنت منهم سلطان مصر، وبذلك أستمرت سيادة مصر
من الناحية الرسمية على قبرص، فقد أعطت البندقية الأولوية لمصالحها التجارية
الإقتصادية، وقدمتها على الإنتماء الديني.
واستمر
الحال على ذلك لسنوات، لكن سلطنة المماليك في مصر كانت تسير من سيئ إلى أسوأ،
وأوضاعها العسكرية والاقتصادية في تراجع مستمر، وكان ظهور الأتراك العثمانيين على
ساحة الصراع السياسي والعسكري في عالم البحر المتوسط عنصر تحول في موازين القوة في
المنطقة، فقد حقق العثمانيون ما فشل التحالف الأوروبي فيه من قطع طرق إمداد مصر
بالمماليك والأخشاب فأخذت سلطنة المماليك تختنق رويدًا رويدًا، ومن ناحية أخرى أدى
دخول التحالف الأوروبي في حروب متوالية ضد الأتراك العثمانيين، إلى تراجع الهجمات
الأوروبية على مصر، كما أدى أيضًا إلى خفوت المطالب القبرصية بالتخلص من السيادة
المصرية، حيث سعى الجميع إلى إرضاء مصر ليتفرغوا لمواجهة الخطر العثماني.
وفي
أواخر السبعينيات من القرن الخامس عشر طلبت البندقية من أرملة جاك لوزينيان الثاني
ملك قبرص دفع الجزية لسلطان مصر والعمل على إرضائه بكل الوسائل، لكن العقد التاسع من
ذلك القرن شهد تحولات خطيرة في المنطقة، حيث توالت إنتصارات الأتراك في أوروبا من
ناحية، واتجهوا إلى محاربة سلطنة المماليك في مصر والشام من ناحية أخرى، وأعاد
البنادقة حساباتهم في ضؤ الأوضاع الجديدة فقرروا الإستفادة من الصراع المملوكي
العثماني لصالحهم، فوضع البنادقة سيادتهم على قبرص ورفعوا أعلامهم عليها، وأرسلوا
في نفس الوقت سفيرًا لمقابلة سلطان مصر الأشرف قايتباي لتبرير عملهم هذا لديه، وأعطى
دوق البندقية أغسطينوس بارباديجو تعليمات واضحة لسفيره إلى مصر حدد له فيها ما
ينبغي أن يقوله للسلطان، وقد أحتفظ أرشيف فينسيا بهذه التعليمات ضمن وثائقه، وقام
بنشرها وترجمتها إلى العربية المؤرخ الراحل توفيق أسكندر، وتقول التعليمات:
"
إذا سمعت أن عظمة السلطان غاضب مما حدث في قبرص، نأمرك أن تطرق الموضوع بالصورة
والعبارة التي تهديك إليها مهارتك وكياستك، وتوضح له أننا اضطررنا للمحافظة على
الجزيرة، حتى لا تظل دون حاكم وتحت رحمة السلطان التركي عدو عظمة السلطان، أو تحت
رحمة غيره، وقد أمرنا برفع شعارنا وأعلامنا حتى يعرف العالم كله أننا وضعنا قبرص
تحت حمايتنا، عازمين الدفاع عنها ضد أيًا كان، وإذا كانت جلالة ملكة قبرص قد أرادت
بهذا وبكل وسيلة ممكنة حماية الجزيرة ومملكتها من أعداء السلطان المصري، فليس هناك
سبب يبعث على التألم منها أو منا، طالما أن عظمته متأكد تمام التأكيد أن الجزيرة
المذكورة في حراستنا، وفي أيدي أصدقاء لعظمته من أهل السلم، لا في أيدي قراصنة
أعتادوا القرصنة."
وبغض
النظر عن مدى إقتناع السلطان قايتباي بالدوافع والمبررات التي قدمها له بييروديبدو
سفير البندقية إليه، فإنه أدار المعركة الدبلوماسية بحكمة بالغة، فقد كانت مصر في
تلك اللحظات في صراع عسكري عنيف مع الأتراك العثمانيين، ولا تملك القدرة على دفع
جزء من جيشها إلى قبرص لفرض السيطرة عليها مرة أخرى، كما كانت جمهورية البندقية
الحليف التاريخي لمصر في أوروبا، ومن هنا فإن الصدام معها كان سيسبب خسارة فادحة
للمصالح المصرية، فوصل السلطان قايتباي إلى إتفاق يقضي بتنازل مصر عن قبرص مع
إستمرار الأخيرة في دفع جزية سنوية لمصر، وقد تم توقيع المعاهدة في 9 مارس سنة 1490م
، وللأسف فقد نصها العربي، وبقى فقط النص اللاتيني المحفوظ في أرشيف فنيسيا.
تقول
المعاهدة:
"يدفع
إلى خزينة السلطان المعظم مما تدين به قبرص مبلغ أربعة آلاف دوقة، وتدفع جماعة
التجار البنادقة بدمشق لأمر السلطان 6 آلاف دوقة، ويرسل في هذا العام من البندقية
سلع مختلفة بمبلغ ستة آلاف دوقة، ويراجع حساب الدفعات المتأخرة، ويرسل منه في كل عام
دفعة من قبرص مع الدفعة الجديدة، وفي مقابل ذلك يوافق عظمة السلطان على أن دولة
البندقية تؤمن وتحكم بالخير والعدل جزيرة قبرص ومدنها وسكانها وأهلها دون أن تظلم
أحدًا منهم، كما أن السلطان يرغب أن يعطى
الحرية للدولة البندقية إلى الأبد في أن ترسل حكامًا يحكمون ويأمرون في قبرص،
وعملاء حسب المتبع مع الملوك السابقين..."
هكذا انتهى الحكم المصري لقبرص الذي استمر حوالي
65 عاما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق