السبت، 23 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور  ( 4 )

طريق المصريين إلى الدستور

عماد أبو غازي

 نجح نضال المصريين في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر من أجل إرغام الحكام على الالتزام بشروط محددة في إدارتهم لأمور البلاد نجاحًا وقتيًا محدودًا؛ فسرعان ما خرق الحكام عهودهم عندما حانت لهم أول فرصة، بل إن محمد علي باشا تمكن ـ كما رأينا ـ خلال ست سنوات من توليه حكم مصر من أن يتخلص من كل معارضيه وفي مقدمتهم زعماء الحركة الشعبية التي أتت به إلى كرسي الحكم، واكتفى في سنوات حكمه بإصدار سياسة نامة التي تعد بمثابة نظام إداري لدولته، كما أصدر لوائح أخرى تحدد العلاقة بين الدواوين المختلفة واختصاصات نظارها، وسلطات كبار المسئولين، ورغم أن بعض من أرخو للتاريخ الدستوري لمصر يعدون سياسة نامة ضمن الدساتير المصرية، فلا أظن أن سياسة نامة ترقى بأي حال من الأحوال لأن تكون دستورًا للبلاد، فلم تضع قيودًا على سلطة الحاكم، ولا هي نصت على شكل للرقابة الشعبية على أداء السلطات العامة، ولم تحدد حقوقًا لرعايا الباشا الذين ظلوا حتى ذلك الوقت في وضع الرعوية دون المواطنة، كما لم يصدرها محمد علي استجابة لحركة شعبية، إنها مجرد أداة من أدواته في بناء دولته الجديدة، ورغم أن محمد علي كان قد أسس مجلس المشورة سنة 1829 من كبار رجال الدولة ومأموري الأقاليم ومشايخها وأعيانها، إلا أن هذا المجلس لم يشكل بالانتخاب، ولم يستمر عمله طويلًا، ولم تشهد سنوات حكم محمد علي وعباس الأول وسعيد حركات احتجاجية للمطالبة بنظام نيابي أو بدستور، لكن عصر محمد علي شهد تعرف قطاع من النخبة المصرية على التجارب الدستورية الأوروبية من خلال البعثات، وعبر كتابات رفاعة الطهطاوي.


 رفاعة
 لكن كان على المصريين أن ينتظروا حتى ستينيات القرن التاسع عشر لتظهر البوادر الأولى للنظام النيابي، وحتى سبعينيات القرن نفسه ليضعوا دستورهم الأول؛ ففي عام 1866 أصدر الخديوي إسماعيل اللائحة الأساسية لمجلس شورى النواب في ثماني عشرة مادة تحدد اختصاصات المجلس الذي يعد أول مجلس نيابي منتخب في مصر، كما أصدر نظامنامة أو لائحة داخلية تنظم عمل المجلس مؤلفة من إحدى وستين مادة، وتعتبر اللائحة الأساسية تلك بروفة أولى للدساتير المصرية في القرن التاسع عشر.

الخديوي إسماعيل
 وقد نصت اللائحة على أن ينتخب العمد والمشايخ والأعيان أعضاء المجلس لمدة ثلاث سنوات يتمتع الأعضاء خلالها بالحصانة، وكان المجلس يجتمع شهرين كل عام، ورغم أن مجلس شورى النواب كان مجلسًا استشاريًا منتخبًا من الأعيان فقط وليس من عموم المصريين، إلا أنه نجح عبر دوراته التي استمرت وفقًا للائحة الأساسية حتى عام 1879 في المساهمة في بلورة تيار سياسي يطالب بنظام نيابي دستوري حديث، خصوصًا في دورة 1876 ـ 1879، ففي تلك الدورة ظهرت المعارضة قوية في المجلس،  وفي آخر دورات انعقاد المجلس في عهد الخديوي إسماعيل بدأت الأصوات المطالبة بالرقابة البرلمانية على الحكومة، وبوضع دستور حقيقي للبلاد تتعالى، ففي جواب المجلس على خطاب الخديوي إسماعيل في افتتاح الدورة، ذلك الجواب الذي صاغته لجنة مكونة من النواب: محمود بك العطار وعبد السلام بك المويلحي والشيخ عثمان الهرميل والشيخ مصطفى الإنبابي والشيخ محمد كساب والشيخ يوسف أفندي عبد الرازق، وبديني أفندي الشريعي وعبد الشهيد أفندي بطرس والشيخ محمد فرج والشيخ طايع سلامة، استهل النواب ردهم بعبارة: "نحن نواب الأمة المصرية ووكلاؤها، المدافعون عن حقوقها، الطالبون لمصلحتها..."، ثم يصفون مجلس شورى النواب بأنه "أساس المدنية والنظام، وعليه مدار العمران، وهو السبب الموجب لنوال الحرية التي هي منبع التقدم والترقي، وهو الباعث الحقيقي على بث المساواة في الحقوق، التي هي جوهر العدل وروح الإنصاف...".
 وخلال هذه الدورة من دورات المجلس حاول النواب أن يقروا مبدأ الرقابة الكاملة للمجلس على أداء الحكومة، فأصروا على استدعاء النظار لمناقشتهم، خاصة ناظر المالية الذي رفض الامتثال للاستدعاء أكثر من مرة، فاتخذ مجلس قراراته بتخفيض الضرائب في غياب ناظر المالية وأبلغ بها وزارة الداخلية لتنفيذها، وأصر النواب كذلك على مشاركة المجلس في عملية التشريع، فقد أبدى النائبان محمود بك العطار وعبد السلام بك المويلحي اعتراضهما على إغفال المجلس في المرسوم الصادر في يناير 1879 والذي قضى بأن القوانين المتعلقة بالشئون المالية تصدر بعد تقريرها في مجلس النظار والتصديق عليها من الخديوي، وقد رأيا أن هذا يشكل انتقاصًا لسلطات المجلس، فالتشريعات المالية التي تقضي بفرض ضرائب وجبايات جديدة تمس الحياة اليومية للأهالي، وأعضاء المجلس ينوبون عنهم ومناط بهم أمر الدفاع عن مصالح المواطنين، ومن ثم فلابد أن يناقشوا مثل هذه التشريعات.
 إننا إذًا في وضع مشابه للحظة البداية التي بدأ المصريون فيها نضالهم من أجل تقييد سلطة الحاكم في فرض الضرائب سنة 1795، لكننا هذه المرة أمام هيئة نيابية منتخبة تمرس فيها نواب الأمة على الدفاع عن حقوقها.
 خلال عام 1879 تصاعدت الأزمة المالية والتدخل الأجنبي في شئون البلاد متمثلا في فرض الرقابة الثنائية على الاقتصاد المصري من خلال ناظرين أجنبيين في الحكومة المصرية، أحدهما بريطاني والثاني فرنسي، لهما حق الاعتراض على قرارات الحكومة، ويضربا عرض الحائط بالمسائلة البرلمانية، قادت الأزمة المالية البلاد إلى أزمة سياسية ودستورية، فسقطت حكومة نوبار باشا.


نوبار باشا
 وتولى محمد توفيق ولي عهد الخديوي رئاسة مجلس النظار، وحاولت حكومته فض مجلس شورى النواب قبل انتهاء دورته، فذهب رياض باشا ناظر الداخلية حاملًا قرار فض الدورة، ورفض نواب المجلس أن تنفض الدورة دون إكمال المجلس لأعماله، في سابقة ترسخ سلطة نواب الشعب في الرقابة على ممارسات الحكومة.

رياض باشا
 وتشكلت جمعية وطنية من قادة الأمة، ووضعت الجمعية في 2 أبريل سنة 1879 لائحة وطنية رفعتها للخديوي، ووقع عليها 60 من النواب و60 من العلماء ورجال الدين في مقدمتهم شيخ الإسلام وبطريرك الأقباط وحاخام اليهود، و42 من الأعيان والتجار و72 من الموظفين العاملين والمتقاعدين، و93 من ضباط الجيش.
 وتضمنت اللائحة الوطنية أمرين، الأول: مشروع لتسوية مالية لديون مصر الخارجية تضمن سدادها دون إفلاس البلاد وإفقار العباد، والثاني: المطالبة بتعديل نظام مجلس شورى النواب ومنحه السلطة المعترف بها للمجالس النيابية في أوروبا وتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمامه.

 وقد قبل الخديوي إسماعيل اللائحة الوطنية، وعزل ابنه محمد توفيق وكلف شريف باشا بتأليف الحكومة، وأقر في خطاب التكليف بمبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، وبتولي شريف باشا الذي حاز لقب أبو الدستور تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ انتزاع المصريين لحقوقهم الدستورية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...