رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 9 )
حكاية مشروع السير وليم برونيت الذي أسقطته الثورة
بريطانيا العظمى ضد دستور للمصريين
عماد أبو غازي
في الأسابيع الأولى لقيام الحرب العالمية الأولى
وبالتحديد في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1914 وعد الخديوي عباس حلمي المصريين
بمنحهم الدستور، ذلك الوعد الذي لم يتحقق بعد إعلان الحماية البريطانية على مصر
وعزل الخديوي في ديسمبر من نفس العام، ومع إعلان الحرب تعطلت الجمعية التشريعية
وتوقف عملها طوال سنوات الحرب.
معسكرات قوات الحلفاء في الهرم
في 11 نوفمبر سنة 1918 وبعد أربع سنوات بالضبط
من منشور الخديوي عباس حلمي الذي وعد فيه بدستور عصري كامل، أعلنت الهدنة وانتهت
الحرب، وبدأ قادة الأمة يطالبون بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لوفد يمثل مصر
بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، وكان على رأس هؤلاء المطالبين سعد زغلول الوكيل
المنتخب للجمعية التشريعية المعطلة.
من ناحية أخرى كانت بريطانيا تعد العدة لمرحلة
ما بعد الحرب في مصر؛ فقد كان متوقعًا أن تبدأ مطالبة المصريين بإنهاء الحماية
التي زالت مبرراتها بانتهاء الحرب، وأن يطالبوا كذلك بعودة الجمعية التشريعية، بل
وبدستور حقيقي يصون حقوق المواطنين ويحمي حريتهم ويعبر عن طموح المصريين في إدارة
شئونهم بأنفسهم ، ويعكس ما ناضلوا من أجله لأكثر من قرن وربع من الزمان.
بدأت الحكاية في ربيع سنة 1917، عندما قرر مجلس
الوزراء في 24 مارس تشكيل لجنة لوضع مشروع لتعديل البنية القانونية والقضائية
والإدارية في مصر بما يتلائم ووضع مصر الجديد بعد زوال تبعيتها للدولة العلية
العثمانية وخضوعها للحماية البريطانية، مشروعات تضمن تقنين المكاسب التي تحققت
لبريطانيا من الحماية حتى لو انتهت الحماية رسميًا بنهاية الحرب، وكان من بين
أعضاء اللجنة السير وليم برونيت مستشار دار الحماية البريطانية في مصر والمستشار
المالي للحكومة، والرجل الأقوى بين مستشاري الحكومة المصرية جميعًا، وتم تكليف
برونيت بمهمة مقرر تلك اللجنة، التي عرفت باسم لجنة الامتيازات الأجنبية.
السير وليم برونيت؟
انتهت اللجنة من صياغة عدة مشروعات لتغيير
البنية القانونية المصرية، منها قانون العقوبات، وقانون الإجراءات الجنائية الذي
كان يسمى قانون تحقيق الجنايات، وقانون المرافعات، بالإضافة إلى بعض فصول القانون
المدني والقانون التجاري. كما وضعت اللجنة تصورًا لنظام قضائي جديد يدمج القضاء
الوطني في القضاء المختلط الذي كان ينظر في القضايا التي يكون أحد أطرافها أجنبيًا،
وكان الهدف من تغيير النظام القضائي سيادة القضاء المختلط على القضاء الوطني،
وسيطرة القضاة الإنجليزي على المنظومة القضائية بما في ذلك تعيين نائبًا عامًا
إنجليزيًا.
وعندما حاول أعضاء اللجنة الترويج لمشروعاتهم في
الأوساط القانونية والسياسية من خلال طرحها في المنتديات القانونية مثل الجمعية
المصرية الاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء، تصدى لهم الوطنيون المصريون معلنين
رفضهم لها، وكان من أبرز من تصدوا لهذه الهجمة سعد زغلول؛ فاشتبك مع عضو اللجنة
المستر برسيفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية، الذي ألقى محاضرة في الجمعية
يشرح فيها مشروع قانون العقوبات، وقد أكد سعد زغلول في مداخلته على رفض مشروع
القانون الغريب عن المنظومة التشريعية المصرية المستقرة، وعلى ضرورة عودة الجمعية
التشريعية للانعقاد لمباشرة رقابتها على القوانين، وكان لهذه المداخلة أثر بالغ في
إحباط المشروعات البريطانية لتعديل المنظومة القانونية المصرية.
وفي هذا السياق أعد السير وليم برونيت مشروعًا لقانون
نظامي لمصر، أي دستور جديد للبلاد يحدد العلاقة بين السلطات في الدولة؛ ويصف
المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 ذلك المشروع، فيقول:
"وضع السير وليم برونيت مشروع قانون نظامي لمصر، ينزل بها إلى مرتبة
المستعمرات التي يراد جعلها سوقًا لكل من نزل بها من رعايا الدول الأجنبية، ويتلخص
هذا المشروع في إنشاء مجلس نواب مصري، يؤلف من المصريين، ولكنه استشاري محض، ليس
له سلطة قطعية في أمر من الأمور. وبجانبه مجلس شيوخ، يملك وحده السلطة التشريعية،
ولكنه خليط من المصريين والأجانب، يؤلف من أعضاء رسميين، وهم الوزراء المصريون
والمستشارون الإنجليز ومن في مرتبتهم من الموظفين البريطانيين، ثم من أعضاء
منتخبين، ينتخبون بطريقة كثيرة القيود والشروط، منهم 30 مصريًا و15 أجنبيًا، بحيث
تكون الأغلبية فيه للأعضاء الرسميين والأعضاء الأجانب المنتخبين، والأقلية للأعضاء
المصريين المنتخبين، ولو نفذ هذا المشروع لصارت سلطة التشريع في يد شرذمة من
الأجانب، ولصار المصريون في بلادهم غرباء."
لقد كان المشروع محاولة واضحة من بريطانيا
للسيطرة على سلطة التشريع في البلاد، وهي محاولة لها جذور قديمة تعود إلى زمن
اللورد كرومر، فقد سبق له أن دعى في تقريره لسنة 1904 إلى إنشاء مجلس تشريعي
مختلط.
ظل المشروع طي الكتمان إلى أن قدمه برونيت لحسين
باشا رشدي رئيس مجلس الوزراء في منتصف نوفمبر 1918 عقب تحرك الوفد المصري للمطالبة
باستقلال البلاد، ورفض حسين باشا رشدي المشروع ورد عليه ردًا مفحمًا.
رشدي باشا
وقد ظلت السلطات
البريطانية تسعى لتمرير مشروعها الذي كان سيضمن لها سيطرة كاملة على البلاد، لكن أحدًا لم
يكن يتوقع أن تقوم الثورة، ثورة 1919، فتطيح بالحلم البريطاني وتخط صفحة جديدة في
تاريخ النضال الدستوري المصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق