الاثنين، 25 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 6 )

دستور الثورة الضائعة...

 أول دستور للمصريين

عماد أبو غازي

 يعتبر دستور 1882 أول دستور حقيقي يصدر في مصر، كان الدستور ثمرة مباشره لجهد الحركة الوطنية المصرية في سبعينيات القرن التاسع عشر، وجاء الدستور موافقًا إلى حد كبير في روحه ونصوص مواده لمشروع دستور 1879 الذي أنجزته لجنة برلمانية في عهد حكومة شريف باشا، ذلك المشروع الذي أوقفه الخديوي توفيق بعد عزل أبيه إسماعيل ونفيه من البلاد.


 كان مشروع الدستور مكتملًا قبيل عزل الخديوي إسماعيل، لكن خلفه الخديوي توفيق رفض إصدار الدستور أو دعوة البرلمان أو إجراء انتخابات جديدة، رغم أن الحكومة طلبت هذا وأصرت عليه، الأمر الذي دفع رئيس مجلس النظار شريف باشا وأعضاء حكومته إلى تقديم استقالتهم، وكان توفيق بعد أن تولى الحكم في صيف 1879 يسعى إلى التخلص من حكومة شريف باشا بسبب انحيازها للنظام الدستوري، وانتمائها إلى تيار الحركة الوطنية المصرية التي كان انتزاع الدستور قضيتها الأساسية في ذلك الوقت، ومدخلها للوقوف في وجه التدخل الأجنبي في شئون البلاد من خلال برلمان قوي يراقب الحكومة ويمارس التشريع.
 وتولى توفيق رئاسة مجلس النظار بنفسه، واحتفظ باثنين فقط من النظار المنتمين لحكومة شريف باشا هما محمود سامي البارودي ومصطفى فهمي في الوقت الذي أصر فيه باقي النظار على موقفهم رافضين التعاون مع حاكم لا يقبل بالحكم الدستوري، لم يستمر توفيق طويلًا في جمعه بين مقعد الخديوية ورئاسة مجلس النظار حيث كلف رياض باشا المعروف بميوله الاستبدادية برئاسة المجلس، فكل من الرجلين توفيق ورياض متوافقًا مع الآخر في العداء للنظام الدستوري وفي الميل إلى الحكم الاستبدادي.
 أدت سياسة توفيق ورياض إلى مزيد من التأزم والاحتقان في الوضع السياسي العام في البلاد، فقد أعاد الخديوي العمل بنظام الرقابة الثنائية البريطانية الفرنسية على مالية مصر، وقامت الحكومة بملاحقة الوطنيين: فافتتح توفيق عهده بنفي السيد جمال الدين الأفغاني خارج البلاد في أغسطس 1879، ثم توالت الإجراءات ضد قادة الحركة الوطنية وضد الصحافة المعارضة، فتم تجريد الفريق شاهين باشا كينج وزير الحربية السابق من رتبه وألقابه لاتصاله بالحزب الوطني، ومحاكمة السيد حسن موسى العقاد ونفيه إلى أقاصي السودان لاعتراضه على إلغاء قانون المقابلة، وتم تعطيل بعض الصحف الوطنية وإنذار البعض الآخر مثل: مرآة الشرق والتجارة ومصر ومصر الفتاة والإسكندرية والمحروسة وطال الإغلاق صحفًا أوروبية تصدر في مصر مثل الريفورم، كما تم منع عدد من الصحف العربية التي تصدر في الخارج من دخول البلاد، مثل أبو نظارة وأبو صفارة والقاهرة والشرق.


 لقد تأزم الوضع السياسي في مصر، في الوقت الذي زادت فيه الأوضاع الاقتصادية لعموم المصريين ترديًا، وتواكب مع هذا الوضع الاضطهاد الذي تعرض له الضباط الوطنيون في الجيش.
 وتشكل في هذه المرحلة حزبان حملا الدعوة إلى التغيير والإصلاح، الحزب الوطني أو جمعية حلوان وجمعية مصر الفتاة بالإسكندرية، وتبنى الحزبان الدعوة للنظام الدستوري وإطلاق الحريات.
 وعندما تأزمت الأمور مع إصرار توفيق ورياض على سياستهما لم يعد أمام المصريين إلا الثورة، خاصة في ظل غياب المجلس النيابي الذي كان منبرًا للتعبير عن الغضب يحول دون انفجار الأوضاع.


 وبالفعل قامت الثورة العرابية التي وصلت لحظة الذروة في مظاهرة عابدين يوم 9 سبتمبر 1881، وكان في مقدمة مطالبها إقرار نظام دستوري للبلاد، ونجحت الثورة في أن تفرض على الخديوي عزل حكومة رياض باشا وإعادة شريف باشا إلى رئاسة مجلس النظار، وقد أشار شريف باشا في خطابه إلى الخديوي توفيق بقبول تشكيل الحكومة بوضوح إلى أنه سوف يسعى لوضع نظام دستوري يقوم على الفصل بين السلطات الثلاثة، فقد قال في الخطاب: "أبذل الهمة في تنظيم المجالس المحلية ووضع قوانين متناسقة متقنة النظام صريحة الأحكام، وفي تحديد القوى العمومية، أعني القوة المنوط بها وضع القوانين، والقوة القضائية المكلفة بالحكم بموجبها، والقوة التنفيذية، وتعيين خصائص كل قوة منها وحدودها".
 ونفذت حكومة شريف باشا مطالب الأمة في إعادة الحياة النيابية، فرفع شريف باشا إلى الخديوي توفيق تقريرًا في 4 أكتوبر 1881 بهذا الشأن، ثم قامت الحكومة بإجراء الانتخابات على أساس لائحة مجلس شورى النواب القديم، على أن يتحول المجلس المنتخب إلى جمعية تأسيسية تناقش مشروعًا للائحة جديدة هي بمثابة الدستور.
 وبالفعل تم انتخاب المجلس وافتتحه الخديوي في 26 ديسمبر 1881، وفي الثاني من يناير 1882 عرض شريف باشا مشروع القانون الأساسي الجديد على المجلس لدراسته وإجراء ما يراه من تعديلات عليه، وأكد في كلمته على انحياز الحكومة إلى منح المجلس النيابي المنتخب سلطاته الكاملة في الرقابة والتشريع.
 كان دستور 1882 يجمع بين خصائص قانون المجلس النيابي ولائحته الداخلية، لكنه أيضًا كان يضع قواعد النظام السياسي الجديد للبلاد، ورغم أن الدستور لم يشر في مواده إلى حريات المواطنين وحقوقهم ولا لمقومات الدولة الأساسية إلا أنه كان طفره في النظام السياسي المصري بمعايير ذلك العصر، وكان تعبيرًا عن إرادة شعبية لدى المصريين ناضلوا لسنوات من أجل تحقيقها، لقد تمت صياغة الدستور في 53 مادة تنظم أسلوب انتخاب مجلس النواب وتحدد حصانة أعضائه ودورات انعقاده ونظام عمله، وشروط حله والضوابط المنظمة لها، كما قرر الدستور في مواده الدور الرقابي والتشريعي لمجلس النواب بشكل واضح لا يحتمل اللبس، ومنح المجلس حق مسألة الحكومة وأعضائها مجتمعين أو فرادى وحق محاسبتهم، وأقر بمبدأ المسئولية الوزارية التضامنية للحكومة أمام المجلس، كما نص على حق المجلس في مناقشة الميزانية وإقرارها، ونظم أسلوب حل الخلاف بين الحكومة والمجلس في أي أمر من هذه الأمور، وأعطى الدستور للمواطنين حق مخاطبة المجلس بالعرائض وألزمه بدراستها والنظر فيها.

 لكن شريف باشا لم يستمر في الحكم لحين صدور الدستور، فقد اختلف مع القادة العسكريين للثورة حيث كان يرى ضرورة عودة الجيش لثكناته وترك إدارة شئون البلاد السياسية للجناح المدني للثورة، الأمر الذي رفضه عرابي ورفاقه، فاستقال شريف باشا من رئاسة الحكومة وتولاها محمود سامي البارودي باشا. 

محمود سامي البارودي باشا
 وفي ظل وزارته وفي 9 فبراير سنة 1882 نشرت الوقائع المصرية نص دستور 1882 الذي وضعه شريف باشا وقدمه لمجلس النواب لمناقشته وإقراره وأصدره الخديوي توفيق بسراي الإسماعيلية في 7 فبراير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...