الثلاثاء، 19 أبريل 2016

الأمة مصدر السلطات
عماد أبو غازي

"إن الدستور في روحه وفي مجموع نصوصه هو النظام الذي يكفل للشعب حكم نفسه بنفسه بإرادته واختياره، ويكفل لأفراده تمتعهم بحقوقهم الشخصيةوالسياسية، فالدستور هو المرادف للديمقراطية، والحكم المطلق هو قيام حكومات تفرض على الشعب فرضا، وتلجأ لكي تبقى على غير إرادته، إلى إهدار حقوقه وكبت حريته."
عبد الرحمن الرافعي

 في العاشرة والنصف من مساء يوم 19 أبريل سنة 1923 في سراي عابدين وقع الملك أحمد فؤاد الأول الدستور المصري المعروف بدستور 23، وتلاه في التوقيع جميع أعضاء مجلس الوزراء، وبذلك صار لمصر دستورا مكتملا بعد مائة وخمسة وثلاثين عاما من نضال الشعب المصري من أجل حقه في إدارة أموره بنفسه.


الطريق إلى دستور الثورة... دستور 1923

 عقب الثورات دائما تكتب الشعوب دساتيرها، هذا ما حدث في مصر؛ فعقب الثورة العرابية صدر دستور 1882 الذي أعاد الحياة النيابية للبلاد وألغته سلطات الاحتلال، وفي أعقاب ثورة 1919 وبعد أن انتهت الموجة الثورية عادت المطالبة بالدستور لتتصدر المشهد إلى جانب المطالبة بجلاء قوات الاحتلال.


 لقد ظهرت الدعوة إلى تشكيل حكومة تقود البلاد إلى نظام دستوري تستند إليه في المفاوضات مع بريطانيا من أجل الجلاء في المراسلات بين سعد وعدلي في فبراير ومارس 1920، وبدأت المطالبة بالدستور تتصاعد في صيف عام 1920، فقد تضمن مشروع الوفد المصري لاستقلال مصر الذي قدمه للورد ملنر يوم 17 يوليو 1920 تشكيل جمعية وطنية تضع الدستور المصري ويكون من مهامها التصديق على معاهدة استقلال مصر، وقد أكد سعد زغلول هذه الدعوة في بيانه الموجه للأمة في 22 أغسطس من نفس العام.
 وعندما كلف السلطان فؤاد عدلي باشا يكن بتأليف الحكومة في مارس سنة 1921 قدم برنامج حكومته، ونص في هذا البرنامج على تشكيل جمعية وطنية تفصل في أمر أي معاهدة سياسية توقع مع بريطانيا، وإن هذه الجمعية الوطنية ستقوم بمهمة الجمعية التأسيسية لوضع الدستور وفقا للأنظمة الدستورية الحديثة.

عدلي باشا يكن

 وبعد استقالة وزارة عدلي باشا يكن في ديسمبر 1921، وضع عبد الخالق ثروت شروطا لقبول الوزارة كان في مقدمتها إعادة البرلمان، لكن الخطوات الحقيقية لوضع دستور للبلاد بدأت بعد صدور تصريح 28 فبراير 1922 الذي منحت فيه بريطانيا من جانب واحد استقلالا منقوصا لمصر، فتحولت مصر بمقتضى التصريح إلى مملكة دستورية.


عبد الخالق باشا ثروت

 كانت الحركة الوطنية المصرية تطمح إلى تشكيل جمعية تأسيسية منتخبة تصوغ الدستور، لكن حكومة عبد الخالق باشا ثروت سارت على نهج آخر؛ ففي 3 أبريل سنة 1922 شكلت الحكومة لجنة لوضع مشروع الدستور وقانون الانتخابات، وكلفت حسين باشا رشدي رئيس الوزراء السابق برئاسة اللجنة، كما تم تعيين أحمد حشمت باشا نائبا لرئيس اللجنة، وتشكلت اللجنة من ثلاثين عضوا بخلاف الرئيس ونائبه، وضمت في عضويتها قانونيين وساسة ورجال دين، بالإضافة إلى بعض الأعيان ورجال المال والتجارة. وقد قاطع الوفد والحزب الوطني اللجنة ووصفوفها بلجنة الأشقياء وهاجموا أسلوب تكوينها واعتبروه مصادرة على حق الشعب في كتابة دستوره.


حسين باشا رشدي

  انتهت اللجنة من عملها بعد أقل من سبعة أشهر، وقدمت مشروع الدستور إلى رئيس الوزراء عبد الخالق باشا ثروت في 21 أكتوبر سنة 1922، وبعدها بأيام قدمت مشروع قانون الانتخابات، فقام ثروت باشا برفعهما إلى الملك فؤاد لإصدارهما. لكن الملك لم يكن راغبا في إصدار الدستور الذي رأى فيه تقليصا كبيرا لسلطاته.


 بدأ الملك يخطط للتخلص من عبد الخالق ثروت ليتخلص من دستوره، فدبر لإحراجه بخروج مظاهرات من الأزهر تهتف بسقوط حكومة ثروت، وكان الموعد المحدد عقب صلاة الجمعة يوم 1 ديسمبر 1922، وكان مقررا أن يحضر الملك ورئيس وزرائه الصلاة بالجامع الأزهر، وتسرب الخبر إلى ثروت باشا فبادر بتقديم استقالته في 29 نوفمبر فقبلها الملك على الفور، وفي خطاب الاستقالة عدد عبد الخالق باشا ثروت إنجازات وزارته، وفي مقدمتها مشروع الدستور الذي لم يصدره الملك.
 وعقب استقالة عبد الخالق ثروت تولى محمد توفيق نسيم باشا رئاسة الوزارة وبدأ في تنفيذ خطة الملك فؤاد في تشويه الدستور، وقد أدخل نسيم باشا عشر تعديلات على مشروع الدستور تمت في تكتم شديد؛ أولها حذف النص على أن الأمة مصدر السلطات، وثانيها أنه جعل منح الرتب والنياشين من سلطة الملك وحده، وثالثها منح الملك حق حل مجلسي البرلمان، هذا الحق الذي تكرر استخدامه في عهدي فؤاد وفاروق، ورابعها جعل نصف عدد أعضاء مجلس الشيوخ بالتعيين، وخامسها انفراد الملك بتعيين رئيس مجلس الشيوخ دون مشاركة من الوزارة، وسادسها منح الملك حق إصدار مراسيم بقوانين في وجود البرلمان، وسابعها إخراج بعض المعاهدات التجارية من رقابة البرلمان، وثامنها تقييد سلطة البرلمان في مناقشة الميزانية، وتاسعها تأكيد سلطة الملك على معاهد التعليم الديني والأوقاف، وآخرها زيادة النصاب المطلوب لتنقيح الدستور وتدخل الملك فيه، كانت جميع هذه التعديلات تصب في اتجاه منح سلطات إضافية للملك، فقد شجعت هذه التعديلات الحكومة البريطانية على التدخل هي الأخرى في صياغة دستور البلاد وطالبت بحذف النصوص التي تؤكدعلى وحدة وادي النيل، وقد وافق نسيم باشا على إدخال هذه التعديلات أيضا قبل أن تستقيل في 5 فبراير 1923 بعد شهرين وخمسة أيام من تشكيلها أفسدت خلالهما مشروع الدستور، وكانت كل إجراءاتها تتم في سرية كاملة.
 قررت وزارة يحيى باشا إبراهيم استكمال مسيرة وزارة نسيم باشا في تشويه مشروع الدستور لكن أمرها افتضح، وتعرضت لهجوم حاد أحرجها أمام الرأي العام، وكان في مقدمة المهاجمين عبد العزيز بك فهمي. ونجح الهجوم في وقف التلاعب في مشروع الدستور الذي عطل الملك فؤاد صدوره لستة أشهر.
 وفي مساء يوم 19 أبريل سنة 1923 رضخ الملك لضغوط الشعب وأصدر دستور البلاد، دستور 1923 الذي ظل رغم ما أصابه من تشويه من أهم الدساتير المصرية.
 لقد نجحت المعارضة لمحاولات حكومات توفيق نسيم ويحيى إبراهيم في غل أيديهما عن تشويه الدستور، فخرج في أقرب صورة لما صاغته اللجنة التي رأسها حسين باشا رشدي. ورغم اعتراض الوفد المصري والحزب الوطني، الحزبان الرئيسيان القائمان وقتها، على لجنة صياغة الدستور ووصفهما لها بلجنة الأشقياء، إلا أن الدستور الذي صدر في 170 مادة كان من خير الدساتير؛ "فقد أُسس في مجموعه على أحدث المبادئ الدستورية، فوضع نظاما دستوريا للحكم، وقرر في ذات الوقت حقوق المصريين وكفلها لهم"، كما وصفه عبد الرحمن الرافعي عضو الحزب الوطني وأحد المعارضين للجنة الدستور. أما الوفد المصري قد تحول إلى مدافع دائم عن هذا الدستور حتى إلغائه عقب إنقلاب يوليو 1952.



 رغم أن الملك هو الذي أصدر الدستور، ورغم أن من صاغ الدستور لجنة معينة وليست جمعية تأسيسية منتخبة، فإن دستور 23 أقر بشكل واضح لا يحتمل اللبس أن الأمة مصدر السلطات، حيث نصت المادة الثالثة والعشرين من الدستور على أن "جميع السلطات مصدرها الأمة"، ويعبر هذا النص عن انتصار الإرادة الشعبية خاصة وقد نصت المادة الخامسة والعشرين على أنه: "لا يصدر قانون إلا إذا قرره البرلمان وصدق عليه الملك"، وقد جعل الدستور للبرلمان حق إصدار القوانين التي يرفض الملك التصديق عليها بأغلبية الثلثين، فإذا لم تتحقق صدر بالأغلبية المطلقة في دور الانعقاد التالي.
 وقد نصت المادة الأولى من الدستور على أن "مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة، ملكها لا يجزأ ولا ينزل على شيء منه وحكومته ملكية وراثية وشكلها نيابي."
 ونص الدستور على اختصاص المصريين وحدهم بتولي الوظائف العامة المدنية والعسكرية، كما أكد على أن لا يلي الوزارة إلا مصري، وعلى عدم جواز تولي أفراد الأسرة المالكة مناصب وزارية، وعدم جواز انتخابهم بالبرلمان.
  وحدد الدستور مخصصات الملك بمبلغ 150 ألف جنيه مصري، ومخصصات البيت المالك بمبلغ 111512 جنيه مصري، وجعل للبرلمان سلطة زيادتها.
 ونص الدستور في الفصل الخاص بالسلطة القضائية على أن "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون وليس لأية سلطة في الحكومة التدخل في القضايا".
 وفي الباب السادس من أبواب الدستور السبعة والذي يحمل عنوان أحكام عامة، نصت المادة 149 على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية". وقد أثارت هذه المادة جدلا واسعا داخل لجنة الدستور حيث رفضها بعض الأعضاء إنطلاقا من أن الدول لا تدين بدين محدد لكن أغلبية أفراد الشعب هم الذين يدينون بالإسلام، لكن اللجنة انتهت إلى هذه الصياغة.
 بينما تضمن الباب الثاني المكون من 21 مادة حقوق المصريين وواجباتهم، فأقر لأول مرة في تاريخ الدساتير المصريةالمساواة وعدم التمييز بين المصريين بسبب الأصل أو اللغة أو الدين، ونص الدستور أيضا على أن التعليم الأولي إلزامي ومجاني للبنين والبنات. كما نص بشكل قاطع على أن "الحرية الشخصية مكفولة" (المادة 4)، وعلى إلغاء النفي كعقوبة؛ حيث حيث "لا يجوز إبعاد مصري عن الديار المصرية" (المادة 7)، وعلى أن "حرية الاعتقاد مطلقة" (المادة 12)، كما نصت المادة 13 على أن الدولة تحمي حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في الديار المصرية على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب، ونصت المادة 16 على أنه "لا يسوغ تقييد حرية أحد في استعمالة أية لغة أراد في المعاملات الخاصة أو التجارية، أو في الأمور الدينية، أو في الصحف والمطبوعات أيا كان نوعها، أو في الاجتماعات العامة."
 ومن الحقوق التي قررها الدستور حق الاجتماع وتكوين الجمعيات، وحرية الصحافة وحظر الرقابة على الصحف، وحرية الرأي والتعبير؛ على أن أهم ما يؤخذ على هذا الباب أنه علق بعض الحريات على نصوص القوانين، الأمر الذي صار تقليدا في كل الدساتير التالية، وقد عجلت الحكومة بعد صدور الدستور وقبل انتخاب البرلمان بإصدار قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات وقانون الأحكام العرفية لتقييد الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور.
 وكما قال عبد الرحمن الرافعي في عام 1947 بعد ربع قرن على التجربة الدستورية المصرية الجديدة: "إن الحياة الدستورية في حاجة إلى جهاد المؤمنين بحقوق هذا الشعب وتعاونهم، لكي تستقر وتتغلب على العقبات التي تعترضها، ومن الواجب على الذين ينظرون بعين الرعاية والاعتبار إلى مصالح الوطن العليا، أن لا يترددوا في بذل ما يستطيعون من جهود للدفاع عن الحقوق العامة التي تتميز بها الشعوب الحرة عن الشعوب المستعبدة، فعلينا جميعا أن نؤدي هذا الواجب، إذا أردنا لهذا الشعب أن يأخذ مكانه بين الأمم الحرة المستقلة، ويساير ركب الحضارة والديمقراطية".

 لقد شهدت السنوات الثلاثين بين صدور دستور 23 وإلغائه سلسلة من الانقلابات الدستورية ومحاولات السرايا والسلطات البريطانية الالتفاف على الدستور ووقف العمل به بل وإسقاطه تماما، إنها سنوات النضال بين الحكم المطلق والشرعية الدستورية؛ وهذه حكاية أخرى من حكايات نضال المصريين من أجل حقوقهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...