رحلة مع حكاية المصريين والدستور (1)
امبارح كانت ذكرى اليوم اللي صدر فيه دستور 1923، ونشرت تدوينه طويلة عنه، النهاردة هبتدي مجموعة مقالات كنت باحضرها من 3 سنين تكون كتاب عن حكاية الدستور المصري، أصل المقالات مكتوب بين سنة 1996 و2013 وعدت صياغتها تاني...
ده المقال الأولاني...
البداية
ثورة يوليو 1795 والماجنا كارتا المصرية
عماد أبو غازي
للشعب المصري تاريخ طويل مع النضال من أجل
دستور يحقق طموح المصريين في وطن ينعمون فيه بالحرية والكرامة ويتمكنون من الرقابة
على الحكومة التي يفوضونها في إدارة أمورهم. فإذا كان الدستور ببساطة عقد بين أطراف المجتمع،
ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويقيد السلطات المطلقة للحاكم التي عرفتها المجتمعات
الإنسانية في العصور الوسطى، ويحدد العلاقة بين سلطات الدولة ومؤسساتها، فإن رحلة
المصريين مع الدستور يمكن أن ترجع إلى آواخر القرن الثامن عشر، فالشعب المصري نجح
للمرة الأولى في وضع قيود على السلطة المطلقة لحكامه في انتفاضته التي قام بها في
يوليو سنة 1795 ضد مظالم بكوات المماليك، وتكررت المحاولة عقب ثورة 1805 التي أتت
بمحمد علي إلى الحكم، ومن يومها لم يتوقف نضال المصريين من أجل الحصول على دستور
يليق بهم وبتضحياتهم المتوالية.
*****
نرجع إلى البداية، مصر في أواخر القرن الثامن
عشر بعد مرور قرابة ثلاثة قرون على الاحتلال العثماني للبلاد، في هذه الفترة كانت
مصر تعيش لحظات مخاض لميلاد عصر جديد، فكان النظام الذى وضعه العثمانيون لحكم
البلاد قد أصابه الخلل والضعف، وأصبح عدم الاستقرار السمة السائدة فى مصر وغيرها
من الولايات التابعة للدولة العثمانية، وصارت الاضطرابات وحركات التمرد والصراعات
المسلحة جزءًا من الحياة اليومية للناس.
لقد وضع العثمانيون عند احتلالهم للمشرق العربي نظامًا للحكم يقوم على
أساس توازن دقيق بين مجموعة من السلطات لضمان استمرار سيطرتهم على البلاد، فقد
وزعت السلطة ما بين الباشا العثماني والحامية العسكرية التى تحتل الولاية والحكام
السابقين للبلاد، وفي مصر كان المماليك الجراكسة هم حكام البلاد عندما احتلها
العثمانيون، فأشركهم السلطان العثماني، في إدارة شئون الولاية، فتحولوا من سلاطين
يسيطرون على مقدرات مصر والشام، إلى وسطاء يديرون مصر لحساب الحاكم الجديد، فعادوا
إلى سيرتهم الأولى أتباعًا للحاكم الأعلى، وأصبح جزء أساسي من فائض ما تنتجه مصر
ينزح إلى الخارج، حيث عاصمة الإمبراطورية إسطنبول على مضيق البسفور، ويوجه جزء منه
إلى الحجاز، بينما يزداد الفلاح المصري فقرًا.
لكن المماليك الذين اعتدوا الانفراد بحكم البلاد
لم يقبلوا الوضع الجديد بسهولة، فتكررت تمرداتهم، وأغراهم وضع مصر المتميز وإمكانياتها الكامنة، كما أغرى
بعض الباشوات العثمانيين بمحاولات الاستقلال بالبلاد، وكلما تدهورت الأوضاع وازداد
الاستغلال تصاعدت حركات الرفض والتمرد وامتدت إلى العرب والفلاحين، فتوالت الحركات
الشعبية ضد الحكم العثماني والاستغلال المملوكي في القاهرة وحركات العصيان والهجر
الجماعي للقرى في الريف.
وإذا كانت
تلك الحركات لم تصل إلى حد إنهاء الحكم العثماني إلا أنها نجحت بقيادة أحد
شيوخ الهوارة وهو الشيخ همام بن يوسف
الهواري فى السيطرة الكاملة على الصعيد لعدة سنوات.
أما طموحات المماليك في استعادة سلطانهم فقد
تحققت عندما نجح علي بك الكبير (1755- 1772) في القرن الثامن عشر في الاستقلال
بمصر وضم أجزاء من الشام إليها.
لقد خرجت مصر فى الربع الأخير من القرن الثامن
عشر الميلادي من تجربة لم يقدر لها النجاح، فقد انتهت محاولة علي بك الكبير للنهوض
بمصر والاستقلال عن الدولة العثمانية بهزيمته بسبب خيانة أقرب معاونيه، محمد بك
أبو الدهب، وإذا كان العثمانيون قد استعادوا سيطرتهم على البلاد بعد أن هزموا علي
بك الكبير، إلا أن نفوذ بكوات المماليك خرج عن السيطرة فأصبح محمد بك أبو الدهب،
ومن بعده مراد بك وإبراهيم بك هم الحكام الفعليين للبلاد.
وتزايدت في تلك الفترة المظالم يومًا بعد يوم
ولم يعد في قدرة المصريين احتمالها؛ ويصف الدكتور لويس عوض فى دراسته عن تاريخ الفكر
المصري تلك الحقبه فيقول:
"وتاريخ مصر فى هذه الحقبه يتلخص في سلسلة
من المظالم، وفى سلسلة من الاحتجاجات على المظالم تتراوح بين الاضطرابات
والمظاهرات وبين أعمال الشغب الحقيقية، ومع كل ذلك مناوشات لا تنتهي بين الأمراء
المصريين كما يسميهم الجبرتى وهم "المماليك المتمصرون"، وبين المماليك
الجدد تحت الحكم الثنائى، حكم مراد بك ـ إبراهيم بك. وقد استمر هذا الوضع حتى مجئ
الحملة الفرنسية. وكان واضحًا أن الأزهر كان طوال هذه الفترة هو ملاذ المظلومين
ونقطة تجمع أكثر حركات الاحتجاج على الظلم. كما كان واضحًا أيضا أن بعض كبار
العلماء من المصريين كانوا يقومون بدور واضح في الحياة العامة، فيؤخذ رأيهم بصفة
استشارية، وقد يلجأ إليهم الباشا العثماني والمماليك للتوسط فيما بينهم من
الخلافات الداخلية أو لتهدئة خواطر الشعب المظلوم، كما كان أبناء الشعب يلجأون
إليهم للتوسط بينهم وبين الحكومة لرفع الظلامات بل ولقيادتهم في حركات
الاحتجاج".
وفي يوليو سنة 1795 وصلت حالة السخط عند الشعب
إلى ذروتها وأدى السخط إلى انفجار الثورة ضد بكوات المماليك، الذين كانوا يشاركون
الباشا العثماني في مصر إدارة البلاد، وكان السبب وراء تفجر الأحداث كما يذكر
المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، الجبايات التي فرضها الأمير محمد بك الألفي وأتباعه
على قرية من قرى الشرقية فتوجه أهالي القرية إلى الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر
وشكوا له.
الشيخ الشرقاوي
وعندما عرض الشيخ الشرقاوي الأمر على مراد بك وإبراهيم بك، وكانا في ذلك
الوقت يتحكمان في أمر الديار المصرية لم يبديا حراكًا، فغضب الشيخ وجمع مشايخ
الأزهر وطلابه داخل الجامع وأغلق أبوابه واعتصم به، وفي اليوم التالي أغلقت
الأسواق والمحال التجارية أبوابها وتجمع أهالي القاهرة في مظاهرات صاخبة في الشوارع،
واستمرت ثورة القاهرة ثلاثة أيام بلياليها، وكانت مطالب الثائرين وزعمائهم من
المشايخ، إبطال الضرائب غير الشرعية، والتي كانت تعرف باسم المكوس، ورفع الظلم
والجور عن البلاد، وعزل الكشاف الجائرين وصرف الجوامك والجرايات والعلوفات
المتأخرة وهي رواتب المشايخ والمستحقين في الأوقاف والطلاب الدارسين في الأزهر.
مراد بك
وقد أسفرت
ثورة يوليو سنة 1795 في القاهرة بقيادة المشايخ والفقهاء وعلى رأسهم الشيخ عبد
الله الشرقاوي شيخ المشايخ بالجامع الأزهر الشريف عن خضوع أمراء المماليك لمعظم
مطالب الثوار، بل لقد أرغم المشايخ الأمراء على التوقيع على وثيقة يتعهدون فيها
برفع المظالم، وعدم العودة إليها مرة أخرى، وقد وصف بعض الباحثين تلك الوثيقة بأنها
"ماجنا كارتا" مصرية تشبيهًا لها بالعهد الأعظم الذي فرض على ملوك
إنجلترا الإلتزام بنظام دستوري.
وقد وصلتنا هذه الوثيقة التي حررت في 27 من ذي
الحجة سنة 1209 هجرية الموافق 15 يوليو سنة 1795 ميلادية مسجلة في سجلات الديوان
العالي وجاء فيها:
"توافق كل من ساداتنا أرباب السجاجيد
وساداتنا علماء الإسلام مصابيح الظلام، متع الله بوجودهم الأنام، مع كامل الأمراء
الكرام على تنزيل جوامك المسلمين المطلوبة من المال الميري، وإجراء جرايات
المستحقين، وعلوفات الفقراء والمساكين وإجراء منورية الجامع الأزهر، ومحفل العلم
الشريف الأنور، وجراياته، من وقفه الخاص به ولا يؤخذ له شيء من المكوس والمظالم
ومنع التفاريد على البلاد والرعايا والفقراء، ومنع ترك الكشاف الجائرة في بلاد
الله التي خربوها ونهبوها ودمروها، وأن ترفع المكوس الجارية في البنادر والموارد
وما جعل على المآكل والمشارب، وإزالة جميع الحوادث والمظالم من جميع الأقطار
المصرية، والتزموا أن لا يتعرض أحد منهم إلى السادة الأشراف القاطنين بجميع البلاد
لا بشكوى ولا بأذية، ولا بضرر ولا بوجه من الوجوه، وأن ينتهي أمرهم في حوادثهم
الخاصة بهم إلى أفنديهم ونقيبهم في سائر الأقطار والأزمان، وأن لا يتعرض أحد منهم
لنواب الشريعة المحمدية بوجه يضر بهم، وأن ينتهي أمرهم في كامل حوادثهم المتعلقة
بهم، إلى أفنديهم مولانا شيخ الإسلام قاضي عسكر أفندي بمصر في جميع الأزمان،
فأجابوا حضرة الأمراء الكرام بالسمع والطاعة وعدم مخالفة الجماعة، وأن يبطلوا هذه
المظالم الحادثة، التي أضرت بالإسلام والمسلمين وأبادت أموال الفقراء والمساكين
وحصل فيها الضعف والجور المبين، وامتثلوا جميعاً ما طلب منهم وأشير له عليهم
وعاهدوا الله سبحانه وتعالى على أن لا يعودوا إلى تلك الأفعال، وكل من خالف ذلك،
أو سعى في إبطال شيء من ذلك، فيكون على ساداتنا أرباب السجاجيد وعلماء الإسلام
والأمراء قهره واستخلاص كامل ما هو مطلوب منه لأربابه كائن من كان."
رغم بساطة هذه الحجة الشرعية وبعدها عن الأسلوب
التقليدي للدساتير الحديثة، التي تصاغ في شكل مواد متتابعة، ورغم أن المفجر للثورة
والدافع لتحرير الوثيقة مطالب اقتصادية تتعلق بمعاش الناس، أو ما نسميه بلغة
اليوم: مطالب فئوية، إلا أن هذه الوثيقة تتضمن عدة أمور دفعت بعض المؤرخين إلى
التعامل معها باعتبارها تحمل الإرهاصات الأولى لفكرة التزام الحاكم أمام المحكومين،
وهذا جوهر فكرة الدستور؛ فقد صيغت الحجة الشرعية أو الوثيقة كعقد اتفاق بين
المشايخ باعتبارهم ممثلين للشعب وبين كبار الأمراء الذين يديرون أمور البلاد،
ودونت لدى أعلى سلطة قضائية إدارية في ذلك الوقت، وتضمنت الوثيقة كذلك تعهدات من
الأمراء بإنهاء أسباب الشكوى، وعدم تكرارها مرة أخرى، كما جعلت من العلماء
والمشايخ رقباء على التزام الحكام بهذه الشروط وأشركتهم في المسئولية عن استخلاص
حقوق الناس.
ورغم أن المظالم عادت مرة أخرى، إلا أن المصريين
كانوا قد اكتسبوا خبرة جديدة في مواجهتهم لحكامهم، فشهدت السنوات الخمس الأولى من
القرن التاسع عشر حالة من الثورة المستمرة ضد الباشاوات العثمانيين والأمراء من
المماليك، وانتهت هذه الحالة بانتزاع المصريين، ولو لمرة واحدة لعشرات السنين،
حقهم في اختيار حاكمهم، وفرضوا على السلطان العثماني اختيارهم لمحمد علي حاكما
لولاية مصر، كما ألزموا الباشا الجديد بشروط كان عليه أن يلتزم بها في إدارة أمور
البلاد، حقا إن هذه التجربة المبكرة في فرض الشعب لشروطه على حكامه، وتدوين هذه
الشروط في وثائق مكتوبة، لم يقدر لها النجاح، إلا أنها كانت تجربة مبكرة في النضال
الدستوري، وكانت الخطوة الأولى في طريق طويل لم ينته بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق