رحلة مع حكاية المصريين والدستور "فرمان الشروط" (2)
هل وضع بونابرت دستورًا للمصريين؟
عماد أبو غازي
عندما احتلت الحملة الفرنسية بقيادة بونابرت مصر
في صيف عام 1798 وضعت نظامًا جديدًا لحكم البلاد، بدأ بونابرت قائد الحملة
ومعاونيه في وضع قواعد هذا النظام لتسهيل مهمة إدارة مصر، وحرص على أن يشرك في
"المؤسسات" الجديدة التي أنشائها وقام عليها نظامه مجموعة من ممثلي
النخبة المصرية؛ فشكل ديوانًا تولى ما يمكن أن نسميه في النظم الحديثة السلطة
التنفيذية، كما شكل مجلسًا آخر به درجة من درجات الانتخاب، اعتبره بعض من درسوا
تاريخ هذه الحقبة ـ ومنهم الدكتور لويس عوض ـ البرلمان الأول في مصر، وارتبط بهذا
"البرلمان" وثيقة تعرف بفرمان الشروط، اعتبرها الدكتور لويس عوض الدستور
الأول لمصر، وقد استند في ذلك إلى أمرين:
الأول: تسميتها "فرمان
الشروط"؛ الأمر الذي فسره بأنه مستمد من كلمة شارت أو كارتا في اللغات
الأوروبية بمعني الميثاق أو الدستور أو العهد، وأكد لديه هذا الفهم التعريب الذي
استخدمه الطهطاوي لكلمة دستور بعدها بسنوات؛ حيث استخدم مصطلح الشرطة للدلالة علي
الدستور الفرنسي؛ والحقيقة أن كلمة شرط وشروط في العربية مستخدمة منذ زمن مبكر للدلالة
علي باب من أبواب الفقه الإسلامي عرف بعلم الشروط يبحث في قواعد صياغة وثائق
المعاملات، والمعنى المباشر في العربية لكلمة شرط لا يبعد كثيرًا عن هذا، وقد
استخدم الجبرتي كلمة مشروطية في الإشارة إلى الشروط التي وضعها قادة ثورة ١٨٠٥
لمحمد علي مقابل توليه باشوية مصر.
والثاني: محتوي الوثيقة وما نصت عليه؛ فقد قضى فرمان
الشروط الذي أصدره بونابرت بتعيين اثنين من رجال الحملة وعلمائها هما مونج وبرتوليه
قوميسرين في الديوان العام، وتكليفهما بحضور الجلسات وعرض خطط الحكومة مشروعاتها
علي الأعضاء، وحدد بعض آليات عمل الديوان، والأمور المطلوب من أعضاء الديوان
القيام بها، الأمر الذي جعل لويس عوض يصنف هذا النص باعتباره دستورًا للبلاد.
فماذا تقول هذه
الوثيقة؟
"إن الغرض من عقد الديوان العام تعويد
الأعيان المصريين نظم المجالس الشورية والحكم، فقولوا لهم إني دعوتهم لاستشارتهم
وتلقي آرائهم فيما يعود على الشعب بالسعادة والرفاهية، وما يفكرون في عمله إذا كان
لهم حق الفتح الذي حزناه في ميدان القتال.
اطلبوا من الديوان أن يبدي رأيه في المسائل
الآتية:
أولًا: ما أصلح نظام لتأليف مجالس الديوان في
المديريات، وما المرتب الذي يجب تحديده للأعضاء.
ثانيًا: ما النظام الذي يجب وضعه للقضاء المدني
والجنائي.
ثالثًا: ما التشريع الذي يكفل ضبط المواريث ومحو
أنواع الشكاوى والإجحاف الموجودة في النظام الحالي.
رابعًا: ما الإصلاحات والاقترحات التي يراها
الديوان لإثبات ملكية العقارات وفرض الضرائب.
ويجب أن تُفهموا الأعضاء بأننا لا نقصد إلا
توفير السعادة والرفاهية للبلاد التي تشكو من سوء نظام الضرائب الحالي كما تشكو من
طريقة تحصيلها، وعليكم أن تضعوا للديوان نظامه الداخلي كما يأتي:
أن ينتخب الأعضاء رئيسًا له، ونائب رئيس،
وسكرتيرين مترجمين أثنين، وثلاثة مراقبين، وأن يكون ذلك بطريق الاقتراع وبكل مظاهر
الانتخاب.
وعليكم أن تتابعوا المناقشات وتدونوا أسماء
الأعضاء الذين يمتازون عن زملائهم في الديوان سواء بنفوذهم أو بكفايتهم".
والسؤال هنا، هل يمكن أن نعتبر هذه الوثيقة
دستورًا؟ ولو اعتبرناها كذلك فهل يمكن أن نصفها بالدستور الأول مثلما ذهب الدكتور
لويس عوض؟
أتصور أن هذه الوثيقة لا تتعدى أن تكون قرارًا
من بونابرت بمجموعة من الإجراءات التنظيمية لعمل الديوان، وتوجيهات لمعاونية
للكيفية التي ينبغي أن يديروا بها الديوان، بالإضافة إلى مجموعة من الأسئلة
الموجهة للأعضاء يطلب منهم الإجابة عليها، وهي لا ترقى بحال من الأحوال لأن تكون
شكلًا من أشكال التعاقد بين الحاكم والمحكومين، كما أنها لا تضع أي التزام على
الحاكم أو قيدًا عليه، فضلًا عن أن واقع ممارسة الديوان تؤكد أنه كان في أفضل الأحوال
هيئة تتولى رفع مظالم الناس لقادة الحملة وتقديم الرجاء لهم لحلها، الأمر الذي
تكشف عنه مجموعات وثائق الحملة الفرنسية المحفوظة في جامعة القاهرة، والكراسات التي
دونها الشيخ إسماعيل الخشاب كاتب الديوان، ونشرها من عدة سنوات البروفسيور أندريه ريمون
والدكتور محمد عفيفي، ربما تكون الخبرة الوحيدة التي قدمتها تجربة الديوان للمصريين
تتمثل في التعرف على نظام الانتخاب في شغل المناصب العامة.
وحتى لو قبلنا تجاوزًا وصف الدكتور لويس عوض لفرمان
الشروط بأنه "دستور"، فلا يمكن أن نعتبره الأول، فمن ناحية نجد أن حجة 1795
التي نتجت عن انتفاضة شعبية أقرب لفكرة الدساتير من حيث تقيدها لتصرفات الحاكم، ومن
ناحية أخرى فإن مصر قد عرفت اللوائح التي تنظم عمل الدولة منذ قرون سابقة، على الأقل
منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، من خلال قانون قايتباي، ثم قانون نامه مصر في
القرن السادس عشر بعد الاحتلال العثماني بسنوات قليلة.
لكن الأمر المؤكد أن مواجهة المصريين للحملة الفرنسية
ومقاومتهم لها من ناحية، واحتكاك قطاع من النخبة بقيادة الحملة من ناحية أخرى، أسهما
في تطور وعي المصريين بحقوقهم ومطالبتهم بها...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق