رحلة مع حكاية المصريين والدستور (
5 )
شريف باشا أبو الدستور
عماد أبو غازي
شهدت نهاية
السبعينيات من القرن التاسع عشر تحولًا مهمًا في نضال الشعب المصري من أجل
الدستور، فقد طرحت الحركة الوطنية الصاعدة التي ضمت قادة النخبة السياسية الجديدة
الدستور والرقابة البرلمانية على الحكومة والمشاركة في التشريع على رأس مطالبها،
وكانت تلك النخبة الجديدة تضم نوابا تمرسوا في العمل البرلماني منذ عام 1866،
وبعضًا من أعيان الريف، ومجموعة من الكتاب ورجال الفكر والصحافة، وعناصر من الجهاز
البيروقراطي للدولة، ومن ضباط الجيش خاصة من ذوي الأصول المصرية.
وقد ارتبطت المطالبة بالدستور منذ
ذلك الحين بقضية استقلال القرار الوطني ومواجهة التدخلات الأجنبية في شئون البلاد،
فقد تفجرت الأزمة السياسية بين مجلس شورى النواب والحكومة في الأشهر الأخيرة من
عصر الخديوي إسماعيل بسبب أزمة الدين الخارجي، والرقابة الثنائية البريطانية
الفرنسية على مالية مصر، ورفض الوزير البريطاني المثول أمام مجلس شورى النواب
وتجاهل الوزير الفرنسي لقرارات المجلس وتوجيهاته.
وقد انتهت تلك الأزمة بقبول
الخديوي إسماعيل للائحة الوطنية وإقالة ابنه توفيق من منصب رئيس مجلس النظار
وتكليف شريف باشا بأعباء المنصب.
وقراءة مبررات إقالة الحكومة تكشف عن قوة الحركة
الوطنية واستجابة الخديوي لها، فقد جاء في تلك المبررات:
"لما لم يتيسر لهيئة مجلس
النظار السابقة التوفيق للخدمات المتعلقة بإصلاح الأمور المادية والمعنوية المحتاج
إليها الوطن، وإجرائها على المحور الموافق لعزم الأهالي قد صمم عموم أهالي الوطن
العزيز تصميمًا جازمًا على تبديل هذه الهيئة بغيرها، وتسليم إدارة المصالح مع
تأسيسها على أساس صحيح إلى ذوي اللياقة والأهلية من حضرات قدماء المأمورين الكرام
الذين حازوا حسن الوثوق والاعتماد عليهم في أمور الحكومة، واعترف لهم بها الجميع،
وبناء على هذا اجتمعت جمعية حافلة من حضرات أعضاء شورى النواب والعلماء الأعلام
والذوات الفخام والمأمورين الكرام ووجوه البلد وأعيان المملكة ومعتبري الأهالي،
وبعد أن وقعت بينهم المذكرات الكثيرة، مع ملاحظة ما ينبغي ملاحظته في خصوص هذه
الوظيفة المهمة وإصلاح أحوال المالية والأمور الداخلية، عرضوا لأعتاب الحضرة
الفخيمة الخديوية اللائحة العمومية التي حرروها على وفق الآراء العمومية، فتعلقت
الإرادة السنية بوجوب إجراء المواد المندرجة فيها."
الخديوي إسماعيل
إننا أمام تطور مهم في الحياة
السياسية المصرية، فنص الوثيقة يعترف بشكل واضح بالإرادة الشعبية، والخديوي يوافق
على تغيير الحكومة نزولًا على إرادة الأمة وممثليها، وفي نص الإرادة العلية
الصادرة من الخديوي إسماعيل إلى شريف باشا لتكليفه بمسئولية منصب ناظر النظار في 7
أبريل سنة 1879 تأكيدًا على هذا المعنى؛ فقد استهل الخديوي أمر التكليف قائلًا:
"إني بصفة كوني رئيس الحكومة ومصريًا أرى من الواجب علي أن أتبع رأي الأمة
وأقوم بأداء ما يليق بها من جميع الأوجه الشرعية." ورغم أن إسماعيل كان حينئذ
يخوض معركته الأخيرة مع الدائنين ومع الدول الأوروبية مستفيدًا من الحركة الوطنية،
إلا أن خطاب تكليف شريف باشا أرسى مبدأ نزول الحاكم على الإرادة الشعبية وانصياعه
لها وإقرار مبدأ رقابة الأمة على الحكومة، وقد تأكد هذا المعنى في أكثر من موضع في
الخطاب، فعندما يوجه الأمر لشريف باشا بتشكيل الحكومة يشير إلى "أن تكون تلك
النظارة مشكلة من أعضاء أهليين مصريين يتبعون في سيرهم الطرق المنصوص عليها في
الإرادة المذكورة، ويتحفظوا على مأمورياتهم كل التحفظ، إذ أنهم مكلفون بالمسئولية
لدى مجلس الأمة الذي سيجري انتخاب أعضائه وتعيين مأموريته بوجه كاف للقيام بتأدية
ما يلزم للحالة الداخلية ومرغوب الأمة نفسها." وفي موضوع آخر قال: "وأن
تجتهد النظارة قبل كل شيء في أن تستعد لاستحضار قوانين مماثلة للقوانين الجاري
عليها العمل في أوروبا." في تكليف واضح بصياغة دستور للبلاد.
وقد بادر شريف باشا عقب توليه رئاسة
مجلس النظار بتنفيذ إرادة النواب في استمرار انعقاد مجلس شورى النواب، فدعا المجلس
للاجتماع في 10 أبريل 1879، وتُلي كتاب وزير الداخلية باستمرار دورة المجلس وإلغاء
القرار الذي سبق أن أصدرته حكومة محمد توفيق باشا بفضه.
وفي 17 مايو اجتمع المجلس، وحضر
شريف باشا رئيس مجلس النظار وقدم للمجلس مشروع اللائحة الأساسية الجديدة لمناقشتها
وإقرارها، في خطوة مهمة في طريق منح المجلس النيابي سلطة التشريع في مصر، حيث أشار
شريف باشا في كلمته بشكل واضح إلى سلطة مجلس شورى النواب في مراجعة القوانين
وتعديلها أو إقرارها.
وتم تشكيل لجنة من أعضاء المجلس
ضمت كل من: عبد السلام بك المويلحي وعثمان الهرميل والسيد السرسي ومحمود سالم
وبديني الشريعي وعبد الغني خالد وباخوم لطف الله وعبد الرزاق الشوربجي وإبراهيم
الجيار وعبد الوهاب الشيخ ومحمد رجب كساب وخضر إبراهيم وعبد الرحمن وافي وتمام حباير
وسليم سعيد، وانتخب المويلحي رئيسا للجنة. ويعتبر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أن
هذه اللجنة كانت بمثابة لجنة دستورية، وأن مجلس شورى النواب قام بمهمة الجمعية
التأسيسية.
ويعتبر الرافعي أن اللائحة
الأساسية لعام 1879 أول دستور وضع في مصر على أحدث المبادئ العصرية رغم عدم صدورها
بمرسوم خديوي، لكن من وجهة نظره فإن تلك اللائحة التي ارتضتها الحكومة وقدمتها إلى
مجلس شورى النواب مع لائحة الانتخاب لتنال إقرار المجلس، تعتبر أساسًا لدستور 1882
الذي اقتبس كثير من نصوصه منها.
وقد تضمنت تلك اللائحة سلطات واسعة
لمجلس النواب تضاهي سلطات البرلمانات الأوروبية في الرقابة والتشريع، كما أنها
أعطت أهالي السودان حق انتخاب ممثليهم في المجلس، وأقرت مبدأ الحصانة البرلمانية
وجعلت النائب وكيلًا عن عموم الأمة وليس وكيلًا عن دائرته فقط.
لكن مشروع الحركة الوطنية وجهود
شريف باشا لم تكلل بالنجاح، فقد نجحت بريطانيا وفرنسا في عزل الخديوي إسماعيل
وتولية ابنه توفيق مكانه، وقد كلف توفيق شريف باشا بالاستمرار في رئاسة مجلس
النظار في 5 يوليو 1879، وأكد في خطاب التكليف على علمه بأن "الحكومة
الخديوية يلزم أن تكون شورية ونظارها مسئولين"، وأنه ينبغي "تأييد شورى
النواب وتوسيع قوانينها لكي يكون لها الاقتدار في تنقيح القوانين وتصحيح الموازين
وغيرها من الأمور المتعلقة بها".
الخديوي توفيق
لكن الأمور سارت في مسار آخر؛ فقد
تم تعطيل أعمال مجلس النواب قبل أن ينتهي من مناقشة القوانين واللوائح المحالة
إليه من الحكومة، ثم جمع توفيق في أغسطس 1879 بين الخديوية ورئاسة مجلس النظار،
بعد استقالة شريف باشا احتجاجًا على رفض الخديوي إجراء انتخابات مجلس النواب، ثم
أسند المنصب إلى رياض باشا المساند للحكم الاستبدادي، ليستمر في المنصب إلى أن
قامت الثورة العرابية في سبتمبر 1881، فيعود شريف باشا بناء على طلب الثوار وقادة
الحركة الوطنية فيعيد الحياة النيابية ويقوم بإعداد مشروعًا جديدًا للدستور.
من هنا استحق شريف باشا لقب أبو
الدستور فكما يقول عبد الرحمن الرافعي: "على يد شريف باشا قام النظام
الدستوري في مصر، ففي عهد وزارته للداخلية سنة 1866 أنشئ مجلس شورى النواب، وفي
عهد رأسته للوزارة سنة 1879 كملت سلطة المجلس بتقرير مبدأ المسئولية الوزارية
أمامه، وفي وزارته الثالثة سنة 1881 أنشئ مجلس النواب على غرار المجالس النيابية
الحديثة."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق