الجمعة، 22 أبريل 2016


رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 3 )

عندما فرض الثوار المشروطية على قائد العسكر

عماد أبو غازي

 تبدأ الحكاية مع خروج الفرنسيين، أو الفرنسيس كما كان يسميهم أهل ذلك العصر، من مصر في شهر سبتمبر سنة 1801، رحلت الحملة الفرنسية عن مصر لكن الاستقرار لم يعد إلى البلاد، التي أصبحت مسرحا لصراع بين ثلاث قوى تسعى كل منها إلى فرض سيطرتها: الأتراك العثمانيون وأمراء المماليك الجراكسة وإنجلترا. ولم تدرك هذه القوى المتصارعة أن هناك طرفا آخر عاد إلى الساحة من جديد بعد غياب، إنه الشعب المصري.
 كانت قوة الشعب قد بدأت تظهر مجددا في السنوات السابقة على الحملة الفرنسية من خلال حركات الاحتجاج المتكررة في القاهرة ضد طغيان المماليك وأعوانهم، وكانت أهم تلك الحركات الثورة التي قامت في يوليو سنة 1795، وخلال سنوات الاحتلال الفرنسي لمصر تصاعدت روح المقاومة لدى المصريين وانخرطوا في النضال من أجل تحرير بلادهم، وخلال حركة المقاومة تبلورت قيادة شعبية جديدة للمصريين من بعض مشايخ الأزهر وكبار التجار وشيوخ الطوائف الحرفية، وانضم إلى هذه القيادة الشعبية السيد عمر مكرم الذي كانت له مكانة كبيرة لدى المصريين بسبب وضعه كنقيب للأشراف في مصر، وكان للرجل دور بارز في حشد المصريين للتصدي لقوات الحملة الفرنسية في القاهرة وضواحيها عند مقدمها إلى البلاد، لكنه فضل الهجرة إلى الشام عندما احتلت الحملة القاهرة.
 شعر المصريون أن أمر بلادهم لابد أن يعود إلى أيديهم بعد خروج الحملة الفرنسية، فقد أثبتوا قدرتهم على الدفاع عن بلادهم وحمايتها، وسقطت بذلك الحجة التي استند إليها الغزاة والحكام الأجانب منذ عصر البطالمة والتي أبعدوا بسببها المصريين عن المشاركة في إدارة أمور بلدهم.
 وخلال السنوات الأربع التالية لخروج الحملة الفرنسية من مصر أخذت أحوال البلاد تسير من سيء إلى أسوأ، وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم الأتراك والمماليك، وبسبب تدخل القوى الأوروبية الكبرى في شؤون البلاد، وتوالت الاحتجاجات الشعبية وتصاعدت، ولم تفلح حركات الاحتجاج المتفرقة التي قاموا بها في إنهاء المظالم أو تحسين الأحوال، واعتمد الباشا العثماني الذي كان يحكم مصر نيابة عن السلطان على فرقة الجنود الدلاة المعروفين بقسوتهم وشراستهم في قمع حركات التمرد والاحتجاج، وفي يوم الأربعاء أول مايو سنة 1805 اعتدى الجنود الدلاة على أهالي مصر القديمة وأخرجوهم من بيوتهم، ونهبوا مساكنهم، وقتلوا البعض منهم، فكانت هذه بداية للثورة التي أطاحت بالباشا العثماني وفرضت إرادة المصريين على السلطان.
 حمل المصريون السلاح ووضعوا المتاريس في الشوارع وحاصروا القلعة ومنعوا عنها الطعام والشراب، وتصدوا بالقوة المسلحة لكل محاولات العسكر العثماني لفك الحصار، ويقول الجبرتي: "وحمل السلاح كل قادر على حمله، وخلت مخازن الأسلحة بما فيها من آلات الكفاح، وكان الفقراء من العامة يبيعون ملابسهم أو يستدينون ويشترون الأسلحة".
 ورغم صحوة الشعب المصري وخروجه حاملا للسلاح، ورغم ظهور زعامات شعبية من بين المصريين، مثل نقيب الأشراف السيد عمر مكرم وشيخ طائفة الخضرية حجاج الخضري وبعض كبار مشايخ الأزهر كالشيخ الشرقاوي، إلا أن المصريين لم يفكروا في اختيار أيا من هؤلاء حاكما للبلاد، وقرروا أن يسلموا ثورتهم لأحد قادة العسكر.


تمثال السيد عمر مكرم من أعمال النحات المصري فاروق إبراهيم

 ونعود مرة أخرى إلى مؤرخ العصر عبد الرحمن الجبرتي الذي يصف ما فعله المصريون يوم 13 مايو 1805 فيقول: "فلما أصبحوا يوم الإثنين، اجتمعوا ببيت القاضي، وكذلك اجتمع الكثير من العامة، فمنعوهم من الدخول إلى بيت القاضي، وقفلوا بابيه، وحضر إليهم أيضا سعيد أغا الوكيل، وركب الجميع، وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا، ولابد من عزله من الولاية، فقال: ومن تريدونه يكون واليًا، قالوا له: لا نرضى إلا بك، وتكون واليًا علينا بشروطنا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولًا، ثم رضي، وأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي فألبساه له، وذلك في وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة".
 ويقول الجبرتي في موضع آخر: "تم الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع، والإقلاع عن المظالم، وألا يفعل أمرًا إلا بمشورته ومشورة العلماء، وإنه متى خالف الشروط عزلوه."
 إن ما حدث يوم 13 مايو سنة 1805 يعكس تحولًا مهما في التاريخ المصري، ويتوج مرحلة من النضال الشعبي امتدت لأكثر من عشر سنوات، حاول خلالها المصريون أن يستعيدوا أمر بلادهم بأيديهم؛ ففي هذا اليوم نجح المصريون لأول مرة في تاريخهم المعروف في اختيار الحاكم الذي يتولى شؤونهم، وقد رأى زعماء الأمة، كما رأى الشعب في ذلك الحين، أن محمد علي هو الشخصية التي تصلح لتولي الأمر، فقد نجح طوال أربع سنوات في التقرب من المصريين والتودد إليهم، ولم يكن الأمر قاصرًا في ثورة مايو سنة 1805 على اختيار المصريين لحاكمهم بل أنهم فرضوا عليه كذلك الشروط التي يتولى الحكم على أساسها، فيما يعد خطوة أخرى في تطور النظام الدستوري في البلاد.
 لكن هل التزم محمد علي بهذه الشروط؟
 الإجابة لا، بالتدريج انفرد محمد علي بحكم مصر وتخلص من كل الزعماء الذين أتوا به إلى كرسي الحكم، إما بالنفي أو بالإعدام أو بالتهديد أو الترغيب.

محمد علي باشا
 في البداية أظهر محمد علي التزاما كاملا بالشروط التي تولى على أساسها حكم مصر، خاصة أنه كان في حاجة إلى تأييد الشعب وزعمائه لتثبيت أركان حكمه، فقد شهدت الفترة من 1805 إلى 1807 محاولات عديدة للإطاحة بمحمد علي من باشوية مصر، فالقوى الثلاثة التي كانت تتصارع من أجل السيطرة على مصر طوال السنوات التالية على رحيل الحملة الفرنسية: العثمانيون والإنجليز والمماليك، واصلوا سعيهم من أجل تحقيق هدفهم، وتحولوا من الصراع إلى التحالف والتآمر والاتفاق للسيطرة على البلد والقضاء على الإرادة الشعبية الوليدة التي فرضت على السلطان العثماني تعيين محمد علي حاكمًا على البلاد، وفي نفس الوقت مرت البلاد بأزمات اقتصادية بسبب انخفاض الفيضان، كل هذا أدى إلى احتياج محمد علي للزعامات الشعبية لدعمه، وبالفعل لجأ إليهم أكثر من مرة لتمرير فرض ضرائب جديدة، وكان يؤكد لهم دائما أن هذه الضرائب تفرض لمرة واحدة ولن تتكرر، وفي مقابل هذا قبل محمد علي وساطة الزعامة الشعبية لحل مشكلات الناس والتخفيف عنهم.
 لكن محمد علي كان قد ضاق بالرقابة الشعبية على قراراته، والتي كانت شرطا لتوليه باشوية مصر، وضاق بسكنى المدينة وسط الناس، وتطلع إلى الصعود للقلعة بعيدا عنهم، فقرر أن ينقض تلك الشروط شرطًا بعد شرط، ويتخلص من الزعامة الشعبية مستفيدًا من المنافسات التي دبت بين الزعماء. ونجح بالفعل في التخلص من عمر مكرم بنفيه بعيدًا عن القاهرة، ثم قلم أظافر المشايخ بمصادرة مخصصاتهم، أما حجاج الخضري فقد قُبض عليه وأُعدم في ظروف غامضة.
 خلال سنوات قليلة أصبح محمد علي بدون منافسين في مصر، خصوصًا بعد مذبحة القلعة الشهيرة التي ذبح فيها عشرات من المماليك، وتفرغ لتنفيذ مشروعه الطموح في الاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية والسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من ممتلكاتها العربية وضمها إلى ولاية مصر.

وكان على المصريين الانتظار لنصف قرن آخر ليستأنفوا نضالهم من أجل الحصول على الدستور. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...