رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 8 )
حكاية دستور لم يصدر أبدًا
عماد أبو غازي
خلال السنوات الأولى من القرن العشرين كانت قضية
الدستور تحتل مكانًا محوريًا في كفاح الشعب المصري من أجل نيل حقوقه، وكانت
الأحزاب الثلاثة التي تشكلت في ذلك الوقت: حزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ
الدستورية والحزب الوطني، تعتبر قضية الدستور قضية أساسية في برامجها ونضالها
اليومي، وأصبحت المطالبة بدستور للبلاد يضمن رقابة نواب الأمة على آداء الحكومة،
ويعطيهم سلطة التشريع، ويصون حقوق الشعب وحرياته، من أولويات الأحزاب الثلاثة
الرئيسية والحركة الوطنية في عمومها؛ وتحت ضغط هذه المطالبات جاء قرار الخديوي
عباس حلمي الثاني بنظام أساسي جديد نشأت بمقتضاه الجمعية التشريعية، لكنها ظلت
منقوصة السلطات.
لكن الخديوي عباس حلمي كان يدرك أن إعلان
الدستور مدخل أساسي للحصول على التأييد الشعبي وتحقيق إلتفاف الأمة من حوله، من
هنا تأتي حكاية دستور 1914 الذي لم يصدر أبدًا.
ففي 11 نوفمبر 1914 أصدر الخديوي عباس حلمي
الثاني، عندما تأزمت به الأمور، منشورًا إلى الأمة في محاولة منه لاستمالة
المصريين إلى جانبه ودفعهم لمساندة جيوش الدولة العثمانية التي بدأت تتجه إلى
الحدود المصرية، وفي سياق هذه المحاولة أعلن الخديوي عن قراره بمنح الدستور الكامل
للشعب، وحاول أن يبرر غياب الدستور كل هذه السنوات بتدخل الإنجليز في شئون البلاد.
وفي الحقيقة لم تكن فكرة منح المصريين دستورًا
من بنات أفكار الخديوي، فقد كان صاحب فكرة أن يعلن الخديوي دستورًا للأمة الزعيم
محمد فريد، بل إن هذا الإعلان كان شرطًا للصلح بينهما بعد سنوات من القطيعة، كان
فريد في منفاه الاختياري بجنيف عندما أشتعلت الحرب الشرارة الأولى للحرب العالمية
الأولى صيف 1914، وكان الخديوي يقضي عطلته الصيفية في اسطنبول، وتعرض في 25 يوليو
لمحاولة اغتيال فاشلة على يد الطالب المصري محمود مظهر الذي كان يدرس في المدرسة
البحرية العثمانية، وعقب الحادث بشهر أرسل فريد رسالة إلى الخديوي يهنئه فيها
بنجاته، وينصحه بمنح الدستور للأمة، وبناء على وعد من الخديوي بتنفيذ هذه النصيحة
توجه إليه فريد لزيارته في اسطنبول، وفي اللقاء بين الرجلين أكد الخديوي أنه ينوي
بالفعل إصدار دستورًا للبلاد، وفي خريف 1914 تطورت الأمور في مصر بشكل متسارع مع
دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا ضد إنجلترا، وفي 2 نوفمبر أعلن الفريق
مكسويل قائد الجيوش البريطانية بمصر الأحكام العرفية في البلاد ووضع الصحف تحت
الرقابة.
وفي ذلك الوقت كانت الجيوش التركية تستعد للتوجه
نحو حدود مصر الشرقية لمحاربة الإنجليز وطردهم من البلاد ووجه الخديوي رسالته إلى
الأمة، وقد سجل الزعيم محمد فريد نص هذا المنشور الذي يعد وثيقة تاريخية مهمة
وضمنه في مذكراته، ونشره المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "محمد فريد رمز
الإخلاص والتضحية" نقلًا عن مذكرات فريد، قال الخديوي في منشوره:
"أبناء
مصر والسودان الأعزاء
ها قد أتت الساعة لخلاصكم من احتلال أجنبي وطأ
البلاد من 32 سنة مضت، بدعوى أنه مؤقت، وأنه لتـأييد الأريكة الخديوية، كما تدل
عليه تصريحات الحكومة الإنجليزية، ووعود رجالها الرسميين العلنية، لكنه ما مضت
عليه الأعوام حتى نسى الوعود بالجلاء، وتداخل في شئون البلاد الإدارية والسياسية،
فتصرف في مالية الحكومة تصرف المالك المبذر، واعتدى على حقوقنا في السودان، وأحل
أبناءه مكان الوطنيين في الوظائف العمومية، وسلب استقلال القضاء، وسن القوانين
الماسة بالحرية الشخصية والمضيقة على حرية الفكر والخطابة والكتابة والاجتماع،
وقاوم رغباتنا ورغبات رعايانا في انتشار التربية والتعليم الصحيح في أرجاء القطر،
وفي منح البلاد دستورًا كاملًا يتناسب مع أحوال التقدم العصري، ولما أعلنت الحرب
الحاضرة بين الدول العظمى، جاءت الحكومة الإنجليزية فمنعتنا عن الرجوع إلى مصر،
ودعتنا لترك الأستانة والرحيل لإيطاليا، فرفضنا هذا الطلب رفضًا باتًا، واعتبرناه
أقصى ما تتعدى به هذه الدولة على حقوق الخديوية المصرية، واعتبرته الدولة العلية
صاحبة السيادة على مصر اعتداء على الفرمانات الشاهانية، ولما كانت رغبات جلالة
الخليفة المعظم وحكومته السنية هي تأييد هذه الفرمانات لتمام رفاهية البلاد
المصرية والسودانية، فقد اقتضت إرادة أمير المؤمنين تسيير جيش عثماني عديد مظفر
على القطر المصري لإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل سنة 1882، وقد رأينا أن نسير
مع هذا الجيش حتى يتم له النصر، بمعاونتكم بعضكم البعض، وقيامكم بتمهيد كل الوسائل
لتسهيل مأموريته، واستعدادكم لاستقبالنا واستقباله بما هو معهود فيكم من الحمية
الوطنية والإخلاص لجلالة الخليفة المعظم، ولنا، ولبلادكم، وبما أن الأمل وطيد في
نجاحنا بمعونته تعالى؛ فإننا نعلن من الآن منحكم الدستور الكامل، وإلغاء القوانين
المنافية للحرية، وإعادة الضمانات لاستقلال القضاء، والعفو عن المجرمين السياسيين،
ومن صدرت ضدهم أحكام ورفعت عليهم دعاوى بسبب الحوادث الأخيرة، والعمل على تعميم
التعليم وترقيته، وكل ما فيه تقدم البلاد المادي والأدبي، والسهر على راحة سكانها،
وتوفير أسباب سعادتهم؛ وها هي الفرصة فانتهزوها، وليكن شعاركم خلاص مصر، مع احترام
أرواح وأموال سكانها الأجانب، فأنه ليس لنا مقاوم فيها غير جيش الاحتلال، ومن
يحاربنا معهم؛ حقق الله الآمال."
كان هذا إعلان نوايا بعد فوات الآوان، وما كان
له أن يلقى صد لدى المصريين، لقد ظل عباس حلمي يحكم البلاد 22 عامًا دون دستور،
وسمح فقط في السنة الأخيرة من حكمه بتشكيل مجلس نيابي جديد منقوص السلطات، في
الوقت الذي كان بإمكانه الاستناد إلى الحركة الوطنية المتصاعدة في السنوات العشر
الأخيرة من حكمه لمواجهة سلطات الاحتلال، لكن شبح جده المنفي كان لا يفارق مخيلته،
ولم يمتلك "شجاعة" الاستجابه لمطالب الأمة إلا بعد أن أصبح منفيًا هو
الآخر بعيدًا عن مصر.
على كل حال لم يكتب لهذا الوعد أن يتحقق، ففي 18
ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وإنهاء علاقتها بالدولة العلية
العثمانية بعد احتلال دام قرابة أربعمائة عام، وفي اليوم التالي تم عزل عباس حلمي
الثاني وتعيين الأمير حسين كامل سلطانًا على البلاد، وذهب الوعد بالدستور أدراج
الرياح، لكن إلى حين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق