الأربعاء، 14 سبتمبر 2016

500 سنة على الاحتلال العثماني لمصر

 من أسابيع قليلة مرت ذكرى 500 سنة على بدايات الاحتلال العثماني لمصر والشام، ففي شهر أغسطس سنة 1516 هزم السلطان قانصوة الغوري سلطان المماليك على يد السلطان العثماني سليم الأول في موقعة مرج دابق بالقرب من حلب، فبدأ التوغل العثماني في سلطنة المماليك، وفي يناير 1517 انتصر سليم على أخر سلاطين المماليك طومان باي في الريدانية، وبعد مقاومة استمرت لأسابيع سيطر العثمانيين على مصر واحتلوها لمدة 400 سنة إلا 3 سنوات.
 اليوم أبدأ في إعادة نشر مجموعة مقالات سبق نشرها في الصحف عن الاحتلال العثماني لمصر.
 المقال الأول نشرته في صفحة تراث وتاريخ بجريدة الشروق...


 

المسألة العثمانية في التاريخ المصري

عماد أبو غازي

 أثير في السنوات الأخيرة جدال على صفحات الصحف حول توصيف الحقبة العثمانية في تاريخنا، ووصف ما حدث سنة 1517 عندما دخل سليم الأول مصر، هل نسمي هذا فتحًا أم غزوًا؟ وكان ذلك بمناسبة التعديلات التي دخلت على الكتب الدراسية في الصف الثالث الثانوي، واستخدام مصطلح الغزو العثماني بدلًا من الغزو العثماني؛ وانقسم المشاركون في هذا الجدل بين مؤيد للتعديل باعتبار أن الدولة العثمانية دولة أجنبية غزت مصر، ومعارض يعتبر أن الدولة العثمانية دولة إسلامية، وأن ما قامت به يعد فتحًا وليس غزوًا؛ وأساس هذا الجدل أن مصطلح الغزو أصبح يحمل دلالات سلبية في لغتنا المعاصرة، بينما يحمل مصطلح الفتح دلالات إيجابية.
 وهذا الموقف من المصطلحين يرتبط بوعينا وإدراكنا اليوم، فالقدماء لم يحملوا أيًا من المصطلحين بدلالات سلبية، فمعارك المسلمين في العهد النبوي كانت توصف بالغزوات، حتى فتح مكة تصفه كثيرًا من المصادر الإسلامية القديمة بغزوة فتح مكة، وسلاطين العثمانيين أنفسهم كانوا يحملون من بين ألقابهم لقب الغازي، إذًا لم تكن للمصطلح أي دلالة سلبية في العصور السابقة، فقد اكتسب المصطلح دلالاته السلبية في عصرنا الراهن، ولأننا الآن أصبحنا مختلفين حول ما فعله العثمانيون بمصر، هل كان دخلوهم حدثًا سلبيًا أم إيجابيًا؟ فقد أصبحنا مختلفين حول استخدام المصطلحين "الغزو" أو "الفتح" بعد تحميلهما بالدلالات المعاصرة الآن؛ فمن يرى في دخول العثمانيين مصر حدثًا سلبيًا يستخدم مصطلح "غزو"، ومن يراه حدثًا إيجابيًا يستخدم مصطلح "فتح".
 هناك اتجاهان أساسيان في النظر إلى الموضوع، اتجاه يرى أن ما حدث كان احتلالًا أجنبيًا للمنطقة العربية أضعفها وأدى إلى تدهور أوضاعها، وانتهى باحتلال القوى الاستعمارية الغربية لها، واتجاه ثاني يره مجرد تبدل في الأسر الحاكمة الإسلامية، حيث حل العثمانيون محل المماليك، مثلما حلت الدولة العباسية من قبل محل الدولة الأموية، ويرى أن الدولة العثمانية الفتية قد حمت المنطقة من التوسع الاستعماري الغربي لقرون.
 لكن للمسألة العثمانية في تاريخنا أبعاد أعمق من مجرد استخدام المصطلحات.
 لقد ساد لسنوات طوال اتجاه بين المؤرخين المتخصصين في العصر العثماني يسم ذلك العصر بأنه عصر للجمود والتدهور؛ فقد كان من المسلم به بين الباحثين المتخصصين، وكذلك بين المثقفين بشكل عام، أن الحكم العثماني للمنطقة العربية كان المسئول الأساسي عن تخلفها عن ركب التقدم، وإنه أدى إلي عدم تطورها لثلاثة قرون، تمتد من أوائل القرن السادس عشر إلي بدايات القرن التاسع عشر، وهي ذات القرون التي أنجز فيها الغرب نهضته الحديثة؛ وإذا كانت هذه الأفكار قد وجدت سندها العلمي القادم من الغرب في كتابات المستشرقين الأوائل الذين درسوا العصر العثماني، مثلما وجدته في النظرة الماركسية للتاريخ في صورتها الكلاسيكية وفي تنويعاتها الجديدة، فقد كان لتيارات الفكر السياسي العربي الحديث ـ خاصة التيار القومي العربي والتيار الليبرالي ـ دورهما في التهيئة لهذه الأفكار وتحقيق الانتشار الواسع لها، فقد كانا منذ البداية في صدام ومواجهة مع الدولة العثمانية، بهدف تحقيق الاستقلال عنها من ناحية، وبناء أسس للحداثة على النمط الأوروبي في مجتمعات منطقتنا العربية من ناحية أخري، ولما كانت الدولة العثمانية هي صاحبة السيادة الفعلية أو الاسمية على جل العالم العربي إلي العقد الثاني من القرن الماضي، فقد تحملت وزر ما آلت إليه أحوالنا حينذاك.
 إلا أن السنوات الثلاثين الأخيرة شهدت تحولات مهمة في النظر إلي العصر العثماني، فقد أصبحت فترة الاحتلال العثماني للمنطقة العربية من الفترات المثيرة للجدل بين المشتغلين بالدراسات التاريخية، حيث ظهرت مجموعة من الكتابات الجديدة التي حملت رؤية مختلفة لتاريخ مصر والمنطقة العربية في العصر العثماني، رؤية تستقرأ في ذلك العصر حركة عوضًا عن الركود، تطورًا بديلًا عن التدهور، وصحوة تنفي صفة الجمود عن تلك الحقبة، وكانت دراسة الباحث الأمريكي اليساري بيتر جران حول "الجذور الإسلامية للرأسمالية" ـ التي صدرت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي ـ رائدة في هذا المجال، ومؤسسه لاتجاه جديد في الدراسات العثمانية.
 ومثلما كان للرؤية التقليدية للعصر العثماني أسسها، كان للاتجاه الجديد أعمدته التي قام عليها، فمن ناحية ازدادت معرفتنا بذلك العصر مع ظهور مصادر تاريخية جديدة مكنتنا من التعرف على المزيد من تفاصيل الحياة في تلك الحقبة ومن إجراء دراسات علمية عميقة عنها ، وذلك بعد اكتشاف عشرات من المخطوطات التاريخية والأدبية والفقهية التي لم تكن معروفة من قبل، فضلًا عن  إتاحة آلاف الوثائق والدفاتر المالية والسجلات القضائية ـ التي تذخر بالبيانات الدقيقة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والقانونية ـ للباحثين، نتيجة لفتح خزائن الأرشيف العثماني والاهتمام بالأرشيفات العربية وتنظيمها وتيسير سبل الإطلاع فيها أمام الباحثين المتخصصين، ومن ناحية أخري كان لظهور مدرسة نقد الاستشراق واتجاهات ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية في الغرب أثرًا في توفير الدعم النظري للمدرسة العثمانية الجديدة، وبعيدًا عن تلك المدرسة الجديدة التي تحركت من منطلقات علمية، لا يخلو الأمر من بعد سياسي يرتبط بالصعود الجديد للتيارات الإسلامية في المنطقة العربية منذ سبعينيات القرن العشرين، والتي سعت دومًا لتبرئة ساحة الدولة العثمانية من كل ما نسب إليها من آثام، باعتبارها الامتداد "التاريخي" لدولة الخلافة الإسلامية، وتواكب مع ذلك المراجعات التي تتم بين الأكاديميين الأتراك، وانتشار أفكار تيارات الإسلام السياسي في تركيا، وقد كان لهذه الاتجاهات تأثير كبير داخل المجتمع بالإضافة إلى تأثيراته في الوسط الأكاديمي.
 إذًا فنحن أمام إشكالية لها أبعادها المتعددة؛ فهناك القدر المتاح من المعرفة بناء على ما هو متوفر من المصادر، والذي أدي بدوره إلي فرص أكبر للبحث في فترة تاريخية ظلت متروكة لسنوات، وهناك القراءات المتعددة للمصدر الواحد، تلك القراءات التي تتأثر بالنظريات المختلفة الجديدة في تفسير التاريخ، ثم يختلط بهذا وذاك البعد السياسي في القضية.

 لكن تبقى أسئلة تحتاج إلى إجابات بعيدًا عن خلفيات الصراع النظري حول العصر العثماني.

·        هل اعتبر المصريون المعاصرون للحدث في القرن السادس عشر العثمانيون غزاه محتلون أم اعتبروهم مجرد حكام جدد؟
·        هل أدت الحقبة العثمانية في تاريخنا إلى تطور المجتمع المصري أم إلى تدهوره؟

·        هل حمت الدولة العثمانية المنطقة من التوسع الاستعماري الأوروبي أم أضعفتها فأدت إلى سقوطها فريسة سهلة في أيدي المستعمرين؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...