الاحتلال العثماني لمصر
أسباب
ونتائج
(3)
عماد أبو غازي
كانت استجابة المجتمع المصرى فى العصر المملوكى للأزمة
سلبية وعاجزة؛ نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية، حددها تقي الدين المقريزي في ثلاثة
عناصر أعتبرها مسئولة عن المجاعات، وهي: فساد الإدارة السياسية في البلاد، وارتفاع
ريع الأراضي الزراعية مع ارتفاع تكلفة الزراعة، بالإضافة إلى انهيار النظام النقدى
وسيادة العملات الرديئة.
ومن الجدير بالملاحظة أن سياسات الدولة لحل
المشكلة الاقتصادية والمالية؛ تواكبت مع زيادة إنفاق الفئات العليا في المجتمع على
الاستهلاك الترفي، وزيادة إنفاق الدولة على الأعباء العسكرية، بصورة أصبحت معها
التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لتصرفات المماليك شديدة الوطأة على اقتصاد البلاد،
حيث أصبح المجتمع المصري قائمًا على تبديد فوائض إنتاجه بشكل مستمر،
تذكر المصادر
مظاهر عديدة لهذا البذخ في الإنفاق بالرغم من شدة الأزمة الاقتصادية، من ذلك على سبيل
المثال: ما ذكره ابن إياس في حوادث سنة 920هـ من قيام الغوري بنزهة في مصر العتيقة
والجيزة وبولاق؛ أنفق فيها كاتب سره على الغذاء في يوم واحد ما يفوق الألف دينار! ومنها
ما كان السلطان يقيمه من ولائم وأسمطة للأمراء ورجال الدولة، وما كانوا ينفقونه في
أعراسهم، علاوة على سبك العملة كحلي.
هذا وقد انعكست الأزمة الاقتصادية على الصعيد
الاجتماعي في صورة تزايد واضح في حدة الفوارق الطبقية في المجتمع، وقد لفتت هذه
الظاهرة إنتباه مؤرخي العصر؛ فرصدوها في كتابتهم،
كذلك رصد الرحالة الذين زاروا مصر هذه الظاهرة،
ففي الوقت الذي يصفون فيه حياة المماليك بالبذخ الشديد ويصفون ثراء قصورهم ودورهم،
فإنهم يصفون حياة العامة في المدن والفلاحين في الريف بالبؤس الشديد والفقر
المدقع.
ولعل الوثائق الخاصة شاهد أكيد على هذه الظاهرة،
فما فيها من وصف لقصور ودور المماليك وكبار رجال الدولة وكبار رجال الدين؛ يعكس
مدى رفاهية الحياة التي كان هؤلاء يعيشون فيها، في مقابل آلاف من السكان يعيشون
بلا مأوى!
وعلى مستوى آخر؛ شهد العصر المملوكي الجركسي
تفككًا واضحًا داخل إطار الطبقة العليا في المجتمع، فقد انهار النظام الاجتماعي
للمماليك الذي كان يعتمد على ولاء المماليك لأميرهم فيما عرف بعلاقة الأستاذية،
وارتباط المملوك بزملائه فيما يعرف بعلاقة الخشداشية؛ وعلاقة الأستاذية هى العلاقة
التى تربط الأمير (الأستاذ) بمماليكه الذين اشتراهم، وهى علاقة ولاء كامل، إذ كان إخلاصهم
له وحده دون غيره، أما الخشداشية فهي علاقة للزمالة بين المماليك، وكانت من أقوى الروابط
بينهم؛ إذ تجمع المملوك بزملائه الذين تربى معهم.
لقد تحللت هذه العلاقات بسبب السياسات الجديدة
التي أتبعت في دولة الجراكسة في شراء المماليك، فبدلًا من شراء المماليك أطفالًا
صغارًا وتربيتهم في الطباق، لجأ السلاطين والأمراء إلى شراء مماليك من الشباب
اليافع عرفوا باسم الجلبان، وذلك فى محاولة لتعويض الأعداد التي فقدت فى الفناء
الكبير. ومع انتشار هؤلاء الجلبان؛ بدأت علاقات الولاء داخل المجتمع المملوكي
تتفكك وتتهرأ.
كذلك كان
لاتجاه السلطان برقوق إلى الإكثار من الجراكسة وتوليتهم المناصب الأساسية في الدولة
أثره البالغ في طبع الدولة بطابع عنصري.
لقد كان من الطبيعي أن تؤثر هذه الأزمة
الاجتماعية على الوضع السياسي، فتنعكس في تفاقم وضع الانفصام بين الشعب المحكوم
والطبقة العسكرية الأجنبية الحاكمة، فتسود حالة من عدم المبالاة بمصير الدولة،
خاصة فى الريف، لقد كان رد فعل الفلاحين المصريين تجاه زحف سليم على البلاد؛ الامتناع
عن دفع الأموال للدولة خشية أن يعودوا لدفعها مرة أخرى إذ استولى سليم على البلاد.
وعندما دخلت الجيوش العثمانية إلى ريف مصر؛ بدأ المصريون
يشعرون بوطأة الغازي الجديد، فنزح المئات من أهل الريف إلى القاهرة، وعندما استقر الأمر
للعثمانيين؛ زادت ظاهرة هجر القرى هربًا من
ظلم موظفي الإدارة العثمانية والفرسان (السباهية) الذين أقاموا بالريف وفرضوا على أهله
المغارم.
ومن الجدير بالملاحظة أنه على الرغم من حدة
الفوارق الطبقية، والشعور العام بالسخط، وكراهية الشعب للمماليك، فإن كل حركات
المقاومة اتخذت طابعًا عفويًا، ومن ثم لم تقم أى حركة إيجابية لتغيير المجتمع.
لقد اتخذ التمرد والعصيان أشكالًا سلبية؛ كرفض
المجتمع والهرب منه، أو تشكيل جماعات من العياق والشطار والفتيان، وفى حالات أخرى
كون الخارجون على المجتمع عصابات تسطو على الأسواق فيما عرف باسم
"المناسر"، وربما كانت أقوى حركات التمرد والعصيان هى ثورات العربان
الذين عاشوا على أطراف الوادي والدلتا، ونجحوا فى الاحتفاظ لأنفسهم بوضع خاص طوال
العصر المملوكي احتفظوا فيه بحقهم في حمل السلاح، لكن ثورات العرب لم تكن وبالًا
على الحكام من المماليك فقط، بل كانت عواقبها تصيب الفلاحين المصريين كذلك، الذين
كانوا يعانون من العربان بمثل ما يعانون من حكام البلاد المماليك.
وعلى الصعيد
السياسى كذلك شهدت البلاد حالة من عدم الاستقرار في السلطة، فداخل النخبة الحاكمة؛
بلغت الصراعات على السلطة أشدها لدرجة أن أربعة عشر من سلاطين دولة الجراكسة قتلوا
أو عزلوا؛ لقد خلع من الحكم كل من : المنصور عبد العزيز بن برقوق، ويشك المؤرخون فى
أنه قتل، والناصر فرج بن برقوق وقد قتل، ثم الخليفة المستعين بالله الذى تسلطن فى سنة
824هـ، و المظفر أحمد بن المؤيد شيخ، ومحمد بن ططر، و العزيز بن برسباى، والمنصور عثمان
ابن جقمق، والمؤيد أحمد بن إينال، والظاهر يلباي، والظاهر تمربغا، والأشرف محمد بن
قايتباي وقد مات مقتولًا، والظاهر قانصوه، والأشرف جانبلاط، والعادل طومان باي وقد
مات مقتولًا، هذا بخلاف من سعوا إلى السلطنة ولم يتمكنوا منها تمكنًا كاملًا؛ وهما:
خير بك سلطان ليلة، وقانصوه خمسمائة.
وبلغ من تولوا السلطنة فى السنوات الست الأولى
من القرن العاشر ستة سلاطين: بدأ القرن العاشر الهجرى والأشرف قايتباي سلطانًا، وتولى
بعده ابنه محمد، ثم الظاهر قانصوه، ثم الأشرف جانبلاط، فـالعادل طومان باي، فـالأشرف
قانصوه الغوري.
ولم تتجاوز فترات حكم كثير من سلاطين الجراكسة
شهورًا قليلة؛ بل إن بعضهم لم يتح له تولى السلطة إلا لساعات! ففى سنة 824 هـ تولى
العرش أربعة سلاطين، وفى سنة 872 كذلك، ولم تتجاوز مدة حكم 12 من سلاطين الجراكسة
سنة واحدة؛ ولذا فقد كان استقرار الغوري في السلطنة لستة عشر عامًا استثناءً فريدًا
لم يتكرر كثيرًا فى تاريخ هذه الدولة.
ولم يقتصر الاضطراب والصراع بين المماليك على
القمم العليا فى هذه الطبقة؛ بل امتد ليصل إلى المماليك الصغار؛ لقد عرف عصر الجراكسة
عشرات من حالات التمرد التي يقوم بها المماليك ـ خاصة الجلبان ـ احتجاجًا على
التأخير فى صرف جوامكهم، أو على إنقاص هذه الجوامك.
وكان لهذه الثورات والاضطرابات السياسية آثارها
السلبية على الوضع الاقتصادى؛ فإذا كان معظم هذه الثورات والإضرابات قد نجم عن سوء
الأوضاع الاقتصادية، فقد دفعت من ناحية أخرى بالوضع الاقتصادى إلى الهاوية، إذ
عندما تقع هذه الاضطرابات في الريف، كانت تؤدي إلى مزيد من هجر الفلاحين للأراضي،
أما إذا وقعت في المدن، فكانت أولى نتائجها إغلاق الأسواق وتخريبها، أوردت المصادر
التاريخية كثيرًا من التفاصيل حول الصراعات داخل قمم طبقة المماليك، كما أوردت أخبار
حالات عديدة لتمرد المماليك وثوراتهم ضد السلاطين وانعكاسها على الحالة الاقتصادية،
وعن الصراعات بين كبار الأمراء.
وامتدت مظاهر الاضطراب والفساد إلى الإدارة
الحكومية للبلاد. فأصبحت الوظائف تولى بالرشوة أو تشترى من السلطان، وبالتالي أصبح
من يلي الوظيفة هو من يقدر على الدفع لا من يصلح للقيام بمهامها، كما أصبح الهم
الأول لموظفي الدولة استعادة ما دفعوه للسلطان أو لكبار الأمراء حتى يصلوا إلى هذه
الوظائف، ومن ثم فقد بالغوا في فرض المغارم والرسوم على الأهالي حتى يعوضوا ما
دفعوه، وذلك في وقت كانت حالة غالبية الناس تسير من سيئ إلى أسوأ؛ ولا تحتمل فرض أي
أعباء جديدة.
هذا وقد
امتدت ظاهرة تولي الوظائف بالرشوة إلى القضاة، فأصبح تولي منصب قاضى القضاة رهنًا
بما يدفعه الساعي إلى الوظيفة من مال للسلطان حتى أن ابن إياس يذكر واقعتين تولى
فيهما القضاة وظائفهم بغير رشوة دفعوها باعتبارهما من النوادر، ولجأ القضاة إلى تعويض
ما دفعوه من المتقاضين أو إلى تعيين أعداد كبيرة من النواب أكثر من الحاجة في
مقابل مبالغ من المال يدفعها هؤلاء النواب لهم، فدخل بذلك الفساد إلى القضاء.
وهكذا أصبح الراغب فى قضاء حاجة من حاجاته مطالبًا
أن يقدم لعمال الدولة وقضاتها مقابلًا ماليًا أخذ في التزايد مع اشتداد الأزمة، بل
إن التجار والزائرين الأجانب كانوا مضطرين لدفع رشاوى لكبار رجال الدولة ليضمنوا
معاملة طيبة منهم، لكن أخطر ما فى الأمر هو امتداد ظاهرة الرشوة إلى تولي المناصب العسكرية،
الأمر الذي زاد الجيش المملوكي ضعفًا على ضعف.
لقد كان انهيار القوة العسكرية للجيش المملوكي في
العصر الجركسي أمرًا واضحًا للعيان وله أسبابه المتعددة، فقد خرجت مصر من الوباء
الكبير وقد فقدت قسمًا كبيرًا من سكانها، ومن بين من فقدتهم قطاعات من الجيش
المملوكي، وكانت الأزمة الاقتصادية الطاحنة عاملًا ثانيًا أضعف الجيش من ناحية، وقيد
قدرة سلاطين المماليك على تعويض من فقدوهم من مماليك بشراء مماليك جدد، كما قيدت
كثرة الأوقاف في الأراضي الزراعية أيديهم في منح الإقطاعات العسكرية،
ثم كانت
الحروب المتوالية في مطلع القرن التاسع الهجري، فزادت الجيش إنهاكًا على إنهاكه،
وأخيرًا كانت أدى الاعتماد على شراء مماليك بالغين في بناء الجيش إلى انهيار
تقاليد وقواعد الفروسية المملوكية؛ خاصة بعد أن سمح السلاطين لمماليكهم بسكنى
المدينة ومغادرة الطباق.
ولعل ما سجله ابن إياس من تدهور في
أوضاع أجناد الحلقة؛ وضعف قدرتهم العسكرية لدرجة عجز معظمهم عن شد وتر القوس،
يدلنا على مدى ما وصل إليه أمر هذا الجيش من انهيار وضعف، وبعد ذلك يمكننا أن
نتفهم بسهولة لماذا كان التقاعس عن القتال والهروب من الميدان سمتين غالبتين في
جيش الغوري، ثم في جيش طومان باي عند مواجهتهما للعثمانيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق